title="منتديات التربيه الاسلامية جنين - منتدى اللغة العربية وآدابها - RSS Feed" href="external.php?type=RSS2&forumids=54" /> من دلالات الكلام
  الرئيسية التسجيل خروج  

صفحتنا على الفيس  بوك  صفحتنا على  اليوتيوب  صفحتنا على تويتر  صفحتنا على جوجل  بلس

منتديات التربية الاسلامية جنين ترحب بزوارها الكرام ،،،، اهلا وسهلا بكم ولطفا يمنع نشر اي اعلان او دعاية تجارية هنا مع جزيل الشكر كلمة الإدارة


   
العودة   منتديات التربيه الاسلامية جنين > الأقــســـام الــعـــامــة > منتدى اللغة العربية وآدابها
التسجيل مركز التحميل الروابط الإضافية المجموعات التقويم مشاركات اليوم البحث
   

آخر 10 مشاركات كيف اختار طبيب تقويم اسنان مناسب لطفلي (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          من دلالات الكلام (الكاتـب : - مشاركات : 9 - المشاهدات : 10 )           »          الربح من التدوين (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          القلق والتوتر (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          القلق والتوتر (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          مجالات التدوين (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          الفرق بين زراعة الأسنان الفورية والتقليدية (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          مشروع كوافير رجالي (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          كيفية علاج التهابات سقف الحلق: الأسباب والعلاجات (الكاتـب : - آخر مشاركة : - مشاركات : 1 - المشاهدات : 2 )           »          ورقة عمل اللام في لفظ الجلالة (الكاتـب : - آخر مشاركة : - مشاركات : 16 - المشاهدات : 17 )


من دلالات الكلام

منتدى اللغة العربية وآدابها


 
   
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
   
المشاركة السابقة   المشاركة التالية
 
 رقم المشاركة : ( 9 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 9
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 04-03-2024 - 05:52 PM ]


