عجيبة هي الأقدار,كم تسري سفينة حياتنا في بحارها إلى حيث لا ندري !...وكم نتوقع أن نضحك فيها فإذا بنا نبكي!,وكم من يومٍ كنا نتوقع أن نبكي فيه فإذا بالبسمة ترتسم على شفاهنا,ونشوة الفرح تغمر أرواحنا!.. الأقدار,وما أدراك – أيها القارىء الكريم- ما الأقدار؟! سرورٌ عند قوم,وحزنٌ عند آخرين,حياةٌ عند قوم,وموت عند آخرين ,شقاء وبؤس عند أناس,ونعيم وحبور عند آخرين,نجاحٌ عند قومٍ ,وفشل عند آخرين...
عجيبة هي الأقدار....تحمل,ولا ندري ماذا تلد,كما قالوا:
إن الليالي والأيام حاملةٌ وليس يعلم غير الله ما تلدُ
الأقدار تزرع ولا ندري متى سنحصد ؟ وتمشي بنا على درب الحياة,ولا ندري إذا كنا سنصل إلى نهاية الطريق ,أم أن السبل ستفرق بنا؟وبالأقدار ننتظر مسافراً,ولعله لن يعود! ويأتينا غائب ما كنا نرتجي أن يعود,بل كنا نظن أنه ملقى في غياهب الزمن,وفي سجن المجهول...
ومن عجائب الأقدار أنها خزائن الأعمار,وأنها لا تصل إلينا إلا بتعاقب الليل والنهار...فتُعِزُّ ذليلاً وتُذل عزيزاً,وتغني فقيراً,وتفقر غنياً,وتشفي مريضاً,وتُمرض صحيحاً,وتأخذ من بيننا حبيباً وتخلف لنا حسوداً,تأخذ مخلصاً,وتُبقي خائناً,تخطف من بيننا عالماً,وتترك لنا من بعده رؤوساً جهّالاً يُفتون بغير علم فيضِلّون ويُضلّون...
عجيبة هي الأقدار ,ننسج آمالاً بخيوط الأماني,فتنقض الأقدار ما غزلناه,وتمزّق ما نسجناه...كم بدّدت الأقدار أحلامنا وآمالنا,فتلاشت وانتثرت,ولم نستطع جمعها في عِقد الحياة من جديدٍ.
الأقدار هي التي تأخذ من بيننا طفلاً بريئاً كان يخطط لمستقبل ملؤه السعادة,ويومه شهد,وليله هناء,ووِردُهُ عسلٌ مصفّى من السعادة...والأقدار هي التي تواري وجه أمٍّ رؤوم عن أولادها خلف حجاب الثّرى ولكن إلى حين,فهل ستجمع شملهم من جديد؟
وهنا يلوح في خاطري قول القائل:
وما الدهر إلا جامع ومفرق
وما الناس إلا راحل ومودّع
فإن نحن عشنا يجمع الله شملنا
وإن نحن مِتنا فالقيامة تجمع
عجيبة هي الأقدار,نرى شخصاً في المسجد خاشعاً ضارعاً متبتلاً,وبالأمس كان في عداد الأشقياء الذين يعيشون حياتهم بلا هدف,وتمضي بهم مطايا أيامهم في لهو وعبث ولا مبالاة...
وفي الوقت ذاته قد نرى عابداً كان ملازماً للمسجد والتقى والفضيلة,فإذا به - وبلحظة غفلة- قد جُرف بأتيّ المعاصي,وغرق في بحار الآثام..
الأقدار شمس تُشرق,ولا تدري هل سترنو إلى غيابها أم لا؟! وبدر ينير ولا تدري أتسامره وتساهره من جديد أم لا؟وشجرة تزهر,وقد لا ترى ثمارها,وسحابة تمطر وقد لا يبللك طلّها,بل قد تسقي تلك السحابة ثرى قبرك بالماء والثلج والبرد,ويبكي عليك الأبوان والأخ والولد...
الأقدار هي التي تُخبىء للفتاة زوجاً ينغص عليها عيشها وحياتها,ويسقيها من لُجج العذاب غُصصاً في كؤوس من العلقم المرير...وهي التي تحمل للفتاة زوجاً وفياً محباً مخلصاً,يصوغ لها من أيامها عقداً لؤلؤياً في سِمط السعادة,وياسمين السرور,ويجعل من سنوات حياتها جنان نعيم وارفة الظلال...
والأقدار هي التي تخبىء بين حناياها أمّاً ستغدو ثكلى,وطفلاً سيرتوي حتى التضلّع من أقداح اليتم والبؤس....ورجلاً سيتنقل من مأساة لتتلقفه مأساة أخرى...والأقدار تحمل في طياتها ضاحكاً سيبكي دماءً حرّى,ودموعاً سيّاحة من سحابة البلابل والدواهي التي تتحفز إليه...وباكياً سيرفل أثواب البسمة,وينتشي قلبه وتطرب روحه...
عجيبة هي الأقدار في جمعها بين المتناقضات مع أن الزمن واحدٌ,والمكان واحد,وحامل الأقدار واحد.
.....وختاماً:عجيبة هي الأقدار,والأعجب منها أن المؤمن قد روّض نفسه عليها فمع المصيبة ورده وذكره: (إنا لله وإنا إليه راجعون),ومع الفرحة يلهج لسانه بـ (الحمد لله رب العالمين),وفي كل أحيانه يردد: قدّر الله,وما شاء فعل.