[center]بسم الله الرحمن الرحيم
هذا تقسيم ظهر لي بالتأمل في ما جاء في الأشعار من التشبيه المعكوس، أذكره باختصار.
اعلم أن التشبيه المعكوس يجيء على ضربين:
1 - الضرب الأول أن يكون الشاعر يصف شيئا فيريد أن يشبهه بشيء يفوقه، فيعكس التشبيه مبالغة ويشبه الأعلى بالأدنى.
فمن ذلك قول رؤبة -وهي غير الرواية المشهورة-:
ومهمه مغبرة أرجاؤهُ كأن لون أرضه سماؤهُ
فهذا يصف مهمها قد اغبرت أرجاؤه، وانتشر الغبار في سمائه حتى صار لونها يشبه لون الأرض من كثرة ما في الجو من الغبار، فأنت ترى أنه يصف غبرة الأرجاء والسماء، فهي المقصودة بالتشبيه، فكان الوجه أن يقول: كأن لون سمائه لونُ أرضه، أي: من كثرة الغبار في السماء.
ثم عكس التشبيه مبالغة، كأن الغبار في السماء صار أكثر منه في الأرض، فقال: كأن لونَ أرضه لونُ سمائه، ثم حذف المضاف، فقال: كأن لونَ أرضه سماؤه.
وإنما قلنا: عكس التشبيه، لأنه في الأصل لم يرد أن يشبه لون الأرض بشيء، وليس كلامه في وصف الأرض، إنما كلامه في وصف السماء إذ كان يصف أرجاء الجو وما فيها من الغبار، فكان أصل الكلام: ومهمة مغبرة أرجاؤه كأن لون سمائه مما استطار فيها من الغبار لون أرضه، ثم عكس وحذف.
ومثله قول أبي النجم العجلي:
كأن ريحَ المسك والقرنفل نباتُه بين التلاع السُّيَّلِ
فالرجل إنما يصف الأرض وما فيها من النبت، فكان أصل الكلام:
كأن ريح نباته ريح المسك والقرنفل، فعكس التشبيه مبالغة، كأن ريح النبت فاق ريح المسك في الطيب، فقال: كأن ريح المسك والقرنفل ريح نباته، ثم حذف المضاف، فقال: كأن ريح المسك والقرنفل نباتُه.
فهذا مثل بيت رؤبة في العكس وفي حذف المضاف.
ومن هذا الضرب تشبيه الشمس بوجه المرأة، فهذا معكوس للمبالغة، لأن الشمس تفوق وجه المرأة في النور والصفاء، فشبهوا الأعلى بالأدنى مبالغة.
2 - أما الضرب الثاني فليس فيه تشبيه عال بأدنى منه ولا عكس ذلك، إنما هما شيئان متشابهان متساويان، فليس العكس فيه للمبالغة وإنما العكس فيه عكس للتشبيه المشهور، وليس عكسا أريد به المبالغة، لأن كل واحد منهما يساوي الآخر وليس أحدهما فائقا الآخر في الوجه الذي مدار التشبيه عليه.
وذلك مثل قول ذي الرمة يصف فراخ النعامة:
كأنما فُلِّقت عنها ببلقعة جماجمٌ يُبَّس أو حنظلٌ خَرِبُ
فشبه القيض لما تكسر وهو قشر البيض الأعلى بجماجمَ فُلِّقت، والمشهور عكس ذلك، يشبهون فلق الجماجم بفلق البيض، كما قال رؤبة:
والهامُ كالقَيض يطير فِلَقا
ومن غريب ما جاء من هذا الضرب قول طهمان بن عمرو الكلابي -وهو شاعر أموي-:
وسرادق رفعته لصحابة ليظلهم باتوا بليل ساهر
ضاح كأن رواقه وكفاءه سقطان من كَنَفَي ظليم نافر
فشبه السرادق بجناحي الظليم، والمشهور عكس هذا التشبيه، كما قال ذو الرمة:
شخت الجزارة مثل البيت سائره من المسوح خِدَبٌّ شَوقَبٌ خَشِبُ
وكما قال علقمة بن عبدة:
صعل كأن جناحيه وجؤجؤه بيت أطافت به خرقاء مهجوم
فالضرب الأول سمي معكوسا لأنه شبه الأعلى بالأدنى، وهذا في الحقيقة عكس للتشبيه المشهور، لأن المشهور أن يشبه الأدنى بالأعلى، فهو يُشبه الضرب الثاني من هذا الوجه، لكن الثاني يفارقه في استواء الشيئين، وأنه ليس فيهما عال ودون، وإنما سمي معكوسا لأنه جاء به على عكس التشبيه المشهور.
ولكل واحد من الضربين شواهد كثيرة جدا في أشعار القدماء والمحدثين، وتحتها فوائد كثيرة وفروق لطيفة.
والله أعلم
منقول للفائدة
.
[/cent