وذلك حِفْظٌ قد أُطْلِقَ ، فاستغرق المبنى والمعنى ، فليس حفظ المبنى الذي لا معنى له في الخارج يعدل ، فإن المبنى لا يُرَادُ لِذَاتِهِ ، وإلا كان الصوتَ المجرَّد الذي لا مدلول له في الخارج يَثْبُتُ ، فيكون من ذلك تفكيك يواطئ ما اقترحت الحداثة بَعْدًا إذ نَسَخَتْ ، كما يقول بعض من حقق ، يقينا في النفس قد استقر بما اشتهر من عرف اللسان في الاستدلال ، فصيرت الكلام وألفاظه : الدوال بلا مدلولات ، فَثَمَّ من ذلك لفظ قد جُرِّدَ من المعنى ، فصار صَوْتًا يُلْفَظُ دون مدلولٍ في الذهن يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ إلا الصوت المجرد الذي يضاهي صوت الحيوان الأعجم ، فهو يصدر أصواتا لا مدلول لها في الخارج ، فَثَمَّ من حكاية الصوت ما لا يجاوز الحروف المقطعة ، فآلة الصوت في الحيوان موجودة ، ولكنها لا تَعْدِلُ أخرى أخص في الإنسان ، فهي آلةُ نُطْقٍ تُفْهِمُ ، إذ ثم من المعنى ما يحصل في العقل أولا ، وهو ما استقر في الجنان المجاوز للأبدان ، فليس القلب الذي يُدْرَكُ بالحس ، وبه الدم إلى الأعضاء يُضَخُّ ، بل ثم آخر أَلْطَفُ في الماهية ، فتلك الماهية الروحية ، ماهية الجوهر اللطيف الذي حَلَّ في البدن ، فحصل منهما تجاور بل وتداخل ، وبهما ماهية الإنسان المكلَّف تَثْبُتُ ، فليستِ البدنَ المحسوسَ مجرَّدًا ، فتلك آلة في الخارج لا بد لها من علم وإرادة تسبق ، فعنها الآلة تصدر ، إن في الفعل أو في الترك ، فلا تُوَلِّدُ الآلةُ المعاني الباعثةَ من نفسِها ، بل لا تنفك تطلب لذلك مرجعا يجاوز من خارجها ، فَثَمَّ الروح اللطيف ، وهي مناط العلم والإرادة ، التصور والحكم ، فَلَهَا من المدارك ما دَقَّ ، وبها يكون الإيمان بالغيب الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، فآلات البدن لا تجاوز في الإدراك المحسوسَ في الخارج ، فلا تجاوز عالم الشهادة الذي يتناوله البحث والتجريب ، وهو ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، لا يجاوز الظاهر فلا يتناول الحقائق الذاتية ، بل ثم من ذلك ما دَقَّ ، ولو في عالم الشهادة فكيف بالغيب المجاوز الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهر ، وإن النسبي الذي كشف عنه التجريب والبحث بعدا ، فلم يكن الجهل به مبدأ الاستدلال ، لم يكن حجة في الباب ، فيكون عَدَمُ العلمِ عِلْمًا بالعدم ، بل عدم العلم مما يوجب التوقف حتى يكون ثم إثبات أو نفي ، فمثله كمثل الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح في الخارج لِيَكُونَ منه وجود تال في الخارج يصدق ما كان أولا من وجودٍ في العلم المقدَّر ، فثم وجود قوة لا ينفك يطلب المرجح لِيَصِيرَ منه وجودُ فعلٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، فَكَذَا إِثْبَاتُهُ بَعْدَ أن يوجدَ ، فهو ، أيضا ، يطلب الدليل المثبِت ، فمن الجائز ما يطلب الدليل الموجِد الأول الذي يُرَجِّحُ من خارج فلا يكون التحكم في الباب ترجيحا بلا مرجح ، فيكون من ذلك إيجاد بلا موجِد ، فذلك مما يخالف عن بدائه العقل المصرح ، فمن الجائز ما لا يوجد مبدأَ الأمرِ إلا أن يكون ثَمَّ سبب من خارج يُوجِدُ ، فهو يُرَجِّحُ في أول قد استوى طرفاه في الاحتمال ، ووجوده في الخارج مما لا يلزم منه شهوده ، بل ثم منه ما قد غَابَ ، فلا ينفك يطلب الدليل المثبِت ، وإلا كان تحكم آخر أن يكون الإثبات بلا مثبِت ، وليس عدم العلم بالدليل المثبِت ، ليس علما بالعدم ، بل قد يوجد المغيَّب في الخارج ، ولا يحصل دليل وجوده لدى مستدِلٍّ ، فليس له أن يجتج بجهله على مَنْ عَلِمَ إذ حصل له من الدليل ما لم يحصل للأول ، فكذا العقل والحس في حَدٍّ ، فجهلهما بالدليل الذي يُثْبِتُ المغيَّب الذي يجاوز مداركهما ، وهو الخبر من خارج ، ذلك الجهل ليس بحجة على من بَلَغَهُ الخبر المصدَّق ، فأثبت من الغيب ما جاوز العقل والحس ، لا أنه من المحال الذاتي الذي يمتنع ، بل هو يدور بين الواجب والجائز ، وإنما عجز العقل والحس عن إثباته ، فلو أَثْبَتَاهُ ، بادي الأمر ، لكان من الشهادة ، وليست محل النِّزَاعِ ، وإنما المحل ما كان من الغيب ، فالعقل والحس يعجزان عن دركه ، فلا ينفك كُلٌّ فيه يطلب الدليل المثبت في الخارج ، وهما ، بعدا ، يحاران في حقيقة الغيب المطلق في الخارج ، وإن لم يحيلاها فهي مبدأ النظر من الواجب أو الجائز ، كما صفات الخالق الأول ، جل وعلا ، فهي مما يدور بين الواجب من الكمال المطلق ، أو آخر جائز كما الصفات الخبرية التي لا تثبت إلا بالنص ، وكذا جملة من الأوصاف الفعلية ، فَثَمَّ في الباب واجب أو جائز ، فالعقل يَتَنَاوَلُ كُلًّا مبدأَ النظرِ ، ولكنه لا ينفك يطلب دليلا يُفَصِّلُ ما أُجْمِلَ من الواجب الضروري الذي ثبت في النفس بما رُكِزَ فيها من قوى في النظر تصرح وأخرى في الفطرة تَنْصَحُ ، ولا ينفك يطلب دليلا يُثْبِتُ ما حصل من الجائز في الخارج ، فالدليل لم يُؤَسِّسْ من الحقائق ما لم يكن ، وإنما هو لها يُثْبِتُ إِثْبَاتَ الكشفِ عَمَّا غاب ، بادي الرأي ، وذلك ما اقتصر في الغيوب المطلقة على المعاني المجردة في الذهن دون الحقائق في الخارج ، فالمعاني محكمة لا يحيلها العقل ولا يحار في دَرَكِهَا فهي مما يتناولها تَنَاوُلَ الإطلاق والتجريد ، والحقائق في الخارج ، من وجه آخر ، متشابهة فلا تُدْرَكُ بالعقل أو بالحس ، وإن ثَبَتَتْ بدليلٍ من خارجهما يجاوز ، وهو الخبر الصادق ، فذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما يقتصر فيه النظر على إثبات الوجود ، لا إثبات الكيفية ، فالأخيرة من المتشابه الذي يحار العقل في دَرَكِهِ ، إذ لم يشاهده ، ولم يشاهد نظيرا له في الخارج يضاهي ، ولم يأته من الخبر ما يصدق إذا عالج من حقيقته في الخارج ما يدرك بالحس المحدَث ، فهو يحار في حقيقته ، وإن لم يُحِلْهُ ويمنع ، فهو ، كما تقدم ، يدور بين الواجب والجائز ، وكذا يقال في الغيوب النسبية ، وعليها تقاس الغيوب المطلقة ، فإن الغيب النسبي لا يدرك مبدأ النظر ، وليس عدم العلم به دليلا على العدم في نفس الأمر ، فَقَدْ ثَبَتَ بَعْدًا بما كان من آلة تجريب وبحث لم تكن مبدأَ الاستدلالِ بالحاسة المجردة ، فلم يكن جهلها إذ تَقْصُرُ مَدَارِكُهَا ، لم يكن جَهْلُهَا دليلًا على مَنْ عَلِمَ بَعْدًا إذا حصل له من الآلة ما ينصح ، وكان من العلم الحادث بَعْدًا ما يكشف عن حقائق قد ثَبَتَتْ قَبْلًا ، فالعلم لم يوجدْها وإنما كشف عنها ، فكذا الغيوب المطلقة ، فالخبر المجاوز من خارج قد كشف عنها فلم يكن منه دليل إيجاد وتأسيس ، بل الحقائق قد ثَبَتَتْ قَبْلًا ، ولم يكن الجهل بها قبل ورود الدليل من الخبر المصدق ، لم يكن دليلا على آخر يَعْلَمُ بما حصل له من الدليل المعتبر ، وهو في الغيب المطلق : الخبر المصدَّق ، كما هو في الغيب النسبي : آلة البحث والتجريب .
