عرض مشاركة واحدة
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 9
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 02-15-2024 - 04:47 PM ]


وجزاك أستاذ عبد الله ونفعك ونفع بك .

فكان من ذلك المذهب الذي يُبْطِلُ دلالة النص ، وإن تَلَطَّفَ في النطق ، كان منه ما تَقَدَّمَ من قَصْرِ الخطابِ الشرعيِّ على المدلول اللفظي ، كما خطاب المواجهة الأول في قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فإن من الأمر ما أضمر فيه الفاعل وجوبا ، وهو ما يضاهي في الدلالة ضميرَ المخاطب المفرد المذكر ، فذلك أَوَّلُ مَنْ إِلَيْهِ خطاب الوحي قد تَوَجَّهَ ، صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الناظر على ذلك وصيره واقعة عين لا تتكرر ، فقد أبطل دلالة الشرع المنزل ، إذ لا يجاوز إلى بقية الجنس المكلَّف ، فَرَدَّ خطاب التشريع الأعم بما كان من خطاب المواجهة الأخص ، وهو كالسبب الذي نَزَلَ عليه العام فلا يخصصه إلا أن يكون ثم قرينة تخصيص تقصر الدلالة على واحد وهو سبب النزول ، كما في خصائص الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى»" ، فَثَمَّ من وصال الصوم ما يجري مجرى واقعة العين فلا يشرع فيه التأسي ، كما غَيْرٌ من أحكام الشريعة ، فذلك أصل يستصحب ، فـ : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) ، وهو ما دخله التوكيد القياسي ، فَثَمَّ لام ابتداء أخص ، وهي لام الجواب لقسم قد قُدِّرَ صدرَ الكلامِ ، فَلَهَا اسم أعم ، وهو الجنس العام الذي يجرده الذهن ، جنس الابتداء ، وتحته أنواعٌ تَتَمَايَزُ ، ومنها لام الجواب ، جواب القسم المقدَّر ، ومنها ما يتأخر إذا اشتغل المحل بمؤكد أقوى ، كما الناسخ ، وله المثل يضرب بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) ، فلو سِيرَ بالكلام المسيرَ القياسي المطرد ، لكان من النطق ما يثقل ، إذ اجتمع اثنان من جنس دلالة واحد ، اجتمعا في موضع واحد ، فقيل : لإنه حق اليقين ، فكان من إصلاح المنطق أن يتأخر واحد منهما ، وهو الأضعف ، وذلك ما يواطئ القياس المصرح ، إذ يقدم ما حقه التقديم وهو الأقوى ، فقدم الناسخ ، وَأُخِّرَ ما حقه التأخير وهو الأضعف ، فتلك لام الابتداء التي تأخرت ، فدخلت على الخبرِ ، واصطلح أنها المزحلقة .
فَلَامُ الابتداءِ قد تَتَجَرَّدُ في دلالتها ، فلا تجاوز وضع اللسان الأول ، ولا يكون من القرينة ما يقيد ، فيكسبها من الاسم تاليا يزيد ، كما لام الابتداء في جواب القسم المقدر ، فهي دليل على محذوف أول ، وهو القسم المقدَّر ، وثم قرينة أخص ، فإن لام الابتداء لا تدل على قسم مقدَّر في كل موضع ، إذن لصارت لام الجواب في كل سياق ، وليس ذلك بمتحقق ، بل لا تحمل اسم الجواب إلا في مواضع مخصوصة ، كما هذا الموضع ، إذ ثم من القرينة ما رفد وهو دخول اللام على "قد" التحقيقية التي دخلت على العامل الماضي "كان" ، فحصل من ذلك قرينة مركبة ، إذ ثَمَّ لام ابتداء قد اتصلت بالحرف "قَدْ" ، وهو ما احتمل أضدادا من الدلالة ، فاحتمل ، كما يقول أهل الشأن ، التحقيق إذا دخلت "قَدْ" على الماضي ، والتشكيك إذا دخلت على المضارع ، وإن لم يطرد ذلك في كل موضع ، فذلك مما يجري مجرى الغالب الذي يستصحب حتى يكون ثم من القرينة ما يصرف ، كما في قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، فالله ، جل وعلا ، يعلم ، بداهة ، ما الخلق عليه ، إن علم التقدير الأول الذي أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، فيكون من المضارعة في هذا الموضع ما به استحضار صورة لِمَا قَدُمَ في الأزل من علم إحاطة يستغرق المقدورات كافة ، الأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، وما تُبَاشِرُ من الأسباب ، وقد يُحْمَلُ العلم في الآية على ما يكون بَعْدًا من علم ظهور وانكشاف تَالٍ فَهُوَ يُصَدِّقُ ما كان أَزَلًا في علم التقدير الأول ، وهو ما له ثالث يؤكد ، فذلك علم الإحصاء الذي يُكْتَبُ في صحف الْمَلَكِ ، فالله ، جل وعلا ، يأمره بالكتب ، وهو يُبَاشِرُ الفعل ، فِعْلَ العلم الذي يُصَدِّقُ ما كان أولا من علم التقدير المحكم ، فَيَكُونُ من ذلك وَصْفُ فِعْلٍ يُنَاطُ بالمشيئة ، فَحُدَّ "يَعْلَمُ" حَدَّ المضارع الذي تحدث آحاد منه في الخارج ، وله نوع أول يقدم ، فإن الله ، جل وعلا ، قد علم العلم الأول ، ثم كان من آحاده تال يصدق إذا وَقَعَ المقدور ، فَيَتَنَاوَلُهُ العلمُ من هذا الوجه ، فذلك الإحصاء والعد ، خلاف أول يتناول التقدير ، فذلك علم محيط يجمع ، وهو ما تناول المحال والأسباب كافة ، وما سُنَّ لها من السنن المحكم الذي عليه تجري بما رُكِزَ في كُلٍّ من القوى ، فقوى السبب تُؤَثِّرُ ، وقوى المحل تَقْبَلُ ، وكل قد قُدِّرَ في الأزل على ماهية مخصوصة ، فذلك أول قد استغرق المقدورات كافة ، وَثَمَّ تال يصدق ، إذ استغرق الموجودات المصوَّرات المدبَّرات كافة ، فذلك تأويل لَمْ يَزَلْ يحدث ، وهو لعلم أول يُصَدِّقُ ، وبه يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، وكان ثم من مناط العلم تال ، وهو علم الإحصاء الجامع ، وذلك مما تحدث آحاده في الخارج ، وإن كان ثم نوع أول يقدم ، فذلك علم الإحاطة المستغرق ، فتأويله في الخارج : علم إحاطة يستغرق ، أيضا ، فالأول يستغرق المقدورات ، والثاني يصدق إذ يَسْتَغْرِقُ بَعْدًا موجودات في الخارج تحدث ، فيكون من المرجِّح من خارج ما به وجوبها بعد جواز أول ، فذلك العدم الذي يستصحب إذ استوى طرفاه في الاحتمال ، الوجود والعدم ، فلا ينفك يطلب مرجِّحًا من خارج يوجِب ويوجِد ، فيصير من الوجود في الخارج تال يصدق ، ولا يكون ذلك بمحض التحكم ، وهو مما يجافي القياس المصرَّح ، أن الترجيح لا يكون إلا بمرجِّح من خارج ، فكان من ذلك كلم تكوين يحدث ، وهو عن المشيئة النافذة يَصْدُرُ ، وهو تأويل لما كان في الأزل من وصف الكلام الذي قدم نوعه ، فَثَمَّ من آحاد الفعل ما يصدق ، وهو ، أيضا ، تأويل لما قدم من العلم الأول المحيط ، فثم من آحاد المعلومات في الخارج ما يحدث ، إذ ثم من آحاد المقدورات ما يحدث ، ولها وجود تال يصدق ، وهي ، كما يقول أهل الشأن ، مما له في المدلول أخص ، فالمعلوم أعم إذ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ ، ولو الفرضَ المحال الممتنع لذاته ، فَيُفْرَضُ ويكون من العلم ما يُبِينُ عن عاقبته لو حَدَثَ ، ولو الفرضَ المحضَ في الجدل ، كما آي من الذكر المحكم ، فـ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، فلم يكن ثم آلهة إلا الله ، جل وعلا ، ولم يكن ثَمَّ فساد في الكون ، بل قد جرى على السنن المحكم ، وهو ما يُجْرِي ما تَقَدَّم من الآية مجرى الفرض المحض ، تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وذلك دليل أن الحاكم الذي يأمر واحد لا يَتَعَدَّدُ ، فَلَهُ من واحدية الذات وأحدية الوصف الذي به يحكم ، له من ذلك ما به قد انفرد ، فاستوجب التوحيد في التكوين والتشريع كافة ، توحيد ربوبية بأفعاله وتوحيد ألوهية بأفعال عباده ، وذلك التوحيد الذي بشرت به النبوات كافة ، فـ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، فالحكومات الكونية التي تُدَبِّرُ والحكومات الدينية التي تُشَرِّعُ ، كُلُّ أولئك مما به امتاز مِنْ غَيْرٍ ، وإن كان ثم آلهة فيهما فهي باطلة ، فلا حكم لها يستقل بالنفاذ ، وإنما هي من جملة الأسباب التي بها تأويل المقدور الأول ، كما الْمَلِكُ من الخلق ، فهو يأمر وينهى ويتصرف في ملكه ، وهو ، مع ذلك ، لا يستقل بذلك ، بل لا ينفك يفتقر إلى أسباب بها يُجْرِي حكوماته ، وهي ما استوجب شرطا يُسْتَوْفَى ومانعا يُنْفَى من منازعة ملك آخر أو عصيان وخروج عن حكمه قد يُفْضِي إلى زَوَالِهِ كما قد تَكَرَّرَ فِي كُلِّ جِيلٍ ، فذلك تأويل الإيتاءِ والنَّزْعِ في محكم الذكر أَنْ : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فَرُدَّ الملك المحدَث إلى مالك الملك ، جل وعلا ، فَلَهُ من ذلك وصف أعم ، وهو ما استغرق الملوك كافة ، إذ يَتَصَرَّفُ فيهم تَصَرُّفَ المدبِّر المطلق فلا يفتقر إلى سبب من خارج به إنفاذ حكومته ، ولا يكون ثم مانع من نَفَاذِهِ ، إذ ليس أحدٌ ينازعه ملكه ، كما ملوك الأرض إذ يَتَنَازَعُوَن ، فَيَبْغِي بعضهم على بعض ، وتلك سنة في الخلق تطرد بما جبلوا عليه من الفقر والأثرة والشح ، فـ : (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، فيأكل القوي الضعيف ، وهو ما حد له أهل السياسة المحدثة معيارا لا يَذُمُّ ، بل تلك قاعدة التطور الذي يَرُدُّ الخلق إلى أصل مجرد ، فَيَنْزِعُ عن البشر خاصة التشريف بالعقل ، وما ضُمِّنَ من معيار الحسن والقبح الذي يميز الإنسان من سَائِرِ النَّوْعِ ، فَجُرِّدَ من ذلك أَنْ سُوِّيَ بِغَيْرٍ ، فلا تفضيل ولا تكريم ، وإنما أصل مادي حقير ، قد وجد بلا موجِد ! ، ثم خبط في الحركة فأفضى إلى هذا الخلق المجرد من القيمة والمبدإ ! فقانونه قانون الطبيعة التي لا ترحم ، إذ البقاء فيها للأقوى ، فمن قَدَرَ فَلْيَظْلِمْ ، وإلا كان عاجزا لا يقدر ! ، فإن تجد ذا عفة فَلِعِلَّةٍ لا يظلم ، كما قال أبو الطيب ، فصار الظلم من شيم الملوك ، وهو ما لا يقبح إذ يحكي حكومة الطبيعة الصارمة التي تصدر عن قاعدة تطور يَنْتَخِبُ ، فلا بقاء إلا للأقوى ، وإن بَغَى وَظَلَمَ ، وذلك ما يحكي آخَرَ من التعصب لِعِرْقٍ أو عنصر ، فلا ينفك يستعبد غَيْرًا من البشر ، إن رِقًّا يُصَرِّحُ أو آخر يُكَنِّي ! ، فلا يرى في الإنسان إلا مادة تُسْتَعْمَلُ فلا تجاوز الحس المحدث ، إذ لا تقر بحقيقة منه إلا ما يرصد بالتجريب والبحث ، لا جرم كان من علوم الاجتماع في الجيل المتأخر ما صدر عن وضعية لا تقر إلا بالمحسوس ، فصار المثال في حد القاعدة الاجتماعية : الكلب أو القرد ..... إلخ ، إذ لا يصدر الاجتماع الحديث إلا عن معيار المادة التي يتناولها الحس المحدث ، فذلك الجسد الذي استوى فيه الإنسان والكلب والقرد ! ، فليس ثم حقيقة تَلْطُفُ ، وبها