بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ، لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك ؛ فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة {البقرة} ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته ) ..
[ رواه مسلم وصححه الألباني في صحيح الترغيب و الترهيب / 1456 ] ..
التفسير البياني لسورة الفاتحة
معنى ( الْحَمْدُ) الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال , فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية , كالعلم والصبر والرحمة والشجاعة أو على عطائه وتفضله على الآخرين , ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل .
فالحمد فيه تعظيماً وإجلالاً ومحبةً ما ليس في المدح.إنك قد تمدح جماداً وقد تمدح حيواناً ولكن لا تحمده .فقد تقول كلاماً في مدح الديك أو الذئب , وقد تمدح اللؤلؤ والألماس , ولكن لا تحمده , فقد يكون المدح للعاقل ولغير العاقل , اذاً المدح أعم من الحمد.ولهذا كان اختيار الحمد اولى من المدح .
الفرق بين الحمد والشكر
أن الحمد يعم ما إذا وصل الإنعام إليك أو لغيرك , وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك , فأنت تشكر الشخص إذا أوصل إليك نعمة , وأما الحمد فإنك تحمده على إنعامه لك , أو لغيرك.فالحمد أعم من الشكر , ولهذا كان اختياره أولى .
قال : الحمد لله , ولم يقل أحمد الله , او نحمد الله
الْحَمْدُ لِلَّهِ أولى لأنها مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا أولى , فإنك إن قلت: ( أحمد الله ) اخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أن غيرك حمده , وإذا قلت: ( نحمد الله )
أخبرت عن المتكلمين فقط ولم تفد أن غيركم حمده ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الاطلاق , منك ومن غيرك.وهي عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كونه سبحانه مستحقا للتعظيم والاجلال , جاء باسمه العلم ( الله ) ولم يأتي بصفة , فلم يقل مثلا ( الحمد للخالق )أو الرازق او اي صفة من صفاته سبحانه , لأنه لو جاء بأحد الصفات , سيفهم من ذلك أنه استحق الحمد بسبب هذه الصفة , فلو قال ( الحمد للعليم ) لفهم أنما استحق الحمد بوصف العلم . لفظ الجلالة ( الله ) مناسب لقوله تعالى ( إياك نعبد ) فهو مناسب للعبودية ,فقد اقترنت العبادة بلفظ ( الله ) اكثر من خمسين مرة .(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ)الزمر (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ)الرعد.
رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرب : المالك , والسيد , والمربي , والمنعم , والقيّم , رَبِّ الْعَالَمِينَ : سيدهم ومالكهم , ومربيهم , والمنعم عليهم
العالمين : جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ,العالمين : لا تطلق إلا على ذوات العلم خاصة , أو على ما اجتمع فيه العقلاء , فَيُغلّب العقلاء ولا يطلق العالمون على غير العقلاء وحدهم , فلا يقال للحشرات والطيور عالمين , بل عالم وعوالم .ويقال للبشر او لجماعة من البشر او لجيل من البشر او للمكلفين من خلق الله من الانس والجن ( عالمين )
ذلك ان الجمع بالياء والنون خاص بالعقلاء .