والشاهد أن ثم من المعاني ما يلطف ، وهو مما يجاوز البدن الذي يكثف ، فالمعنى يحصل له من خارج ، إذ يقوم بالروح اللطيف ، وهو مبدأ في التصور والحكم ، فيكون من ذلك مُؤَثِّرٌ من خارج البدن ، فهو التصور الباطن الذي يَسْبِقُ الحكمَ ، ومن الحكم ما بَطَنَ بما يكون من تصديق أخص ، فهو مما يجاوز العرفان المحض ، فَثَمَّ من التصديق ما يرجح ، وهو في الفعل أول ، إذ به الترجيح المعتبر ، وبه إثبات وقبول ويقين يجزم بعد أول من المحل قد حَصَّلَ الاعتقادَ فطرةً أولى تَنْصَحُ ، فلا تنفك تطلب من الدليل تَالِيًا ، فهو يُؤَكِّدُ من وجه ، وَيُفَصِّلُ من آخر ، وَيُقَوِّمُ المعوَجَّ من ثالث ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، وظائف النبوة ، فَثَمَّ مِنْ تَصْدِيقِ الجنانِ ما يَصْدُقُ فيه أنه حكم ، وإن كان التَّصَوُّرَ الأوَّلَ الذي عنه الحكم يَصْدُرُ ، فلا ينفك يُضَمَّنُ من الفعل المرجِّح ما يصدق فيه أنه فعل ، فهو الأخص بعد عرفان أول ، فَحَصَلَ من التصديق تَرْجِيحٌ ، وبه حكم تال في الباطن يَنْشَأُ ، وهو الإرادة التي تَتَأَوَّلُ التصورَ ، إِنْ إرادةَ فعلٍ تُرَجِّحُ الإيجاب ، أو إرادةَ تَرْكٍ تُرَجِّحُ السلب ، وهو ما يطلب بعدا من الآلة ما يصدق في الخارج بما يكون من فعلٍ هو الإيجاب ، أو ترك هو السلب ، فَثَمَّ من الآلة بدن يتأول بحركته الظاهرة التي يرصدها الحس ما يكون من حركة أولى باطنة في الجنان ، إن تصورا أو إرادة ، فتأويلهما في الخارج ما يكون من حركة الجوارح إذ تُصَدِّقُ أو تُكَذِّبُ ، ومبدأ ذلك ما يكون في الدماغ فهو آلة من جملة الآلات الفاعلة ، فَلَيْسَ المنشِئ لما لَطُفَ من المعاني ، فذلك العقل وهو طور يجاوز الدماغ ، كما الوحي طور يجاوز العقل ، وكما الروح طور يجاوز الجسد ، وكما المعنى طور يجاوز اللفظ ، فلا يثبت الكلام المفهِم بلفظ مجرَّد فذلك صوت لا ينفك يطلب من المرجع ما يجاوز ، فيكون من المعنى أول يقوم بالنفس ، ويكون من اللفظ تال يُظْهِرُ بما استقر من دلالة المعجم المفرد ، وقانون النحو والبيان المركب بما يواطئ عرف اللسان المشتهر ، فليس الصوت المجرد بمغنٍ شيئا حتى يكون من المعنى ما يُضَمَّنُ ، فالمعنى يَقُومُ بالنفس أولا ، وليس يحصل به الإفهام إلا أن يكون ثَمَّ من الدليل ما يُظْهِرُ في الخارج ، فيكون من ذلك صوت يواطئ اصطلاحا في الدلالة أخص ، فهو يعالج أولا من حاسة السمع ، وله في الدماغ مناط أخص ، وهو ما تناوله التجريب والبحث إذ يَقِيسُ ما يكون من الإفرازِ وَالنَّبْضِ إذا بَاشَرَ الصوتُ الأذنَ ، فَثَمَّ إفرازٌ وَنَبْضٌ ، وَبِهِ الحاسة تَفْعَلُ وذلك تأويل لأول من القوة التي رُكِزَتْ فِيهَا ، فالدماغ آلة من جملةِ آلاتٍ ، وإن كان لها رياسة في الحواس أخص بما يكون من الإفراز والنبض ، ولا يَسْتَقِلُّ الدماغ ، مع ذلك ، بتوليد المعنى ، بل لا ينفك يطلب مرجعا من خارج يلطف ، وذلك العقل ، وهو ، كما تقدم ، طور يجاوز الدماغ ، فإذا كان ثم معنى يحسن وَيَسُرُّ ، فإن الدماغ يفرز المحفز الذي ينشط فَيَنْبَعِثُ الجسد ويباشر ، وإذا كان ثم معنى يقبح ويحزن ، فإن الدماغ يفرز المثبِّط الذي يُقْعِدُ الجسدَ فَلَا يَنْهَضُ ، والجسد في كلٍّ واحدٌ ، فهو الآلة السالمة من الآفة ، فما حَفَّزَهُ في الأولى ، وَثَبَّطَهُ في الآخرة إلا معنى يلطف ، فمحله يجاوز الحس المحدَث ، فذلك أمر لا يمكن قياسه بالحس والتجريب ، وإن كان ثَمَّ من الآثار ما يرصد في الظاهر ، فلا تنفك الآثار تطلب أولا هو المؤثَّر ، وهو ما يتسلسل من السبب المشهود المدرك بالحس ، كما الإفراز والنبض آنف الذكر ، فيكون من ذلك ما يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي ضرورة في القياس المصرح إلى أول لا أول قبله ، فثم من السبب : سبب محدَث ، وذلك مما انقسم في الخارج ، فتقاسمه من آحاده في الخارج بعضٌ يشهد ، وآخر هو المغيَّب ، والمشهود يفضي إلى المغيَّب ، فسبب يدرك بالحس ، وآخر لا يدرك بالحس ، وإن كان مما يجوز في العقل فليس المحال الممتنع لذاته ، بل له من الوجود ما ثبت في الخارج ، وإن حَارَ العقل والحس في الحقيقة والماهية ، فهو يفتقر إلى مرجع من خارج يرجح ، فهو يثبت ما كان جائزا لدى المبدإ ، إِذْ ثَمَّ مِنَ الإثباتِ قدر يزيد ، وهو ما لا يستقل العقل والحس بإثباته ، وإن كان منهما ما يُجَوِّزُ ، باديَ النظر ، فَثَمَّ دليل من خارج قد رجح الإثبات لسبب مغيَّب بعد أول يشهد ، وإن كان كلاهما من المخلوق المحدَث ، فكان من أسباب الحس ما انتهى إلى سبب يَغِيبُ فلا يدرك بالحس ، فذلك جنس الملَك المدبِّر بإذنٍ من الرب المهيمن ، جل وعلا ، فانتهت الأسباب كافة إلى أول لا أول قبله ، إذ وجوبه الوجوب الذاتي الذي لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل الأسباب والمحال كافة إليه تفتقر أن يوجد ويدبر ، فكان من ذلك كلمات تدبير محكمة ، وبها يعالج جنسُ الملَك الكائنات في الخارج ، ومنها ما به الهمة تنعقد وتنفسخ ، فيكون من الأضداد في الخلق والوصف ما يحكي رُبُوبِيَّةً تَعُمُّ ، إذ بها خلق الأضداد والأغيار ، وما يكون من تدافعها وتعاقبها ، فأجاب العارف إذ سُئِلَ : بم عرفت ربك ؟! ، فقال : بانفساخ الهمم ، فَهِيَ تَنْشَطُ وَتَكْسَلُ ، والجسد واحد لا يتغير ، فما يحمله في حال أن يفعل ، وفي أخرى أن يترك إلا أن يكون من المرجع سبب من خارج الحس يجاوز ، وهو ما يقوم بالجنان من حركات باطنة تَلْطُفُ ، فلا يتناولها قياس التجريب والبحث الذي لا يجاوز مدارك الحس ، وهو ما نَقَضَ معيار الحداثة الذي لا يحاوز الحس في الإثبات والنفي ، فقد حَجَّرَ الواسع وقصر أسباب المعرفة على الحس الظاهر ، فكيف يجيب عن سؤال الهمة ؟! ، وما يكون من انبعاثها تارة وانفساخها أخرى ، وما يكون من حقائق في الوجدان تلطف كما المحبة والبغض ..... إلخ ، فلا معيار لها من الحس يقيس ، وبه رجع بعض من حقق عن حداثة قد انتحلها صدرَ الشباب ، فلما عالج من وصف الأبوة ما لا يُحْسِنُ يُجِيبُ عنه الحسُّ ، فذلك باطن من الفكرة ، فلما عالج ذلك عَلِمَ ضرورةً أن ثم شيئا يجاوز الحس والشهادة ، وهو ما يتسلسل حتى ينتهي ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فذلك الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فالأرواح في يده إذا شاء أَرْسَلَهَا وإذا شاء أَمْسَكَهَا ، والقلوب بين إصبعين من أصابعه ، فهو يُقَلِّبُهَا كيف يشاء ، فإن شاء هدى فضلا ، وإن شاء أضل عدلا .