امتاز الإنسان المكلَّف أن كان له من ذلك روح تكمل ، فآثارها تجاوز حياة الحس والحركة ، فَثَمَّ أُخْرَى من الفكرة والشرعة ، وليست تقوم بداهة إلا بعقل تام يدرك من المعاني ما جاوز الحس ، لا جرم كان له من المنطق ما يبين ، وهو حكاية عقل أول يميز ، وذلك تأويل لروح لطيف ، فروح الإنسان المكلَّف محل تكليف أول بما وَقَرَ في الجنان من التصور والإرادة ، وهما باعثا الحركة في الخارج ، إن قولا أو عملا ، إن فعلا أو كَفًّا ، فكان من قواعد الاجتماع المحدَث ما أهدر الخاصة الإنسانية الأشرف ، فكان من ذلك مثال الوضع المحدَث الذي يسلك بالإنسان مسلك المادة المجردة ، فَلَيْسَ إلا شَيْئًا من جملةِ أشياء تُسْتَعْمَلُ ، وقيمته لا تجاوز ما يُنْتِجُ وَيَسْتَهْلِكُ ، فلا يمتاز من الحيوان الأعجم الذي لا يجاوز تصوره مدارك حسه من لذة وألم يباشر ، وقد صار المرجع في باب التحسين والتقبيح دون آخر يجاوز ، فيحكي من القيم والمبادئ ما يَمِيزُ الإنسان ذَا العقل والمنطق من الحيوان الأعجم ، فكان من قواعد الاجتماع المحدَث ما يتبجح أنه يسلك بالإنسان مسلك الحيوان أو المادة الاستعمالية المجردة من الأخلاق والأحكام ، فانحط الاجتماع المحدَث بالإنسان إذ قصره على الجسد فلا يَتَنَاوَلُ من بحثه إلا ما يدرك بالحس ، فأهدر منه الحقيقة المركبة من الروح والجسد ، وله من بواعث الفكرة والشرعة ما يلطف ، فذلك مما يجاوز معيار الحس المحدث ، فليس منه إلا صورة اللحم والدم لا آخر يجاوز مما لطف من مادة الروح وهي مناط الأديان والأخلاق التي تميز الإنسان من سائر الأجناس ، فوحده ذو المنطق الذي يحكي من العقل ما ينصح ، ووحده من له من الأديان والأخلاق ما يأطر على جادة الحكمة ، فَثَمَّ من العقل حَكَمَةٌ تُلْجِمُ النَّفْسَ ، وليست تكمل إلا أن تُرْفَدَ بآخر من حَكَمَةِ الوحي التي تأطر النفس على جادة العبودية الحقة ، وبها تحرير الإنسان من رق المادة التي لا تجاوز مدارك الحس ، فلا غاية من الإنسان إلا أن يُتَّخَذَ آلةً بها تثمير الربح وحصول اللذة ، وهو ما يصدر عنه كُلُّ مثال أرضي يغلو في حقيقة الإنسان ، فهو الإله الذي حلت فيه الروح العليا ، وهو ما يَتَحَكَّمُ بعدا أن يقصر ذلك على جنس أو شعب قد اختير ، فصار له من الْبُنُوَّةِ ما يُسَوِّغُ ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، وذلك أصل عام قد استغرق المقالات المحدثة ، وإن لم يكن لها نسبة إلى الرسالات تثبت ، ولو المبدَّلة ، فكان من ذلك مثال محدث في الجيل المتأخر ، وهو باعث احتلالٍ وانْتِهَابٍ على قاعدة تطور تَرَى في غير أنه لَمَّا يَسْتَكْمِلْ بعد وصف الإنسان الذي تَحَكَّمَ الأقوى فَحَدَّ من ماهيته ما لا يجاوز ذاته ، فغيره ليس بِبَشَرٍ يَكْمُلُ ، فَنَزَعَتْ عنه خاصة التكريم والتفضيل ، فليس إلا المادة التي يستعملها الأقوى في مثال أرضي محدَث ، مع إسراف في القتل والسفك ، فالصالح من الآخر هو الميت ، كما طلائع احتلال أولى قد جازت إلى العالم الجديد فلم تَرَ صالحا من أهله إلا المقتول ، وكذا آخر في الأرض المقدسة ، وله تأويل في الحال يُشْهَدُ ، فَثَمَّ الإسراف في القتل والتبجح بالسفك والهدم فلا يُكَنِّي بل يُصَرِّحُ ، وَيَرَى ذلك ما لا يُعَابُ ولا يَقْبُحُ ، فقد نَزَعَ عن الخصم خاصة الإنسان فاستحل منه ما استحل ، فصدر عن مثال التحكم في الاختيار الذي غلا في الحقيقة الإنسانية لدى المبدإِ ، فقد حَلَّتْ فيها روح إلهية عليا ، ثم كان آخر قد قصر هذه المادة الحلولية على عرق أو عنصر ، قد تحكم في الدعوى أنه الأفضل ، ولو لم يُقِمْ على ذلك دليلا ينصح ، بل دليل الوحي المحكم بضد يشهد ، فـ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وذلك المعيار الذي به صلاح الأرض ، لا آخر من حال الخلق إذ يَبْغِي بعضهم على بعض إذا لم يكن ثم مرجع من خارج يجاوز قد سلم من الأهواء والحظوظ كافة ، وتلك مادة فساد في الأرض ، إذ كُلٌّ إلى مُلْكِ غيره يفتقر ، فيكون من ذلك تخاصم وتقاتل ، وليس ثم معيار من خارج يأطر ، وليس ثم مرجع يجاوز من حكومة وحي ناصح يحكم مَا نَفَذَ من سَنَنِ التدافع ، فَثَمَّ من حال الملوك في الأرض ما يدل ضرورة على ضِدٍّ من حال مالك الملك ، جل وعلا ، إذ بِضِدِّهَا تتمايز الأشياء ، فَلَهُ ، عز وجل ، من الغنى ما أُطْلِقَ ، ولهم من ضده : فَقْرٌ ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وهو باعث الشح والأثرة وما يكون من البغي والعدوان بغير حق ، وأولئك لا استقلال لهم بالحكم ، بل لا ينفك كُلٌّ يَفْتَقِرُ إلى أدوات إنفاذ ، بل الملك من ملوك الأرض ، هو في نفسه سبب به إنفاذُ قَدَرٍ أول ، ولو في وجودهم لدى المبدإِ ، وهو ما استوجب قَيْدًا يميز في قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، على تأويل : لو كان فيهما آلهة تَسْتَقِلُّ بالفعل والتأثير سوى الرب الحميد المجيد ، جل وعلا ، لو كان ذلك لفسدت السماوات والأرض ، ولكنه لم يكن ، فدل ذلك على انْفِرَادِ واحد بالخلق والحكم .