فهو رب البشر والخلق كله , وغلّب العقلاء منهم ولهذا التخصيص ( العالمين ) سببه , ذلك أن الكلام في سورة الفاتحة خاص بالعقلاء , العبادة , والاستعانة , وطلب الهداية الى الصراط المستقيم , وتصنيف الخلق الى مُنعم عليهم ومغضوب عليهم , وضالين , هو خاص بالمكلفين , وأيضا فيه رد على اليهود الذين يدّعون أن الله رب بني اسرائيل خاصة وليس رب الاخرين من البشر فرد عليهم بقوله انه رب العالمين من سائر البشر والمكلفين وهي مناسبة لقوله ( اهدنا الصراط المستقيم ) لأن المهمة الأولى للمربي هي الهداية , ولذلك اقترنت الهداية بلفظ الرب في القران كثيرا . (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)طه (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)طه (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)الاعلى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)الأنعام (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)ال عمران (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)الشعراء
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمَنِ : على وزن فعلان , من الرحمة , تفيد الدلالة على الحدوث والتجدد , مثل :عطشان , جوعان , غضبان
الرَّحِيمِ : على وزن فعيل , من الرحمة , تفيد الثبوت في الصفة مثل : طويل وجميل وقبيح أو تفيد التحول في الوصف إلى ما يقرب من الثبوت مثل : خطيب وبليغ وكريم فجاء بالوصفين للدلالة على ان صفته الثابتة والمتجددة هي الرحمة للاحتياط في الوصف , فرحمته دائمة لا تنقطع , فلو وصف نفسه بأنه رحيم فقط لوقع في النفس أن هذا وصفه الثابت ولكن قد ياتي وقت لا يرحم فيه
فالخطيب ليس خطيبا في كل حالاته , كذلك الكريم , ولو قال رحمن فقط لقيل أن هذا الوصف غير ثابت كالعطشان يتحول ويزول العطش , فجمع بينهما ليدل على أن وصفه الثابت والمتجدد هو الرحمة .
جاءت الرحمة بعد رب العالمين إشارة إلى أنه سبحانه رحيم بعباده , فتنبسط نفوس العباد ويقوى أملهم برحمته وأيضا فيه إشارة إلى أن المربي ينبغي أن يتحلى بالرحمة على من يربيهم ويرشدهم .
مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
وفي قراءة ( مَلِكِ يوم الدين ) أُنزلت القراءتان لتجمعا بين معنيي المالك والمَلِك , فيكون مالكاً مُلْكاً (مَالِكَ الْمُلْكِ) ال عمران , فالمُلك للمَلِك لا للمالك .
يوم الدين : يعني يوم الجزاء وله معان كثيرة , ومالك يوم الجزاء هو مالك ما قبله من أيام العمل , وإلا فكيف يجزي على ما ليس مالكا له ؟
لم يقل يوم القيامة , وذلك مراعاة للفاصلة وترجيحا للعموم , فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم , فيوم الدين هو يوم الدين كله , يوم الحساب وهو يوم الجزاء وهو يوم الطاعة والخضوع لله , وهو يوم يعزُ فيه أهل الطاعة ويقهر فيه أهل المعصية , فهو يوم إعلا الدين , ويوم القيامة لا يؤدي هذه المعاني
أضاف الملك إلى اليوم وذلك لقصد العموم , فمَلك اليوم هو مَالك لما فيه ومن فيه , فمكلية اليوم هي ملكية لكل ما يجري ويحدث في ذلك اليوم ولكل مافي ذلك اليوم , وتخصيص اليوم بالاضافة للتعظيم أو لأن المُلك والمَلِك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس يزولان وينفرد الله سبحانه في ذلك اليوم انفراداً لا خفاء فيه ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )
فاقتران الحمد بهذه الصفات أحسن اقتران , فان الله محمود بذاته وصفاته وهو المستحق للحمد , وانه محمود بربويته للعالمين وهو محمود كونه رحماناً رحيماً , فهو يضع الرحمة في محلها وليست كل رحمة محمودة , فإذا وضعت الرحمة في غير محلها كانت عيباً في صاحبها.
استغرق الحمد الازمنة كلها , فقد استغرق الحمد حين كان الله ولم ويكن معه شيئ وهو قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) واستغرق الحمد حين خلق العالم وربّه وانشأه وهو قوله (رَبِّ الْعَالَمِينَ ) واستغرق الحمد وقت كانت رحمته تنزل ولم تنقطع ولا تنقطع وهو قوله (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )واستغرق الحمد يوم الجزاء كله , ويوم الجزاء لا ينتهي , لأن الجزاء لا ينتهي , فأهل الجنة خالدون فيها , وأهل النار خالدون فيها , وجزاء كل منهم فيها غير منقضٍ فذلك يوم الدين , فاستغرق الحمد الزمن كله من الأزل إلى الابد ولم يترك منه شيئاً
فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى ( أم الكتاب )