والشاهد أن ثَمَّ من الهمة ما يعلو تارة ويسفل أخرى ، ولا يكون ذلك بِمَحْسُوسٍ من الإفراز والنبض ، بل ذلك أثر أول يحدث في الدماغ ، وثم تال في الجوارح يظهر ، إن نشاطا أو كسلا ، والعقل هو المبدأ في ذلك بما احتمل من المعاني المحفِّزة أو المثبِّطة ، فَهُوَ معدن النطق الذي امتاز به الإنسان ذو الإدراك التام الذي يُنَاطُ به تكليف الرسالة وحملان الأمانة ، فاحتالت الحداثة أَنْ تَنْقُضَ نَصَّ الرسالة ، فتبطل منه المدلول ، وإن استبقت دوال اللفظ المنطوقة أماني تُتْلَى فلا تفيد من المعاني المفهِمة ما ينصح ، وهو ما افتقر إلى مثال جديد من الكلام ، فهو الحامل للمعاني والأفكار ، فكان من مذهب التاريخانية ما أبطل المدلول المتعدي إلى جيل تال يتحمل من الأفكار ما اتصل إسناده ، وهو ما يحول دون جديد ينسخ ، فكان من التاريخانية ما لَزِمَ جيله فلا يتعدى إلى آخر يعقب ، وكان من مثال التفكيك ما تناول المأثور ، إذ ثم علائق بين المنطوق والمعقول لما تَزَلْ ، وهو ما استغرق المستوياتِ كَافَّةً : المعجمِيَّ الأول ، ثم تَالٍ من الاشتقاق يَرْفِدُ المطلقات المعجمية ، وإن لم يجاوز بها حَدَّ الإفراد في النطق والمعنى ، فالاشتقاق يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ من المدلول المعجمي المطلق ، فَيَزِيدُهُ مَعْنًى كالفاعل أو المفعول أو الوصف المشبه أو المبالغة أو التفضيل ..... إلخ ، وله من حَدَّ النطق ما استقرأ أهل الشأن إذ تَنَاوَلُوا من ذلك مأثورا له من الصيغ والدلالات ما تعدد ، فكان من علمهم ما يجرد الكليات من الجزئيات ، وذلك الاستقراء ثم التركيب الذي يبلغ بالناظر حد الكلي الجامع في الذهن من الجزئي الثابت في الخارج ، فَجَرَّدَ أهل الاشتقاق مُثُلًا وموازين في النطق والكتب ، وبها تصاغ الألفاظ المشتقة من المعاني المجردة فتفيد من الدلالة ما يزيد على المعنى المعجمي المفرد ، وكذا ثالث من النحو ، فهو المعيار الناظم لما أُفْرِدَ من الدوال اللفظية المفردة ، وكذا رَابِعٌ من الْبَيَانِ يَلْطُفُ ، وهو ما تَنَاوَلَ معنى ثانيا لا يَنْصَحُ إلا إذا صَحَّ المعنى الأول ، معنى النحو المركب ، وهو ، أيضا ، ما لا يَنْصَحُ إلا إذا صح اللفظ المفرد ، فَصَحَّ في النطق بما نصح من المخارج والصفات ، وصح في المدلول ، وهو ما تناوله بحث المعجم الأول ، إذ يَنْظِمُ الحروف المقطعة في مَبَانٍ تَتَفَاوَتُ ، فمنها المهمل ومنها المستعمل ، وهو ما افْتَقَرَ إلى مَرْجِعٍ من خارج يجاوز ، مرجع الآثار المنطوقة ، المنظومة والمنثورة ، فَثَمَّ استقراء واستنباط ، وهو ما يحرر المراكز الدلالية التي تدور عليها المادة المنطوقة ، مَادَّةُ الدَّالَّةِ ، فهي لفظ ذو مرجع دلالي ، وَبَيْنَهُمَا من التلازم العقلي ما يَقْرِنُ ، فإذا حصل المعنى في الذهن تَبَادَرَ إلى النطق ما يلازمه من اللفظ ، وإذا حصل اللفظ ، فالمخاطَب يستدعي المعنى المقارن بما تقدم من العلائق المحكمة بين الدوال والمدلولات ، لا جرم حرصت الحداثة أَنْ تَتَنَاوَلَ هذه العلائق بِالْبَتِّ ، فَأَفْرَغَتِ الدالة من المدلول ، وصار اللفظ من المنطوق المجرد فليس ثم مفهوم يُعَيَّنُ ، ثم تصرفت الحداثة بعدا بمذهب آخر يَتَنَاوَلُ الْبِنْيَةَ المحدَثة في الجيل التالي ، فَقَدْ أُفْرِغَتِ الألفاظ من المعاني التي تَوَاطَأَ عليها الجيل الأول بما استقر من عُرْفِهِ اللِّسَانِيِّ المشتهر ، فكان نسخ أول قد تَنَاوَلَ مركز الدلالة ، وهو ما تَوَاتَرَ في لسان الجيل الأول ، فَأَفَادَ علمَ ضرورةٍ في الباب ، فلا يفتقر إلى نظر أو استدلال ، وإنكاره وجحده ، فضلا عن استبدال آخر به وَنَسْخِهِ ، ذلك ، لو تدبر الناظر ، سفسطة لا يجدي جدال صاحبها شيئا ، فليس ثم كلمة سواء إليها يرجع الخصوم ، بل الخصم المسفسِط لا يُقِرُّ بمبادئ من الاستدلال ، فهو ينكر مقدمات الضرورة التي لا تفتقر إلى نظر ولا استدلال ، فهي محل الإجماع الأول ، وبه بناء الاستدلال بعدا يحكم ، فلا يكون ذلك إلا وثم مقدمات قد أجمع عليها الخصوم ، فإذا جادل خصم وَمَارَى ، فلا يُقِرُّ بمبادئ الدلالة في معجم اللسان المطلق ، مع آخر يتكلف من التأويل البعيد أو الباطن ما يخالف عن ظاهر الدلالة المتبادر بما كان من معنى أول يَتَنَاوَلُهُ درس النحو الناظم ، فثم منه ظاهر راجح أو نص جازم ، وهما أول ما يحصل من الدلالة المركبة بعد أخرى مفردة لا تجاوز بحث المعجم المطلق ، فَثَمَّ من التركيب قرينة ترجح في اللفظ إذا احتمل أكثر من وجهٍ معتبر ، وشرط اعتباره ، كما تقدم ، أن ينصح له من دليل الأثر ما يَثْبُتُ ، فقد استقر في العرف المتداول لدى الجيل الأول الذي ورد النص بمعياره اللِّسَانِيِّ ، فَثَمَّ من ذلك مادة مجردة في الذهن قد تَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ من وجهٍ ، فيكون من ذلك اشتراك يُجْمَلُ ، فلا ينفك يطلب من القرينة ما يُبَيِّنُ إذ يُرَجِّحُ من المشترك وجها دون آخر ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، عملٌ يُضَاهِي في الحد الترجيحَ في جائزٍ قد استوى طرفاه في الحد ، فالجائز ، كما المشترك ، وإن كان من الجائز طرفان لا أكثر ، فإما إيجاب وإما منع ، فالجائز لدى المبدإ : عدم أول يستصحب ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، فذلك شطر ثالث من قسمة العلوم في الذهن ، فالعلم يتناولها جميعا ، ومنها ، كما تقدم ، المحال الممتنع لذاته ، فليس إلا الفرض المحض تنزلا في الجدال مع الخصم ، فكان من العلم ما أُطْلِقَ في آي من الذكر قَدْ أُحْكِمَ ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، فَثَمَّ الاستئناف الذي صُدِّرَ بالمؤكد الناسخ "إِنَّ" ، ولا ينفك يدل على محذوفٍ يُقَدَّرُ ، بالنظر في سباق قد تَقَدَّمَ من غيوب قد استأثر بعلمها الرب المعبود ، جل وعلا ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ، فثم المحذوف الذي يُقَدَّرُ ، ولو دلالةَ اقتضاء تَحْكِي السؤال المقدر ، فَلِمَ كان اسْتِئْثَارُ الله ، جل وعلا ، بهذه العلوم ، فكان الجواب لِأَنَّ : (اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، فلا أحد يعلم ذلك ، وذلك النَّفْيُ الذي تسلط على المصدر الكامن في الفعل "تَدْرِي" ، فأفاد العموم المستغرق ، وثم آخر هو في الباب نَصٌّ ، إذ وردت النكرة "نَفْسٌ" في