والشاهد أَنَّ ثم من آحاد المقدورات ما يحدث ، فَلَهَا من العلم مَنَاطٌ أول وهو التقدير في الأزل ، ولها منه مناط ثان ، وهو عِلْمُ الإحصاءِ الذي يستغرق الموجودات كَافَّةً ، فذلك تصديق ما كان أولا من المقدورات في علم محيط في الأزل ، فَلَهُ من وصف القدم ما يضاهي قِدَمَ الذات ، فقد قام بها في الأزل ، فَلَهُ من الأولية المطلقة ما يعدل أولية الذات المطلقة ، وذلك أصل قد استصحب في الإلهيات كافة ، فإن من القدم والأولية ما عم فاستغرق الذات القدسية وما يقوم بها من الوصف ، ومنه وصف الفعل ، وهو ما ينصرف إلى النَّوْعِ ، فإن من الآحاد ما يصدق فيه أنه المحدَث ، لا أنه المخلوق من العدم ، بل له من النوع ما قَدُمَ ، وهو ما حصل في الأزل على حَدِّ الكمال المطلق ، فكان له من ذلك وجود أول ، وذلك أصل في الباب يُسْتَصْحَبُ ، فَإِنَّ قِدَمَ الذات وما يقوم بها من الوصف ، إن وصفَ الذات أو آخر من الفعل بما انصرف ، كما تقدم ، إلى نوع الفعل دون آحاد منه تحدث ، فإن كل أولئك مما ثبت في الأزل على حد الكمال المطلق ، فتلك الأولية في النصوص الإلهية ، وهي ما نَصَّ عليه الوحي نَصَّ الخبرِ المحقق ، فكان من ذلك قصر بتعريف الجزأين يُؤَكِّدُ وهو ما يجري مجرى الحقيقة بالنظر في دلالة الأولية المطلقة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ) ، وهو ما رَفَدَ "أل" إذ تحكي لدى المبدإ : بَيَانَ الجنس المطلق ، وآخر في الدلالة يستغرق وجوه المعنى ، فتلك الأولية المطلقة ، وآحاده ، وهو ما يَرْفِدُ دلالة "أل" أنها عهد خاص يَنْصَرِفُ إلى واحد في الخارج لا نِدَّ له ولا نظير يُضَاهيِ ، وهو أصل يَطَّرِدُ في الأسماء والصفات كافة ، فإن دلالة "أل" في الأسماء الحسنى مما يحكي معنى لا تجوز فيه الشَّرِكَةُ ، وهو الكمال المطلق الذي لا يَتَطَرَّقُ إليه النقص ، من وجه ، فلئن جازت الشركة في الأجناس الدلالية المطلقة كما الأولية والعلم والحكمة .... إلخ ، فلا تجوز في الحقائق الخارجية إذ لكلٍّ منها ما يواطئ ذاته ، فَلَا تُطْلَقُ الأسماء في باب الإلهيات مُحَلَّاةً بالأداة "أل" ، إلا وهي تَنْصَرِفُ إلى كمال مطلق ، وذلك ما لا يصدق إلا في واحد في الخارج ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، فدلالة "أل" في "الأول" و "العليم" و "الحكيم" ...... إلخ ، تلك دلالة العهد الخاص الذي ينصرف إلى الكمال المطلق ، فلا يكون إلا لواحد في الخارج ، له من المعنى كمال مطلق ، وَأَزَلِيَّةٌ فَهُوَ الثابت لَدَى المبدإِ ، فعنه تصدر المخلوقات المحدثات كافة ، صدور المخلوق عن الخالق الأول بما يكون من كلم تكوين ينفذ ، وذلك مما عم الأشياء كافة ، فهو أصل قد اطرد في المخلوقات المحدثات كلها ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
وتلك ، كما تقدم ، أولية مطلقة قد تَنَاوَلَتِ الذات والاسم والوصف ، إِنْ وَصْفَ الذات أو وصفَ الفعل ، على التفصيل آنف الذكر ، إِنْ وَصْفَ المعنى أو وصفَ الخبر الذي لا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ ، فالعقل ، بادي النظر ، لا يُثْبِتُ ولا يَنْفِي ، بل غايته في الصفات الخبرية أن يُجَوِّزَ ، وذلك مما استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا اسْتُصْحِبَ فيه العدم ، عدم العلم فليس دليلا على العلم بالعدم من وجه ، وليس ، من باب أولى ، دليلا على الوجود ، بل العقل يَتَوَقَّفُ في الباب ، فَلَا يُثْبِتُ ولا يَنْفِي ، إذ الجائز يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، فيجري ذلك مجرى التأويل إذ يَفْتَقِرُ إلى قرينة الترجيح من خارج ، فلا تكون الدعوى المطلقة هي الدليل ، بل ذلك مما يفسد في الاستدلال إذ يصادر على المطلوب ، فصاحبه يستدل بصورة الخلاف التي لا يُسَلِّمُ بها خصمه ، فكيف يصيرها مقدمة في الاستدلال تَثْبُتُ ، ويصدر عنها في تَرْكِيبٍ وَتَصْنِيفٍ يُفْضِي إلى نَتِيجَةٍ نظرية تُسْتَنْبَطُ ، فَشَرْطُ النظري أن يصدر عن أول هو الضروري ، فيكون من مقدمات الضرورة في الخارج ما يَتَرَاكَبُ في الاستدلال الناصح إذ يُوَاطِئُ مِعْيَارَ العقلِ السالمِ من الآفة ، فلا يسفسط ، المسدَّدِ في القول والعمل ، فلا يجحد ، مع ظهور أدلة تُورِثُ اليقين الجازم ، فمبدأ الاستدلال النظري : مقدمات ضرورية يَنْتَظِمُهَا القياس المصرح ، فهو المنهاج الذي يسلك الباحث لِيَتَوَصَّلَ إلى معلوم نظري يُسْتَنْبَطُ ، فشرطه ، كما تقدم ، أن يصدر عن مقدمات ضرورة تَنْصَحُ ، ولا يكون ذلك إلا أن يسلم بها الخصوم كافة ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بدعوى مطلقة هي في نَفْسِهَا تَفْتَقِرُ إلى دليل يُثْبِتُ ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، فقد جاوز المستدل ، فَرَجَّحَ في الجائز بلا مرجِّح ، وَأَثْبَتَ من الوجود ما يَزِيدُ ، وليس ثم دليل إلا عين الدعوى ، فحصل من ذلك دور يَبْطُلُ ، وكان منه فساد في الاستدلال يَعْظُمُ ، إذ استدل بصورة الخلاف ، فكان دليل الدعوى هي عين الدعوى دون آخر من خارج يجاوز فهو يُرَجِّحُ فيها ، وهو ما أبان عنه صاحب الإحياء رحمه الله ، إذ لو سَاغَ لِكُلِّ أحدٍ أن يَهْذِي بدعوى الضرورة التي تُوجِبُ ما يَهْوَى ، لَسَاغَ لمخالِف أَنْ يَنْقُضَ دعوى الأول بدعوى ضرورة تُثْبِتُ ضِدًّا ، وليس يفتقر إلى دليل في الباب أخص ، فإن الأول لم يُقِمْ على دعواه دليلا يجاوز ، لِيَتَكَلَّفَ المخالِف نَقْضَهُ ، بل لم يكن منه إلا دعوى تطلق ، وهي مما أَجْزَأَ فِي رَدِّهِ أخرى تُطْلَقُ ، إِذِ اسْتَوَيَا فِي القدرِ وَاخْتَلَفَا في الوجه ، فكان من ذلك تكافؤ فَتَسَاقُطٌ ، وذلك أصل في الجدال يُسْتَصْحَبُ ، كما أبان عنه في موضع آخر ، في باب التقليد ، فَإِنَّ مَنْ تَعَصَّبَ لإمامٍ بلا دليل ، فخصمه يحاجه أن ساغ لآخر أن يُقَلِّدَ إماما يخالفه دونَ دليلٍ في الباب ثابت إلا الدعوى المطلقة أَنَّ الإمام على حق ، ولو لم يُقِمْ صاحبها الدليل ، فيكون من ذلك ، أيضا ، تَكَافُؤٌ فَتَسَاقُطٌ ، فليست دعوى إمامك بأولى بالقبول من دعوى إمامه ، وليس لأحدكما دليل أخص إلا دعوى مطلقة أن الإمام على حق ، وهو ما افْتَقَرَ إلى دليلٍ من خارج يَثْبُتُ ، فلم يكن إلا دعوى في الباب تُطْلَقُ ، وَبَاعِثُهَا ما ذُمَّ من التعصب ، تقليدا بلا دليل يُرَجِّحُ ، فَلَوْ ساغ لِعَجْزِ الناظرِ أن يستدل ، فتلك الضرورة التي تُقَدَّرُ بِالْقَدْرِ ، وشرطها ألا يَتَعَصَّبَ لإمامه في كلِّ قولٍ ، فيزعم له الحق المطلق ، فتلك دعوى عصمة ، والأصل امتناعها في الخلق كافة ، إلا من عُصِمَ من أصحاب الرسالات ، فذلك الاستثناء لا الأصل ، احْتِرَازًا في موضعِ ضرورة تقدر بالقدر ، فلا يَتَوَجَّهُ التكذيب لهم أو الرَّدُّ أنهم قد أَخْطَئُوا في البلاغِ أو البيانِ ، فكان من العصمة ما تَنَاوَلَ كُلًّا ، البلاغ والبيان ، لمكانِ الرسالة في إقامة الحجة ، وإلا ما نصحت في الباب ، ولجاز لمنكِر النبوات أن يحتج باحتمال الخطإ ، وهو ، في هذا الموضع ، وإن استدل بالاحتمال المطلق دون أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا في الباب يُثْبِتُ ، إلا أنه ، من وجه آخر ، قد استدل بأصلٍ في الباب يُسْتَصْحَبُ ، وهو خطأُ البشرِ فلا أحد يعصم ، بِمَا جُبِلَ عليه الإنسان من النسيان والخطإ ..... إلخ من عوارض تطرأ ، فذلك الأصل في المخلوق المحدَث ، وبه استبان القدر الفارق بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، إذ بضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، فامتاز الخالق ، جل وعلا ، بما تَقَدَّمَ من وصفِ العلمِ المحيطِ الذي اسْتَغْرَقَ ، وهو ما تناول الكليات والجزئيات كافة ، فكان من ذلك تقدير في الأزل هو المحكم ، وكان من تَالٍ ما به تأويل المقدور أن يحدث ، فيكون له من الوجود في الخارج ما يُصَدِّقُ ، فذلك ما يكون بمشيئة تَنْفُذُ ، وَكَلِمِ تكوينٍ عنها يصدر ، وهو ، كما تقدم ، من العلم الذي يُصَدِّقُ بما يكون من إيجاد وتدبير ، فهو التأويل لأول من التقدير ، فَثَمَّ من العلم تال قد استغرق الجليل والدقيق ، كما العلم الأول قد استغرق الكليات والجزئيات في التقدير ، فحصل من ذلك وصف أول يقدم ، مع آحاد له في الخارج تحدث ، وهي تعلق العلم بالموجود المعلوم إذ يصدق أولا من تعلق