سياق النفي ، فدلالتها دلالة العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول ، وإن دَخَلَهُ التخصيصُ من جهة العقل ، فلا أحد يعلم ذلك إلا واحد ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، الذي هَيْمَنَ عَلَى المقادير إذ تناولها العلم المحيط الذي اسْتَغْرَقَ ، فَثَمَّ منه تقدير أول ، وهو ما تناول الكليات والجزئيات كافة ، وذلك مما ثبت في الأزل ، فَنَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، وثم من المقادير عدم بالنظر في الخارج ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تَأْوِيلُهَا الناصح أن تَقَعَ كما قد قُدِّرَتْ ، وأن يكون من العلم تال يتناولها ، فآحاده بَعْدًا تحدث ، وهي لنوع أول يَقْدُمُ تُصَدِّقُ ، إذ ثم من آحاد المقدورات ما يخرج من العدم إلى الوجود بما نَفَذَ من المشيئة وما صدر عنها من كلمات الإيجاد والتصوير والتدبير ، فكان من العلم الأول المحيط ما تَنَاوَلَ المقدورات في الأزل ، ووصفها من ذلك عدم هو الأول ، وإن كان من تقديرها في الأزل ما يَثْبُتُ ، فذلك وصف الخالقِ المقدِّر ، جل وعلا ، لا وصف المقدورات ، فَثَمَّ من العلم ما قَدُمَ في الأزل ، قِدَمَ النوعِ الذي أحاط فاستغرق الكليات والجزئيات كافة ، وثم منه تال يَتَنَاوَلُ المقدورات إذ تُسْطَرُ في لوح التقدير المحكم ، فلا يُبَدَّلُ فيه القول ولا يَتَغَيَّرُ ، وهو ما اصطلح أنه القدر المبرَم ، وَلَمَّا تَزَلِ المقدورات على حد العدم ، وثم منها ثالث بصحف الملَك ، وهو ما اصطلح أنه القدر المعلَّق ، وهو ما يعالجه السبب الذي يُدْفَعُ بِهِ القدر ، فَثَمَّ من ذلك أسباب ، وهي في نَفْسِهَا من المقدور الأول ، فَلَا تستقل بالتأثير ، بل هي من السبب الذي رُكِزَتْ فِيهِ قُوَّةٌ تُؤَثِّرُ ، فليس الأمر اقْتِرَانًا بلا تأثير ، كما اقترح مقال الكسب المحدَث ، فأثبت إرادة لا كإرادة ، فهي إرادة لا تُؤَثِّرُ في إيجادِ المقدورِ ، إذ لا يكون بها وإن لم تَسْتَقِلَّ بالفعل ، بل قد أجراها الكسب مجرى الاقتران غير المؤثر ، فالمقدور يحصل عندها لا بها ، فليس ثم باء سببية في اللغة ، وإنما هي المصاحبة ، وذلك مما يقدح في ضروري أول قد أبان عنه درس النحو المحكم ، وآخر عن معاني الحروف يبين ، وكلام العرب من الجيل الأول ، هو أبدا معيار ناصح في الاستدلال بما كان من استقراء لمأثور منه يكثر ، إن من النظم أو من النَّثْرِ ، فيحصل من ذلك تقرير لأصول جامعات في معاني الحروف وَعَمَلِهَا ، ونظم الجمل المركبة وما يكون من دلالاتها الأولى نحوا هو المبدأ ، وثم تال من الْبَيَانِ يفيد معنى ثانيا يلطف ، ولا يصار إليه إلا بعد سلامة المعنى الأول ، المعنى النحوي ، وهو ما به السياق يستقيم فَيَسْلَمُ من العجمة واللحن المفسد لنظم الكلام ، ومن وسائطه التي تَقْرِنُ : حروف منها العاطف ، ومنها الناصب ، ومنها الجازم ، ومنها الجار ، كما الباء آنفة الذكر ، فهي مما اتحد عمله في المنطوق ، جرا لِتَالٍ هو المجرور ، واختلف معناه ، فمنه القسم ، ومنه المصاحبة التي لا تُؤَثِّرُ ، ومنها أخرى تُؤَثِّرُ في إيقاع الفعل ، فتلك باء السببية ، آنفة الذكر ، ومعنى المصاحبة فيها لا يخلو من تَجَوُّزٍ ، إذ لا مصاحبة بمعنى الاقتران في الزمن والرتبة ، لا مصاحبة بهذا المعنى تثبت ، فإن العلة تتقدم المعلول ، فالسبَّب أول قبل المسبَّب ، فليس له يقرن في الوجود ، وإن كان ثم آخر من باب التلازم ، فالسبب : ملزوم ، والمسبَّب : لازم ، فكان الاقتران بَيْنَهُمَا ، من هذا الوجه ، فهو التلازم بين شطرين ، فكان من الاستقراء ما غَلَبَ ، فاجتهد في تَتَبُّعِ مواضع الباء من اللسان ، وحصل له من ذلك ظن يَرْجُحُ ، فَثَمَّ من دلالة السببية ما ثبت ، ومحل الشاهد منه : السببية في الإرادة التي يقع الفعل بَعْدَهَا ، فَثَمَّ منها ما يُرَجِّحُ ، إذ فِيهَا قوى في الفعل تؤثر ، فالفعل يحدث بالإرادة لا عندها ، فَلَهَا من قوى الترجيح ما يُؤَثِّرُ ، فيرجح الفعل تارة ، والترك أخرى ، وكلاهما ، كما قرر أهل الشأن ، من الفعل ، فَالتَّرْكُ فِعْلٌ ، وَإِنْ سَلْبًا ، فَثَمَّ من الفعل : إيجاب وسلب ، وهو ما استوى طرفاه أولا في الحد ، فَيُشْبِهُ ذلك ، من وجه ، الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فكان من ذلك إرادة من الفاعل تُؤَثِّرُ في أفعال الاختيار ، وهي مناط التكليف بالأمر والنهي ، وما يكون من فعلٍ وَتَرْكٍ ، فالإرادة تؤثر في إيجاد المقدور إذ ترجح من خارج ، كما السبب الذي يرجح في الجائز ، فَثَمَّ من الإرادة ما يرجح ، وذلك سبب أول يؤثر ، وهو ، مع ذلك ، لا يستقل بالتأثير ، فإرادة الفاعل تؤثر في حصول الفعل ، فَثَمَّ المجموع المركب من المحل والسبب ، فالفعل هو المحل الذي يتناوله الترجيح ، فهو ، ابتداءً ، على حد العدم ، وذلك عدم الجائز الذي يطلب المرجح من خارج ليكون من وجوده تال يصدق ما كان من تقدير أول ، والسبب الذي يباشر المحل هو الإرادة التي ترجح ، وذلك مما افتقر إلى شرط قد وجب استيفاؤه ، وآخر من المانع قد وجب انتفاؤه ، فحصل من ذلك المجموع المركب الذي اصطلح أهل الشأن أنه العلة ، فَهِيَ المجموع المركب من المحل والسبب والشرط المستوفَى والمانع المنفِيِّ ، ولا ينفك ، مع ذلك ، يطلب أولا يسبق ، فإنه لا يستقل بوجوده إذ له من الوصف مبدأ النظر : وصف الجائز المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا كان التحكم أَنْ كَانَ الترجيح بلا مرجِّح ، مع آخر يخالف عن مقدمات الضرورة في الاستدلال الناصح ، فيكون من ذلك محدَث بلا محدِث أول يسبق ! ، وذلك مما خالف عن بدائه العقل المصرح ، فذلك المجموع المركب من العلة ذات الأجزاء في الخارج ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب من السبب ما يَسْبِقُ ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ من الشهادة إلى الغيب ، فإن ثم من الشهادة حد وسقف لا يُجَاوَزُ ، وليس به تُحْسَمُ المادة الممتنعة في الذهن ، مادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فحسمها لا يكون في الشهادة ، لا جَرَمَ كان من إثبات الغيب ضرورةٌ تُلْجِئُ لدى كلِّ ذِي عقلٍ يَنْصَحُ ، فإثبات الغيب وإن لم يدرك بالحس المحدَث ، ذلك مما بِهِ امتاز العاقل المكلَّف من الجن والإنس ، فليس عدم الوجدان بالحس دليلا على عدم الوجود بالفعل ، بل ذلك تحكم محض ، أَنْ قَصَرَ الإثبات والنفي على مدارك الحس حصرا ، فهي دون غَيْرٍ ، هي مصدر المعرفة والعلم ، وذلك مِمَّا يجافي قسمة الأدلة المعتبرة ، فقد حَجَّرَتْهَا الحداثة إذ قَصَرَتْهَا على الحواس ، فَصَيَّرَتِ الجسدَ هو الأصل ، إذ ثم من مادته ما يُقَاسُ بالتجريبِ والبحثِ ، فليس ثم حقيقة إلا ما يخرج من المعمل ، فقد صار الإنسان مادة تُسْتَعْمَلُ ، فهي تُنْتِجُ إنتاجَ المادة الذي يُبَاشَرُ بالحس استهلاكا ، فَتُنْتِجُ لأجل الإنتاج ، وتستهلك لأجل الاستهلاك ، وتعمل لأجل العمل ، وتدخر لأجل الادخار ، فقد صار كل أولئك من الغايات لا الوسائل ، إذ لا غاية تجاوز مدارك الحس التي تقيس الخسارة والربح على قاعدة من المادة تُبَاشَرُ شهادةً ، فلا غيب يجاوز الحس ، وإن جائزا في العقل مبدأ النظر ، فهو يطلب المرجِّح من خارج ، دليلا يوجِد ، وآخر يُثْبِتُ ، إذ ليس الحس لكلِّ أولئك يدرك ، فإنه لا يُوجِدُ الشيء من العدم ، وإن كان من التجريب في المعمل ما يؤلف بين عناصر تكثر ، فيكون من ذلك إيجاد وخلق ، ولكنه ليس من العدم ، بل ثم عناصر أولى يَتَنَاوَلُهَا البحث ، فلا يحدِثُها من العدم ، وهو يؤلف بَيْنَهَا على سَنَنٍ أول يَثْبُتُ بِمَا رُكِزَ في كلٍّ من قوى تمنح الجسيمات وأخرى تَقْبَلُ ، فيكون من ذلك تفاعل محدَث ، وله من العلائق ما تناوله أهل الشأن ، فمنه ما عُنْصُرٌ يستأثر بالجسيم فهو يحوزه من آخر قد منح ، إذ ثم من القدر الفارق في القوى ما به انْتَزَعَ الجسيمَ ، وإن كان ذلك مطلبَ الآخر ، فهو يروم الوصول إلى حال من الاستقرار لا تحصل إلا بالفقد ، كما الآخر يَرُومُ بُلُوغَهَا ، ولا يكون ذلك إلا بالكسب ، ومن العلائق ، من وجه آخر ، ما يكون تساهما ومشاركة ، فَثَمَّ جسيم واحد يتناوبانه وبه يحصل الكمال لكلٍّ ، وإن تَنَاوَبَا ، فَثَمَّ من التفاعل ما يحدث بين اثنين على سنن محكم ، وبه يبلغان من الوصف استقرارا هو المرادُ لكلٍّ ، ولا بد له من أول يُحْدِثُ ، وهو ما اطرد من السنن المحكم ، وذلك ، في نفسه ، فعل في الخارج يسلك جادةً من التأثير مخصوصةً ، فإذا جُمِعَ عُنْصُرٌ إلى آخر حصل من ذلك تأويل يُخْرِجُ قوى التأثير في السبب ، وهو السنن المحكم ، يُخْرِجُهَا من العدم إلى وجود تَالٍ يصدق ، فيكون من وجود الفعل بما يظهر من المركب إذا ائْتَلَفَ من عناصرَ تُفْرَدُ ، يكون من ذلك ما يُصَدِّقُ أولا من وجود القوة بما رُكِزَ في كلِّ عنصر من قوى تَمْنَحُ وأخرى تَقْبَلُ ، وذلك ما يسلك جادة من السنن قد أحكمت ، فليس كُلُّ العناصر إذا جُمِعَتْ تُفْضِي إلى المركَّب ، بل لا بد من قوى أولى في كل عنصر قد رُكِزَتْ ، أن يمنح أو يقبل أو يشارك غيرا ، فَلِكُلِّ تَفَاُعلٍ من الجادة ما به قد اختص ، فلا ينفك يطلب أولا من العناصر بما ركز فيها من قوى التفاعل ، ولا يكون ذلك إلا أن يُهَيَّأَ من الظرف ما يحفز ، وهو ما يزيد في الفعل والتاثير ، وَيُسَارِعُ في خروج المركَّب الذي يُصَدِّقُ أولا من السنن المحكم ، أو يكون من ذلك ما لا يمنع ، فثم من المانع ما وجب انتفاؤه ، وثم من الشرط ما وجب استيفاؤه ، فحصل من ذلك ، أيضا ، مجموع في الخارج قد تَرَكَّبَ ، وهو العلة التي تَطْلُبُ أولى تَسْبِقُ ، وذلك مما تسلسل في التاثير فَانْتَهَى ضرورةً إلى مرجع من أعلى يجاوز فلا مرجع له يجاوز ، وهو ما يُبِينُ عن فَارِقٍ أصيل بين الرسالة والحداثة ، فالأخيرة لا تنفك تطلب المرجع من أدنى فهو من الأرض يَحْدُثُ ، فَثَمَّ من الحقيقة الأرضية المحدثة ما عنه التشريع والحكم يصدر ، بل وله من قصة الخلق ما اقترح ، وإن خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فأنكر الخلق المباشر ، وَتَكَلَّفَ من ضد ما يخالف عن مقدمات العقل المصرحة ، أن الحادث لا بد له من محدِث ، وهو ما عَمَّ فَتَنَاوَلَ إحداث العين من العدم ، وما يطرأ عليها من حركة وسكون ، وما يكون من تدبير يعم المحسوس والمعقول ، فهو الجاري على السنن المحكم ، وذلك ، بداهة ، مما افتقر ، أيضا ، إلى مرجِّح من خارج يُحَرِّكُ ، فلا يكون من ذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، إذ كيف يكون الغني الذي لا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ ، وشاهد العقل والفطرة والحس ، وإن لم يكن ثم شرع يَتَنَزَّلُ ، ذلك الشاهد دَالَّةُ ضرورةٍ تُلْجِئُ أن هذا العالم فَقِيرٌ الفقرَ الذاتيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا بد له من سبب من خارج يَرْفِدُ ، فلا يملك لنفسه ضَرًّا ولا نَفْعًا ، كما سائر المعبودات من دون الله ، جل وعلا ، وقد صَيَّرَتِ الحداثة هذا العالم من الآلهة التي تَبْطُلُ ، فَقَدْ حَلَّ فيه المطلق الأعلى ، فَحَلَّ المعنى في المادة ، ولم يَصِرْ ثَمَّ إلا المادة التي تُدْرَكُ بالحسِّ ، فهي المرجع والأصل ، وهي الحقيقة الثابتة في الخارج فلا حقيقة لها تجاوز ! ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنْهَا ما يجاوز الحس المحدَث ، تحكُّمًا في الاستدلال قد تَقَدَّمَ ، أَنْ صَيَّرَ الجهل دَلِيلًا على العلم ، فمن جهل من الأدلة ما يُغَايِرُ الحسَّ ويجاوز ، فهو الحجة على من علم من الدليل ما نَصَحَ فَجَاوَزَ الحسَّ المحدَث ، وذلك مما يخالف عن بدائه الضرورة ، بل من الحس المحدَث ما يشهد بِضِدٍّ ، فإن وجود هذا العالم في نفسه دليل على موجِد أول ، إذ العالم ، كما تقدم ، محدَث يَفْتَقِرُ إلى محدِث ، فَثَمَّ من فَقْرِهِ الذَّاتِيِّ ما لا يُعَلَّلُ ، وذلك ما عَمَّ افْتِقَارَهُ إلى الموجِد الأول ، وآخر يُتْقِنُ الخلقَة وَيُدَبِّرُ الحركة ، فَثَمَّ من ذلك وصفُ فَقْرٍ ذاتِيٍّ لا يُعَلَّلُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إِلَى أوَّلٍ يُوجِدُ وَيُدَبِّرُ ، فَلَهُ من ذلك توحيدُ ربوبيةٍ يَنْصَحُ ، وهو أول في الدين المجزِئِ ، وله تال هو القسيم ، من وجه ، واللازم من آخر ، فَثَمَّ آخر من توحيد الإله الذي يحكم ويشرع ، فالتسلسل في التأثير أزلا يمتنع ، إن في التكوين وذلك توحيد الربوبية ، أو في التشريع وذلك توحيد الألوهية ، فَثَمَّ مرجعٌ من خارجِ هذا العالم يُجَاوِزُ ، إن في التكوين أو في التشريع ، فالأول في دينِ النبواتِ ، أول التكوين الذي يُدَبِّرُ ، وأول التشريع الذي يحكم ، ذلك الأول في السماء ، فالأمر يَنْزِلُ من أعلى ، فهو يجاوز هذا العالم ويفارقه ، فلا يحل فيه ولا يتحد ، كما اقترحت الحداثة في مذهب محدَث قد غلا في الحقيقة الإنسانية ، فصيرها هي الأصل ، فهي مركز التشريع والحكم ، فَثَمَّ إنسان قد صار السيد المتأَلِّه الذي يقترح من الشريعة ما يواطئ الهوى والذوق ، إن في الاعتقاد أو في الحكم ، فَاقْتَرَحَ من