العلم في الأزل بالمعدوم المقدور ، فإنه مبدأ التقدير ، وإن كان له وصف الثبوت ، فذلك ما تناول العلم الأول المحيط ، فليس له تال من الوجود ، إذ لما يَزَلْ في العدم ، فهو الجائز الذي لمرجح يفتقر ، أن يتأوله فيرجح فيه الوجوب بعد الجواز ، والوجود بعد العدم ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بمرجِّح من خارج الجائز ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الدعوى التي لا يجزئ إطلاقها في إثباتها ، بل ذلك التحكم المحض أَنْ يُسْتَدَلَّ على الشيء بنفسه فيكون من الدور ما يَبْطُلُ ، فلا يستدل بدعوى مطلقة لا يسلم بها الخصم فهي صورة الخلاف فلا يُسْتَدَلُّ بها ، وإنما يُطْلَبُ لها الدليل من خارج ، وكذا الجائز آنف الذكر ، فالدليل يُطْلَبُ له من خارج ، وإلا كان التحكم ، كما التحكم في الدعوى آنفة الذكر ، دعوى الصحة المطلقة في كل قول للإمام المتبوع في الفقه ، فإنها مِمَّا يَفْتَقِرُ إلى الدليل المرجِّح من خارج ، فلا تكون هي الدليل على نَفْسِهَا ، فليس ثم إلا تعصب صاحبها أن غلا في إمامه فاعتقد فيه عصمة ليست لأحد من الخلق إلا من اختصه الله ، جل وعلا ، بالنبوة والوحي ، فَصَنَعَهُ على عينه ، وجعل فيه الرسالة ، فذلك استثناء من أصل ، فَلَا يُقَاسُ عليه ، بل تلك ، أيضا ، ضرورة تقدر بالقدر ، إذ اختص بها آحاد من الخلق ، فليست أصلا في الباب يَعُمُّ ، بل هي الاستثناء وهو ما يَفْتَقِرُ إلى دليل إثبات من خارج ، بل هو في هذا الموضع ، آكد من دليل الترجيح في الجائز ، فإن الجائز مما استوى طرفاه في الحد ، فيطلب المرجِّح من خارج ، وأما دعوى العصمة فهي خلاف أصل أول يستصحب ، فلم يكن منها طرفان قد استويا ، بل ثم راجح مستصحب أن الأصل في الخلق الخطأ وعدم العصمة ، فإذا رام المستدل إثباتَ ضِدٍّ ، فهو يُثْبِتُ الاستثناء الذي يخالف عن الأصل ، فيطلب المرجِّح ، من باب أولى ، بل قَدْ وَجَبَ في هذا الموضع أن يكون الأقوى ، إذ يُقَابِلُ أصلا هو الأرجح ، لا آخر يعدله في الحد ، كما طَرَفَا الجائز مبدأَ النظرِ ، لا جرم كان من رحمة الله ، جل وعلا ، بالخلق ، أَنْ أَقَامَ من أدلة الإثبات والصدق في باب النبوات ما قد بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ إذ الحاجة إليها أعظم حاجة ، فهي ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أعظم من حاجة البدن أن يأكل ويشرب وينكح ، وإن كان من تلك حاجات ضرورة تعظم ، فحاجة الروح إلى الوحي أعظم ، بل وحاجة البدن إليه تعظم إذ يبين له عن حكومات في الفقه تَنْصَحُ ، فحاجة الروح أعظم إذ هي المحل الأشرف ، فكان من حاجتها ما رَجَحَ حاجة البدن ، وهو ، مع ذلك ، يفتقر إلى الوحي ، إذ له من حكومات الفقه ما يُحْمَدُ ، فامتثاله مما يُصْلِحُ الشأن كافة ، إن في المأكل أو في المشرب أو في المنكح ...... إلخ من أفعال الجبلة ، فحاجة الخلق إلى النبوة أعظم حاجة ، لا جرم كان من أدلتها ما كَثُرَ ما لم يكثر في غيرها ، فأفاد من التواتر ما يَقْطَعُ ، إذ يفيد من اليقين ما يجزم ، وذلك ما تَنَاوَلَ النَّوْعَ والشَّخْصَ ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، وعمدتهم في ذلك حديث هرقل ، فقد سأل عن مسائل تَتَنَاوَلُ الدعوى ، وذلك مسلك النوع في الاستدلال ، وسأل عن أخرى تَتَنَاوَلُ المدَّعي ، وذلك مسلك الشخص في الاستدلال ، فَحَصَلَ من ذلك ما ينصح في النبوات ، وكان من أولئك ما يُثْبِتُ العصمةَ ، عصمة البلاغ والبيان ، فلا يقول النبي فيهما إلا الحق ، كما في حديث ابن عمرو رضي الله عنهما ، وفيه : "كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: تَكْتُبُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ، حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ»" ، وذلك أمر إرشاد ونصح ، ولا يخلو من دلالة الإيجاب ، ولو في الجملة ، فهو مما تَوَجَّهَ إلى المجموع لا الجميع حتى تحصل منه الكفاية التي تجزئ في حفظ الدين المنزل ، وذلك تأويل الخبر في الآي المحكم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وذلك وَعْدٌ يَصْدُقُ ، وهو مما عَظُمَ في