قِصَّةِ الخلقِ مَا يَنْفِي الربَّ الخالقَ ، تجبرا وطغيانا قد جاوز الحد في الفكرة ، وإن خالف عن صريح العقل الذي ينصح ، وله من مقدمات الضرورة ما ثَبَتَ مبدأ الاستدلال ، ومنها ما تقدم أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ ضرورةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصفِ الوجود اللازم : وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الإيجاد المتعدي : وصف فعل ، نَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، وَثَمَّ من آحاده ما يحدث ، فهو الجائز مبدأ الأمر ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج إذ يُصَدِّقُ الفعلُ قوةً أولى بآحاد منه تحدث بالفعل ، فَثَمَّ من ذلك جائز يطلب المرجِّح ، وهو آحاد من المشيئة تحدث ، وبها المقدور الأول يخرج من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، فَاقْتَرَحَ العقل المحدَث من تلك القصة ما يخالف عن مقدمات الضرورة ، نَقْلًا وَعَقْلًا وفطرةً وحسًّا ، فمن عالج هذا العالم بالحس ، وهو من باب الإلزام لخصمٍ قد قصر الاستدلال على الحس ، فهو وحده ، كَمَا يَزْعُمُ الخصمُ ، ما ينصح العقل بمقدماتٍ يُعَالِجُهَا بما رُكِزَ فيه من قوة الفهم والفقه ، فالعقل لا يصح مرجعا أو مصدرا من مصادر المعرفة ، فهو آلة لا تنفك تطلب المادة التي تعالجها ، والخلاف في مصادر هذه المادة ، فالحداثة قد تحكمت ، فقصرت المصدر على واحد وهو الحس المحدَث ، إذ صيرت الجسد هو المبدأ ، فالإنسان هو المركز ، والمرجع من الأرض يحدث ، فلا مرجع من السماء ، إن في التكوين ربوبية أو في التشريع ألوهية ، فَلَيْسَ ثَمَّ إلا الإنسان بلا إله ، بل قد صار هو الإله السيد الذي يحكم ويشرع ، وليس ثم وراء هذا العالم آخر ، إذ لا يدرك الحس ذلك الآخر ، وقد تحكمت الحداثة فَصَيَّرَتِ الحسَّ ، كما تقدم ، مرجع الإثبات والنفي الأوحد ، وإن كان ثَمَّ من الخبر ما يَنْصَحُ ، فهو يدل على آخر يجاوز هذا العالم المحدَث ، بل ثم من قَرِينَةِ العقلِ ما يَنْصَحُ ، فإن من الحكومات ما لم يُقْضَ فِي هذه الدار ، وفواتها يقدح في معنى العدل المطلق ، أن يحكم في المظالم بما يدل العقل على حسنه ضرورةً ، فَيُوَفَّى كلٌّ حسابه ، فـ : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، وَتُرَدُّ المظالم إلى أَهْلِهَا ، فَلَوْ جَحَدَ العقل هذه المسلَّمة الضرورية في باب الحسن والقبح ، لأنكر معلومًا ضَرُورِيًّا قد أجمع النظار على حسنه ، فالعدل مما يحسن ، وَرَدُّ المظالم آخر عنه يصدر ، فهو لازمه في القضاء المحكم الذي تجرد من الهوى والحظ ، والغفلة والخطأ ، فكان من ذلك كتاب يحصي كل شيء ، فهو ينطق بالحق ، إذ يَسْتَنْسِخُ القولَ والفعلَ ، فَثَمَّ منه دليل يشهد ، وهو عن الظلم والخطإ قد تَنَزَّهَ ، فكتب البشر المحدَثة ، وإن بلغت ما بلغت من الإحصاء والضبط ، فَلَا يَنْفَكُّ يعتريها الخطأ والنقص ، بل والهوى والحظ الذي يَتَقَصَّدُ أن يخالف عن حكومة الحق ، وذلك دليل الفقر ، فقرِ الظالمِ ، وإن بَدَا الغني القاهر ، فَلَوْ كَانَ من غناه الغنَى الذاتيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، كما لسان حاله بل ومقاله في مَوَاضِعَ ، لو كان ذلك وصفه ما اضطُّرَّ أَنْ يَظْلِمَ ، فهو يَفْتَقِرُ إلى ما عند المظلوم أَنْ يَسْتَغْنِيَ به من فَقْرٍ ، فيقتل ويسفك ، ويسرق وينهب ...... إلخ ، فكل أولئك دليلُ ضدٍّ من الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وإن اقْتَرَحَتْ له الحداثة من مذاهب الحكم والسياسة ما يُؤَوِّلُ وَيُبَرِّرُ ، فَيُخَرِّجُ ذلك على جادة من العقل تَنْصَحُ ، فَثَمَّ المثال الواقعي ، وثم آخر يصير العالم على مثال الغابة ، ولها من الشرعة ما يأكل القوي به الضعيف ، وليس يُذَمُّ بذلك ، فهو قانون الطبيعة المحكم ، وَإِنْ جَرَى على خلق لم يُكَلَّفْ ، فذلك قانون الحيوان الذي لا يَعْقِلُ ، فَعَجَبًا أَنْ تَتَبَجَّحَ الحداثة بمذهب ينحط بالإنسان وقد زعمت أنها له تكرم ، فانحطت به إلى دَرَكَةِ تَسْفُلُ ! ، فقانونه قانون الحيوان ، إن في الخلق أو في السلوك ، فاقترحت من قصة الخلق ما يخالف عن بدائه العقل ، أن كان ثَمَّ مادة أولى بسيطة ، لا عقل لها ولا حس ولا إرادة ، فقد وُجِدَتْ في الأزل بلا موجِد ، وهي ما لا يجزئ ، بداهة ، في إثبات أول عنه هذا العالم المتقَن المحكَم يَصْدُرُ ، فَهِيَ تَفْتَقِرُ إلى من يُوجِدُهَا مبدأَ النظرِ ، ثم يحرِّكُها ، كما اقترحت الحداثة ، فيكون من ذلك انقسام وَتَرَاكُبٌ ، فلم تَرْضَ الحداثة بهذا القول ، إذ ثم فيه تَوْجِيهٌ وإرادةٌ أولى تَضطَّرُهَا أَنْ تُثْبِتَ الخالق الأول ، فيكون ثم من المحرِّك أول ، فهو يُؤَثِّرُ فيها انقساما ثم تَرَاكُبًا على مثالٍ مخصوصٍ ، وذلك مما يفسد مذهبها ـ فلا يستقيم إلا أن تنكر الخلق الأول بالقصد والإرادة ، مع نفي التخصيص في الفعل ، فذلك ما يوجب أولا من العلم الذي يقدر ، فلم ترض الحداثة بكل أولئك ، وإن كان من ذلك ما يواطئ مقالها تطورا ، فقد زَادَ من القيد أنه الموجَّه بالعلم المقدِّر والإرادة التي تُخَصِّصُ ، والمشيئة التي تُرَجِّحُ ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، من باب الإلزام للخصم ، لا أنه صحيح في نَفْسِ الأمرِ ، فإن التطور الموجَّه ، وإن كان جائزا في العقل لدى المبدإ ، إذ يسلم من نواقض القياس المصرح ، أن يكون ثم خلق بلا خالق في باب التكوين ، كما إنسان بلا إله في باب السيادة والتشريع ، وكما جسد هو الأصل بل هو الحقيقة وحده ، فلا روح له تَرْفِدُ ، وإن كان ثم من ذلك شيء فقد حَلَّ في الجسد واتحد به ، فلم يعد في الخارج حقيقة تُدْرَكُ إِلَّا ما يُنَالُ بالحس المحدَث ، وكذا المعنى آنف الذكر ، فقد حل في المادة واتحد بها ، فصارت المادة التي تدرك بالحس هي الأصل ، إذ الجسد هو المركز ، فليس ثم رَبٌّ في السماء يخلق ويدبر ، وله من الوصف تال يَلْزَمُ ، فهو الإله الذي يحكم ويشرع ، فكل أولئك من نَوَاقِضِ العقل المصرح الذي تَتَبَجَّحُ الحداثة أنها له تُعَظِّمُ ، وليست تُعَظِّمُ إلا الحس ، وهو ما يهدر خاصة العقل في الإيمان بالغيب ، وَإِنْ جَائِزًا يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج يثبت ، فيكون من الدليل ما يَنْصَحُ الحسَّ المحدَث فهو له يجاوز ، فكان من ذلك الخبر الذي يصدق ، وهو ما لا يعالجه الحس ، فمداركه لا تطيق إلا الشهادة ، فتباشر منها المحسوس ، فلا عناية لها بالمعقول ، فتلك خاصة الروح ، وهي معدن الجنان الذي يعقل ، وذلك محل الإيمان بالغيب ، واقتراحِ آخرٍ من الخيال والحدس ، وكل أولئك من خاصة الإنسان الذي يَعْقِلُ ، فَلَهُ من ذلك محل يُنَاطُ به التكليف بالأمر والنهي ، وإن في شرائعِ الوضعِ المحدَثَةِ ، فلا يخاطب بها الحيوان الذي لا يجاوز علمه مداركَ حِسِّه ، وهو ما يلزم الحداثة إذ صيرت الجسد ، كما تقدم ، المبدأ والغاية ، مبدأ الإثبات والنفي ، وغاية الخلق والشرع ، وإن أَفْضَى ذلك إلى عَبَثٍ يجحد المعلوم الضروري الناصح ، أن هذا الإتقان والإحكام لا بد له من متقِن محكِم أول ، وآخر من الغاية يَنْصَحُ ، ومن ذلك ما تَقَدَّمَ من حكوماتِ عدلٍ تَفْصِلُ في المظالم التي لم تُسْتَوْفَ في هذا العالم ، فَثَمَّ من العدل معنى مطلق ، وهو ما أجمع على حسنه العقلاءُ كَافَّةً ، وذلك ما استوجبَ ضرورةً دارا تجاوز هذا العالم ، فالعقل ، وإن لم يستقل بإثباتها ، لا سيما ما فُصِّلَ من أعيانها وأحوالها ، إلا أنه ، من وجه آخر ، يدل عليها دلالة ضرورةٍ تُلْجِئُ ، بما يعالج الناظر في هذا العالم من مظالم لم يُقْضَ فيها وقد فات المحل ، فَمَاتَ الظالمُ دُونَ أَنْ يُقْتَصَّ منه القصاص الظاهر ، وإن كان من العقاب الناجز ما لا يُدْرَكُ ، فتلك معيشة الضنك التي تُؤْلِمُ ألما يجاوز الحس ، فهو أعظم في القدر ، وإن خفي في الوصف ، تصديق آي قد أحكم ، فـ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وليس ذلك مما يَظْهَرُ لكلِّ أحدٍّ ، فَلَا يَرَاهُ إلا من فَطِنَ ، فَلَهُ من ذلك فراسة تجاوز الظاهر ، فلا يغتر بما يكون من مظاهر الفخر والخيلاء ، فهي تحجب ضِدًّا من الذلة والصغار ، وَلَا تَنْفَكُّ أماراتُه تَظْهَرُ ، فَكُلَّمَا زَادَ صاحبه وتكلَّف من آي العزِّ والرفعةِ ، فلا يَنْفَكُّ يحكي ضدا من الذلة والضعة ، وإن لم يحسن كلُّ أحدٍ دَرَكَهَا ، بل ثم كثير يَغْتَرُّ بالطاغوت إذ يخرج في زِينَتِهِ ، وهي ما يعالج الحسُّ المحدثُ ، فَيَسْحَرُهُ فلا يحسن يميز الحق من الباطل ، فَقَدْ فَسَدَ معياره في الوصف والحكم ، فانحط إلى دركةٍ تَسْفُلُ ، لا تجاوزُ زِينَةَ هذا العالم المحدَث ، فمن خرج بها على قومه فهو السيد الناصح الذي فَقِهَ الأمر واستبد باللذة والحكم ، وإن ظَلَمَ ما ظَلَمَ ، فليس ثم معيار عدل يجاوز ، بل العدل ما به تنال اللَّذَائِذُ ، كما الحداثة قد اقترحت من مثال التطور آنف الذكر ، فكان من ذلك انتخاب في الخارج لا يُبْقِي إلا على القوي الغالب ، وإن الظالم الذي يخالف عن حكومة العدل التي استقر حسنُها ضرورةً في العقل ، إِنْ عَقْلَ الفردِ أو آخر من الجمع ، لا جرم لجأت الحداثة إلى طاغوت آخر ، وإن في باب المعاني والأحكام ، أَنْ تُخَرِّجَ هذا الفعل الذي ينحط بالإنسان إلى دركة الحيوان الذي يصدر عن غريزة لا تجاوز الحس المحدَث ، أَنْ تُخَرِّجَ هذا الفعل على قاعدة من الحسن والعدل ، فذلك قانون الطبيعة الذي لا يرحم الضعيف ، فليس له في الحياة حق ، وليس له من مأدبة الكون صحن ، كما يقول بعض من غلا في مذاهب محدثة قد صيرت رأس المال هو الباعث في الفكرة ، والمحفِّز في الحركة ، وإن ظلمت الخلق ، فاستبدت بالثروة ، لا عن عمل يدأب ، وإنما اقترحت من المثال ما يَسْتَرِقُّ العامل في المصانع ، وإن تَبَجَّحَتْ أنها قد حررته من رِقِّ المزارع ، فكان من ذلك تحرير من قيد إلى آخر ، كما يُنَوِّهُ بعض من حقق ، فتلك الحرية التي تتبجح بها الحداثة أن توسلت بها إلى الغاية ، الغاية المادية المحدَثة التي لا تجاوز مدارك الحس ، وإن زخرفت من المذهب ما يَغُرُّ ويخدع ، فصار من اسم الحرية ما به يسترق الحر طوعا ! ، إن في المصنع الذي ينتج ، فلا يعطى من الأجر إلا قليلا به يقيم الصلب ، وما زاد فهو يُنْفَقُ في لذة الحس ليستهلك ما أُنْتِجَ في المصنع ، ويرجع الربح إلى الأصل ، وليس العامل إلا آلة بها الإنتاج يزيد ، وكذا الاستهلاك على قاعدة من المادة تجرده من خاصة الإنسان المكلَّف ، خاصة العقل الذي يَنْصَحُ ، وَإِنْ تَبَجَّحَتْ أخرى أنها مذهب إنساني يروم تحرير العقل من القيد الكهنوتي ، فتذرعت بما كان من الدين المحرَّف ، لا أن تَرُدَّ الإنسان إلى آخر قد أحكم ، وإنما صيرته الذريعة إلى إبطال الوحي والشريعة مرجعا من خارج يجاوز ، فَحَقَّرَتْ من شأن الإنسان وهي تَزْعُمُ أنها له تعظم ، إذ انحطت به إلى دركة الحس المحدَث ، فصار الانتخاب الطبيعي فضيلةً ، وَإِنْ صَيَّرَ الإنسان حيوانا كسائر الحيوان ، فلا خاصة بها يمتاز ، بل قد وصفَه بَعْضٌ ، أنه قَذَرٌ من الكيمياء في كَوْكَبٍ ذي حجم متوسط ، فقد وجد خبط عشواء ، وليس ثم حاجة إلى إله ، فقانون الطبيعة يجزئ في تفسير الخلق ، ووضع الشرع ، إذ ثم من الانتخاب ما يمنح القوي أهلية السيادة والحكم ، فهو يقترح من الحكومات ما يواطئ الهوى والحظ ، فلا يسلم العقل المحدَث ، إن المفرد أو المجموع ، لا يسلم من وصف الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فهو باعث الظلم الذي يفحش ، وإن التمس له من القول ما يُزَخْرِفُ ، فَصَارَ الظلمُ فضيلةً تُحْمَدُ ، وله من المذهب ما يُبَرِّرُ ، كما تقدم من الانتخاب الطبيعي الذي يُفَسَّرُ به عالم الحيوان ! ، لا آخر من الإنسان الذي شَرُفَ بما رُكِزَ فيه من قوى التَّعَقُّلِ ، وبها يُنَاطُ التكليف المنزَّل الذي يجاوز به دركة الحيوان الأعجم ، فالحداثة تُعَظِّمُ الإنسان دعوى ، ودليلها يحكي ضدا إذ يصيره حيوانا كسائر الحيوان ، بل وَيُصَيِّرُهُ قذرا من الكيمياء ، وهي ، من وجه آخر ، تقترح من اسم الحرية ما به الانعتاق من أوهام الدين ! ، فتطلق ولا تقيد ، فَثَمَّ من القيد ما يحسن أن يكون من الحرية ما ينعتق به العقل من أوهام الدين المبدل والمحرف ، لا الدين مطلقا فإن منه المحكم الذي ينصح ، وله من الخبر ما يصدق ، وهو يعالج في الإنسان المحل الأشرف ، محل العقل الذي به قد امتاز من الحيوان المحدَث ، وهو مناط التكليف بالوحي الناصح الذي سلم من التبديل والتحريف ، بل قد جاء الوحي بما يحرر العقل ، حقيقةً لا دعوى ، فأبطل ما فسد من المقال وما حَدَثَ من آلهة الباطل ، إن حسا أو معنى ، فَنَسَخَ رَسْمَ الكهنوت المحدَث ، وهو في كل جيل يضل الخلق إذ له من ذلك غاية ومتجر ، ولولا ضلال الخلق ما صار ذا رياسة وثروة .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
   
الكلمات الدليلية (Tags)
الكلام, دلالات
   


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




Loading...

   
   

جميع الحقوق محفوظة لمنتديات التربية الاسلامية جنين