الحد ، فَحَسُنَ لأجلِ ذلك الإسناد إلى ضميرِ الجمعِ ، فَثَمَّ مِنَّةُ تَعْظُمُ من التَّنْزِيلِ ، وهو مما ضُعِّفَتْ عَيْنُهُ من العامل "نَزَّلَ" مَئِنَّةَ التكرارِ الذي يَتَنَاوَلُ الآحاد التي تَنَزَّلَتْ منجَّمة ، وثم أخرى قد أطنب بها من الحفظ ، حفظ الذكر المنزل في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان من التوكيد في الشطر الأول : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، كان منه توكيد بالناسخ المؤكد "إِنَّ" ، وآخر باسمية الجملة ، فهي تحكي الديمومة والثبوت ، وثم من الضمير "نحن" ما احتمل ، كما يقول بعض من أعرب ، إذ حَدُّهُ في الاصطلاح أنه ضمير رفع ، وهو ما اسْتُعِيرَ في هذا الموضع تَوْكِيدًا لضميرِ نصبٍ "نَا" الدالة على الفاعلين في "نَزَّلْنَا" ومحلها النصب إذ هي اسم الناسخ ، والقياس أن يُؤَكِّدَ الناصبَ ناصبٌ مثله ، فاستعير المرفوع من الضمير "نحن" ، فهو مما يواطئ "نَا" في الدلالة ، مع آخر يَلْطُفُ ، فإن "نا" مما يتناوله الاحتمال : الرفع والنصب والجر ، فاغتفر لأجل ذلك ورود "نحن" مؤكدا له ، فإن من "نَا" ما احتمل الرفع ، ولو لم يُرْفَعْ في هذا الموضع ، مع آخر يزيد ، فإنه قَبْلَ دخول الناسخ ، مما يقدر بالضمير "نحن" ، فَيَجْرِي مجرى المبتدإ ، وهو فاعل المعنى ، فَجَازَ أن يُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ يُضَاهِي ، وثم من أجرى "نحن" مجرى الابتداء لجملة هي الخبر ، فيكون من ذلك إطناب يؤكد ، وثم آخر من حَدِّ خبر الجملة : (نَحْنُ نَزَّلْنَا) ، وهو "نَزَّلْنَا" ، من حَدِّهِ جملة أخرى هي الفعلية ، وثم من تكرار الإسناد ما زاد في الدلالة ، فجرى مجرى التوكيد ، إذ كان منه أول وهو فاعل المعنى ، وذلك المبتدأ "نَحْنُ" الذي أسند إليه الخبر "نَزَّلْنَا" ، وذلك من جنس آخر قد تلا ، وهو فاعل اللفظ ، فتلك دلالة "نَا" التي أُسْنِدَ إليها فعل التَّنْزِيلِ ، وثم إطناب آخر يؤكد ، تكرار الناسخ "إِنَّ" في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان الإطناب في الوعد ، وهو ما حُدَّ ، أيضا ، اسمية تحكي الثبوت والديمومة ، وثم توكيد آخر في اللفظ بما كان من لام الايتداء التي تأخرت فَزُحْلِقَتْ في "لَحَافِظُونَ" ، فمحلها الابتداء وإنما تأخرت في اللفظ وَالْكَتْبِ كراهةَ أَنْ تُزَاحِمَ الناسخ محل الصدارة ، فيجتمع اثنان من جنس واحد في موضع واحد من الكلام ، فتأخر الأضعف وهو اللام إذ "إن" أم الباب فَلَهَا منه الصدارة مطلقا ، وثم من تقديم الظرف "لَهُ" وحقه أن يتأخر ، ثم منه دليل حصر وتوكيد .
ولا ينفك ، ولو من وجه يلطف ، يحكي إنشاء يأمر بحفظ الذكر ، وذلك الاسم الأعم الذي تَنَاوَلَ ما يجاوز المتبادر من ذكر التَّنْزِيلِ المتواتر ، فَثَمَّ ذكر الشريعة ، وهو ما عم الآحاد والمتواتر ، فكان من ذلك خبر يُرَادُ به الإنشاء ، وذلك ما اصطلح في البيان أنه الاستعارة ، وهو مما به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فمنه الاستعارة آنفة الذكر ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل أول يطرده في مواضع الخلاف كافة ، أن ذلك مما اشتهر في عرف اللسان المتداول ، فتلك الحقيقة العرفية الأخص التي تَقْضِي في أخرى أعم .
فَثَمَّ أمر بحفظ التَّنْزِيلِ كَافَّةً ، وهو ما تناول الآي والأخبار ، بل لو قُصِرَ عَلَى الآي فلا يتم حفظها إلا بحفظ الأخبار ، وهو مما يرجح في دلالة الأمر في الخبر آنف الذكر أَنِ : "اكْتُبْ" ، ما يرجح فيه دلالة الإيجاب ، ولو بالنظر في المجموع فيجري مجرى الفرض الكفائي الذي يسقط إذا حصل المراد بِفِعْلٍ بعضٍ لا كُلٍّ ، وهو من جملة أدلة قد تَنَاوَلَهَا مَنْ يُثْبِتُ كتابةَ السنة لدى المبدإ ، وهو سابق التدوين الذي جَمَعَ ، فكان من الْكَتْبِ مَبْدَأَ الأمرِ : صحفٌ كما الصادقة ، صحيفة ابن عمرو ، وكما صحف أخرى قد ثَبَتَتْ ، وَثَمَّ من المصنِّفِينَ من رواها كاملة ، أو انْتَقَى منها ما يُوَاطِئُ شَرْطَهُ ، لا أن بَقِيَّتَهَا خطأٌ أو كَذِبٌ ، بل لم تُوَاطِئْ شرطَه الذي اشترط ، إذ كان منه ما عَلَا في الدرجة ، كما الصحيحان .
فكان من الدليل الذي به يَسْتَأْنِسُ مَنِ اسْتَقْرَأَ نصوصًا من الأثر تَثْبُتُ ، وفيها دليل لِلْكَتْبِ يُجَوِّزُ ، كان منها ما تَقَدَّمَ في حديث ابن عمرو إذ أمره صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ يَكْتُبَ ، فكان من ذلك إرشاد ونصح ، ولا يخلو من لمحِ زجرٍ يُبْطِلُ مَا كَانَ من دعوى القوم إذ نهوا ابن عمرو ، فظنوا من كلام صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يُعْصَمُ إذ يَتَكَلَّمُ في الرِّضَا والغضب ، فكان من الأمر ما يُنْكِرُ وَيُبْطِلُ ظَنَّهُمْ ، فذلك لمح الزجر في الأمر آنف الذكر ، فقد نهته قريش ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، ذلك مما يجري مجرى المجاز عند من يجوزه في اللسان والوحي ، فذلك من إطلاق كُلٍّ وهو قريش وإرادة بَعْضٍ ، وهم آحاد منها ، فأولئك من آمن من المهاجرين ومن تبع من الطلقاء ، فلم ينهوه جميعا في آن واحد في صعيد واحد ! ، فذلك ، بداهة ، مما لا يُتَصَوَّرُ في العقل الناصح ، وإنما نهاه آحاد منها ، وذلك نهي يُحْمَلُ ، أيضا ، على النصح لا التحريم ، وإن لم يخل من زجر وإنكار ، فإنهم استنكروا ما كان من حاله إذ يَكْتُبُ كُلَّ شيءٍ ، وهو ما صَدَّرَهُ بالكينونةِ الماضيةِ في "كُنْتُ" ، وهي مئنة الديمومة والاستمرار ، وذلك آكد في البيان والإثبات ، وثم من المضارعة في الخبر ما به استحضار صورة قد انْقَضَتْ ، مع آخر يحكي ديمومة واستمرارا بالنظر في حاله الماضية ، فتلك سنته الجارية ، ولا يخلو ذلك ، من إطناب في الخبر ، إذ حُدَّ جملةً ، وهي المضارع "أَكْتُبُ" ، وما اسْتَتَرَ فيه من الضمير وجوبا ، فذلك ضمير المتكلم المستتر ، وتقديره ما يعدله من الضمير البارز ، وهو ضمير المتكلم "أَنَا" ، وثم من أَلِفِ المضارعة صَدْرَ الفعلِ "أَكْتُبُ" ، ثَمَّ مِنْهَا ما يدل على الضمير المستتر ، فهو يُعَيِّنُ جهةَ الكلامِ ، وهي ما يصدر عن المتكلم ، كما التاء في "تَكْتُبُ" تُعَيِّنُ جهة المخاطَب في قولك : تَكْتُبُ الكتابَ ، فالضمير المستتر فيها وجوبا يقدر بضمير المخاطب "أنت" ، فتلك حروف المضارعة وهي ذات مدلول أخص ، وإن لم تبلغ في الحد أن تكون من حروف المعنى الخالصة ، إِنِ العاملةَ أو غيرَ العاملة ، فالألف في "أَكْتُبُ" ، والنون في "نَكْتُبُ" وهي دليل ضمير قد اسْتَتَرَ وتقديره ما يحكي الجمع فَيُقَابِلُ في المظهر "نحن" ، والتاء في "تَكْتُبُ" ، كل أولئك من حروف المبنى ، وإن كان لها وجه من المعنى إذ تحكي عين الضمير المستَتِر في العامل ، فهي القرينة التي تُعَيِّنُ ، وهي مما تقدم في النطق وَالْكَتْبِ ، كَتْبِ العامل فَمَبْدَؤُهُ حرفُ المضارعةِ الذي يحكي دلالة أخص ، وَإِنْ لم يَبْلُغْ بها أن يكون من حروف المعنى التي تخلص لها الدلالة .
وذلك الأصل في القرينة التي تُبِينُ عن المجمل ، فالأصل أَنْ تَتَقَدَّمَ ، فيثبت منها في الذهن مرجع ، وإليه يرجع الناظر في بَيَانِ المجملِ المتأخِّر ، فكان من تقدم هذه الحروف ما أبان عن الضمير المستور ، فدل المذكور المتقدم على المحذوف المتأخر ، وكان من ذلك في "أَكْتُبُ" ما يعدل في النطق ضمير المتكلم "أَنَا" ، فَثَمَّ إطناب في الإخبار بالجملة "أَكْتُبُ" ، فهي الفعل والفاعل المستتر ، وثم مِنَ التَّوْكِيدِ آخر قد اصْطُلِحَ أَنَّهُ تكرار الإسناد ، فَثَمَّ أول وهو تاء الفاعل في "كُنْتُ" ، وصورتها صورة المتكلم ، وذلك فاعل المعنى ، إذ هو المسند إليه مَا تَلَا من الخبر ، فأشبه الفاعل الذي يسند إليه ما يسبق من الفعل ، وثم ما استتر وجوبا في العامل "أَكْتُبُ" ، وذلك فاعل اللفظ ، فحصل من ذلك تكرار في الإسناد ، وهو مما به التوكيد يَزِيدُ ، وثم من العموم ما استغرق كل مكتوب ، فتلك دلالة "كُلَّ" ، وهي نص في الباب ، وهو ما احتمل ، أيضا ، أن يكتب ابن عمرو كل شَيْءٍ يصدر عن صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن في دين أو في دنيا ، واحتمل آخر ، وهو الأرجح ، أن يكتب ما له في الشريعة معنى ينصح ، إن في الخبر أو في الحكم ، فلا يتصور أنه كان يكتب كل شيء يصدر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وَإِنْ أَمْرَ دنيا فَلَيْسَ بمناط تشريع ، لا في الجملة ولا في التفصيل ، فيجري مجرى أفعال من الجبلة لم يشرع فيها الاقتداء الأخص ، فلا أسوة فيها من هذا الوجه ، وإن كان ثم أخرى تلطف ، فهي أسوة المحبة أن يقلد المحِب من يجب ، فتدخل ، من هذا الوجه ، في عموم الأسوة في قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس