عرض مشاركة واحدة
 
 رقم المشاركة : ( 9 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 9
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 04-03-2024 - 05:52 PM ]


وذلك حِفْظٌ قد أُطْلِقَ ، فاستغرق المبنى والمعنى ، فليس حفظ المبنى الذي لا معنى له في الخارج يعدل ، فإن المبنى لا يُرَادُ لِذَاتِهِ ، وإلا كان الصوتَ المجرَّد الذي لا مدلول له في الخارج يَثْبُتُ ، فيكون من ذلك تفكيك يواطئ ما اقترحت الحداثة بَعْدًا إذ نَسَخَتْ ، كما يقول بعض من حقق ، يقينا في النفس قد استقر بما اشتهر من عرف اللسان في الاستدلال ، فصيرت الكلام وألفاظه : الدوال بلا مدلولات ، فَثَمَّ من ذلك لفظ قد جُرِّدَ من المعنى ، فصار صَوْتًا يُلْفَظُ دون مدلولٍ في الذهن يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ إلا الصوت المجرد الذي يضاهي صوت الحيوان الأعجم ، فهو يصدر أصواتا لا مدلول لها في الخارج ، فَثَمَّ من حكاية الصوت ما لا يجاوز الحروف المقطعة ، فآلة الصوت في الحيوان موجودة ، ولكنها لا تَعْدِلُ أخرى أخص في الإنسان ، فهي آلةُ نُطْقٍ تُفْهِمُ ، إذ ثم من المعنى ما يحصل في العقل أولا ، وهو ما استقر في الجنان المجاوز للأبدان ، فليس القلب الذي يُدْرَكُ بالحس ، وبه الدم إلى الأعضاء يُضَخُّ ، بل ثم آخر أَلْطَفُ في الماهية ، فتلك الماهية الروحية ، ماهية الجوهر اللطيف الذي حَلَّ في البدن ، فحصل منهما تجاور بل وتداخل ، وبهما ماهية الإنسان المكلَّف تَثْبُتُ ، فليستِ البدنَ المحسوسَ مجرَّدًا ، فتلك آلة في الخارج لا بد لها من علم وإرادة تسبق ، فعنها الآلة تصدر ، إن في الفعل أو في الترك ، فلا تُوَلِّدُ الآلةُ المعاني الباعثةَ من نفسِها ، بل لا تنفك تطلب لذلك مرجعا يجاوز من خارجها ، فَثَمَّ الروح اللطيف ، وهي مناط العلم والإرادة ، التصور والحكم ، فَلَهَا من المدارك ما دَقَّ ، وبها يكون الإيمان بالغيب الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، فآلات البدن لا تجاوز في الإدراك المحسوسَ في الخارج ، فلا تجاوز عالم الشهادة الذي يتناوله البحث والتجريب ، وهو ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، لا يجاوز الظاهر فلا يتناول الحقائق الذاتية ، بل ثم من ذلك ما دَقَّ ، ولو في عالم الشهادة فكيف بالغيب المجاوز الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهر ، وإن النسبي الذي كشف عنه التجريب والبحث بعدا ، فلم يكن الجهل به مبدأ الاستدلال ، لم يكن حجة في الباب ، فيكون عَدَمُ العلمِ عِلْمًا بالعدم ، بل عدم العلم مما يوجب التوقف حتى يكون ثم إثبات أو نفي ، فمثله كمثل الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح في الخارج لِيَكُونَ منه وجود تال في الخارج يصدق ما كان أولا من وجودٍ في العلم المقدَّر ، فثم وجود قوة لا ينفك يطلب المرجح لِيَصِيرَ منه وجودُ فعلٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، فَكَذَا إِثْبَاتُهُ بَعْدَ أن يوجدَ ، فهو ، أيضا ، يطلب الدليل المثبِت ، فمن الجائز ما يطلب الدليل الموجِد الأول الذي يُرَجِّحُ من خارج فلا يكون التحكم في الباب ترجيحا بلا مرجح ، فيكون من ذلك إيجاد بلا موجِد ، فذلك مما يخالف عن بدائه العقل المصرح ، فمن الجائز ما لا يوجد مبدأَ الأمرِ إلا أن يكون ثَمَّ سبب من خارج يُوجِدُ ، فهو يُرَجِّحُ في أول قد استوى طرفاه في الاحتمال ، ووجوده في الخارج مما لا يلزم منه شهوده ، بل ثم منه ما قد غَابَ ، فلا ينفك يطلب الدليل المثبِت ، وإلا كان تحكم آخر أن يكون الإثبات بلا مثبِت ، وليس عدم العلم بالدليل المثبِت ، ليس علما بالعدم ، بل قد يوجد المغيَّب في الخارج ، ولا يحصل دليل وجوده لدى مستدِلٍّ ، فليس له أن يجتج بجهله على مَنْ عَلِمَ إذ حصل له من الدليل ما لم يحصل للأول ، فكذا العقل والحس في حَدٍّ ، فجهلهما بالدليل الذي يُثْبِتُ المغيَّب الذي يجاوز مداركهما ، وهو الخبر من خارج ، ذلك الجهل ليس بحجة على من بَلَغَهُ الخبر المصدَّق ، فأثبت من الغيب ما جاوز العقل والحس ، لا أنه من المحال الذاتي الذي يمتنع ، بل هو يدور بين الواجب والجائز ، وإنما عجز العقل والحس عن إثباته ، فلو أَثْبَتَاهُ ، بادي الأمر ، لكان من الشهادة ، وليست محل النِّزَاعِ ، وإنما المحل ما كان من الغيب ، فالعقل والحس يعجزان عن دركه ، فلا ينفك كُلٌّ فيه يطلب الدليل المثبت في الخارج ، وهما ، بعدا ، يحاران في حقيقة الغيب المطلق في الخارج ، وإن لم يحيلاها فهي مبدأ النظر من الواجب أو الجائز ، كما صفات الخالق الأول ، جل وعلا ، فهي مما يدور بين الواجب من الكمال المطلق ، أو آخر جائز كما الصفات الخبرية التي لا تثبت إلا بالنص ، وكذا جملة من الأوصاف الفعلية ، فَثَمَّ في الباب واجب أو جائز ، فالعقل يَتَنَاوَلُ كُلًّا مبدأَ النظرِ ، ولكنه لا ينفك يطلب دليلا يُفَصِّلُ ما أُجْمِلَ من الواجب الضروري الذي ثبت في النفس بما رُكِزَ فيها من قوى في النظر تصرح وأخرى في الفطرة تَنْصَحُ ، ولا ينفك يطلب دليلا يُثْبِتُ ما حصل من الجائز في الخارج ، فالدليل لم يُؤَسِّسْ من الحقائق ما لم يكن ، وإنما هو لها يُثْبِتُ إِثْبَاتَ الكشفِ عَمَّا غاب ، بادي الرأي ، وذلك ما اقتصر في الغيوب المطلقة على المعاني المجردة في الذهن دون الحقائق في الخارج ، فالمعاني محكمة لا يحيلها العقل ولا يحار في دَرَكِهَا فهي مما يتناولها تَنَاوُلَ الإطلاق والتجريد ، والحقائق في الخارج ، من وجه آخر ، متشابهة فلا تُدْرَكُ بالعقل أو بالحس ، وإن ثَبَتَتْ بدليلٍ من خارجهما يجاوز ، وهو الخبر الصادق ، فذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما يقتصر فيه النظر على إثبات الوجود ، لا إثبات الكيفية ، فالأخيرة من المتشابه الذي يحار العقل في دَرَكِهِ ، إذ لم يشاهده ، ولم يشاهد نظيرا له في الخارج يضاهي ، ولم يأته من الخبر ما يصدق إذا عالج من حقيقته في الخارج ما يدرك بالحس المحدَث ، فهو يحار في حقيقته ، وإن لم يُحِلْهُ ويمنع ، فهو ، كما تقدم ، يدور بين الواجب والجائز ، وكذا يقال في الغيوب النسبية ، وعليها تقاس الغيوب المطلقة ، فإن الغيب النسبي لا يدرك مبدأ النظر ، وليس عدم العلم به دليلا على العدم في نفس الأمر ، فَقَدْ ثَبَتَ بَعْدًا بما كان من آلة تجريب وبحث لم تكن مبدأَ الاستدلالِ بالحاسة المجردة ، فلم يكن جهلها إذ تَقْصُرُ مَدَارِكُهَا ، لم يكن جَهْلُهَا دليلًا على مَنْ عَلِمَ بَعْدًا إذا حصل له من الآلة ما ينصح ، وكان من العلم الحادث بَعْدًا ما يكشف عن حقائق قد ثَبَتَتْ قَبْلًا ، فالعلم لم يوجدْها وإنما كشف عنها ، فكذا الغيوب المطلقة ، فالخبر المجاوز من خارج قد كشف عنها فلم يكن منه دليل إيجاد وتأسيس ، بل الحقائق قد ثَبَتَتْ قَبْلًا ، ولم يكن الجهل بها قبل ورود الدليل من الخبر المصدق ، لم يكن دليلا على آخر يَعْلَمُ بما حصل له من الدليل المعتبر ، وهو في الغيب المطلق : الخبر المصدَّق ، كما هو في الغيب النسبي : آلة البحث والتجريب .
والشاهد أن ثم من المعاني ما يلطف ، وهو مما يجاوز البدن الذي يكثف ، فالمعنى يحصل له من خارج ، إذ يقوم بالروح اللطيف ، وهو مبدأ في التصور والحكم ، فيكون من ذلك مُؤَثِّرٌ من خارج البدن ، فهو التصور الباطن الذي يَسْبِقُ الحكمَ ، ومن الحكم ما بَطَنَ بما يكون من تصديق أخص ، فهو مما يجاوز العرفان المحض ، فَثَمَّ من التصديق ما يرجح ، وهو في الفعل أول ، إذ به الترجيح المعتبر ، وبه إثبات وقبول ويقين يجزم بعد أول من المحل قد حَصَّلَ الاعتقادَ فطرةً أولى تَنْصَحُ ، فلا تنفك تطلب من الدليل تَالِيًا ، فهو يُؤَكِّدُ من وجه ، وَيُفَصِّلُ من آخر ، وَيُقَوِّمُ المعوَجَّ من ثالث ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، وظائف النبوة ، فَثَمَّ مِنْ تَصْدِيقِ الجنانِ ما يَصْدُقُ فيه أنه حكم ، وإن كان التَّصَوُّرَ الأوَّلَ الذي عنه الحكم يَصْدُرُ ، فلا ينفك يُضَمَّنُ من الفعل المرجِّح ما يصدق فيه أنه فعل ، فهو الأخص بعد عرفان أول ، فَحَصَلَ من التصديق تَرْجِيحٌ ، وبه حكم تال في الباطن يَنْشَأُ ، وهو الإرادة التي تَتَأَوَّلُ التصورَ ، إِنْ إرادةَ فعلٍ تُرَجِّحُ الإيجاب ، أو إرادةَ تَرْكٍ تُرَجِّحُ السلب ، وهو ما يطلب بعدا من الآلة ما يصدق في الخارج بما يكون من فعلٍ هو الإيجاب ، أو ترك هو السلب ، فَثَمَّ من الآلة بدن يتأول بحركته الظاهرة التي يرصدها الحس ما يكون من حركة أولى باطنة في الجنان ، إن تصورا أو إرادة ، فتأويلهما في الخارج ما يكون من حركة الجوارح إذ تُصَدِّقُ أو تُكَذِّبُ ، ومبدأ ذلك ما يكون في الدماغ فهو آلة من جملة الآلات الفاعلة ، فَلَيْسَ المنشِئ لما لَطُفَ من المعاني ، فذلك العقل وهو طور يجاوز الدماغ ، كما الوحي طور يجاوز العقل ، وكما الروح طور يجاوز الجسد ، وكما المعنى طور يجاوز اللفظ ، فلا يثبت الكلام المفهِم بلفظ مجرَّد فذلك صوت لا ينفك يطلب من المرجع ما يجاوز ، فيكون من المعنى أول يقوم بالنفس ، ويكون من اللفظ تال يُظْهِرُ بما استقر من دلالة المعجم المفرد ، وقانون النحو والبيان المركب بما يواطئ عرف اللسان المشتهر ، فليس الصوت المجرد بمغنٍ شيئا حتى يكون من المعنى ما يُضَمَّنُ ، فالمعنى يَقُومُ بالنفس أولا ، وليس يحصل به الإفهام إلا أن يكون ثَمَّ من الدليل ما يُظْهِرُ في الخارج ، فيكون من ذلك صوت يواطئ اصطلاحا في الدلالة أخص ، فهو يعالج أولا من حاسة السمع ، وله في الدماغ مناط أخص ، وهو ما تناوله التجريب والبحث إذ يَقِيسُ ما يكون من الإفرازِ وَالنَّبْضِ إذا بَاشَرَ الصوتُ الأذنَ ، فَثَمَّ إفرازٌ وَنَبْضٌ ، وَبِهِ الحاسة تَفْعَلُ وذلك تأويل لأول من القوة التي رُكِزَتْ فِيهَا ، فالدماغ آلة من جملةِ آلاتٍ ، وإن كان لها رياسة في الحواس أخص بما يكون من الإفراز والنبض ، ولا يَسْتَقِلُّ الدماغ ، مع ذلك ، بتوليد المعنى ، بل لا ينفك يطلب مرجعا من خارج يلطف ، وذلك العقل ، وهو ، كما تقدم ، طور يجاوز الدماغ ، فإذا كان ثم معنى يحسن وَيَسُرُّ ، فإن الدماغ يفرز المحفز الذي ينشط فَيَنْبَعِثُ الجسد ويباشر ، وإذا كان ثم معنى يقبح ويحزن ، فإن الدماغ يفرز المثبِّط الذي يُقْعِدُ الجسدَ فَلَا يَنْهَضُ ، والجسد في كلٍّ واحدٌ ، فهو الآلة السالمة من الآفة ، فما حَفَّزَهُ في الأولى ، وَثَبَّطَهُ في الآخرة إلا معنى يلطف ، فمحله يجاوز الحس المحدَث ، فذلك أمر لا يمكن قياسه بالحس والتجريب ، وإن كان ثَمَّ من الآثار ما يرصد في الظاهر ، فلا تنفك الآثار تطلب أولا هو المؤثَّر ، وهو ما يتسلسل من السبب المشهود المدرك بالحس ، كما الإفراز والنبض آنف الذكر ، فيكون من ذلك ما يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي ضرورة في القياس المصرح إلى أول لا أول قبله ، فثم من السبب : سبب محدَث ، وذلك مما انقسم في الخارج ، فتقاسمه من آحاده في الخارج بعضٌ يشهد ، وآخر هو المغيَّب ، والمشهود يفضي إلى المغيَّب ، فسبب يدرك بالحس ، وآخر لا يدرك بالحس ، وإن كان مما يجوز في العقل فليس المحال الممتنع لذاته ، بل له من الوجود ما ثبت في الخارج ، وإن حَارَ العقل والحس في الحقيقة والماهية ، فهو يفتقر إلى مرجع من خارج يرجح ، فهو يثبت ما كان جائزا لدى المبدإ ، إِذْ ثَمَّ مِنَ الإثباتِ قدر يزيد ، وهو ما لا يستقل العقل والحس بإثباته ، وإن كان منهما ما يُجَوِّزُ ، باديَ النظر ، فَثَمَّ دليل من خارج قد رجح الإثبات لسبب مغيَّب بعد أول يشهد ، وإن كان كلاهما من المخلوق المحدَث ، فكان من أسباب الحس ما انتهى إلى سبب يَغِيبُ فلا يدرك بالحس ، فذلك جنس الملَك المدبِّر بإذنٍ من الرب المهيمن ، جل وعلا ، فانتهت الأسباب كافة إلى أول لا أول قبله ، إذ وجوبه الوجوب الذاتي الذي لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل الأسباب والمحال كافة إليه تفتقر أن يوجد ويدبر ، فكان من ذلك كلمات تدبير محكمة ، وبها يعالج جنسُ الملَك الكائنات في الخارج ، ومنها ما به الهمة تنعقد وتنفسخ ، فيكون من الأضداد في الخلق والوصف ما يحكي رُبُوبِيَّةً تَعُمُّ ، إذ بها خلق الأضداد والأغيار ، وما يكون من تدافعها وتعاقبها ، فأجاب العارف إذ سُئِلَ : بم عرفت ربك ؟! ، فقال : بانفساخ الهمم ، فَهِيَ تَنْشَطُ وَتَكْسَلُ ، والجسد واحد لا يتغير ، فما يحمله في حال أن يفعل ، وفي أخرى أن يترك إلا أن يكون من المرجع سبب من خارج الحس يجاوز ، وهو ما يقوم بالجنان من حركات باطنة تَلْطُفُ ، فلا يتناولها قياس التجريب والبحث الذي لا يجاوز مدارك الحس ، وهو ما نَقَضَ معيار الحداثة الذي لا يحاوز الحس في الإثبات والنفي ، فقد حَجَّرَ الواسع وقصر أسباب المعرفة على الحس الظاهر ، فكيف يجيب عن سؤال الهمة ؟! ، وما يكون من انبعاثها تارة وانفساخها أخرى ، وما يكون من حقائق في الوجدان تلطف كما المحبة والبغض ..... إلخ ، فلا معيار لها من الحس يقيس ، وبه رجع بعض من حقق عن حداثة قد انتحلها صدرَ الشباب ، فلما عالج من وصف الأبوة ما لا يُحْسِنُ يُجِيبُ عنه الحسُّ ، فذلك باطن من الفكرة ، فلما عالج ذلك عَلِمَ ضرورةً أن ثم شيئا يجاوز الحس والشهادة ، وهو ما يتسلسل حتى ينتهي ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فذلك الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فالأرواح في يده إذا شاء أَرْسَلَهَا وإذا شاء أَمْسَكَهَا ، والقلوب بين إصبعين من أصابعه ، فهو يُقَلِّبُهَا كيف يشاء ، فإن شاء هدى فضلا ، وإن شاء أضل عدلا .
والشاهد أن ثَمَّ من الهمة ما يعلو تارة ويسفل أخرى ، ولا يكون ذلك بِمَحْسُوسٍ من الإفراز والنبض ، بل ذلك أثر أول يحدث في الدماغ ، وثم تال في الجوارح يظهر ، إن نشاطا أو كسلا ، والعقل هو المبدأ في ذلك بما احتمل من المعاني المحفِّزة أو المثبِّطة ، فَهُوَ معدن النطق الذي امتاز به الإنسان ذو الإدراك التام الذي يُنَاطُ به تكليف الرسالة وحملان الأمانة ، فاحتالت الحداثة أَنْ تَنْقُضَ نَصَّ الرسالة ، فتبطل منه المدلول ، وإن استبقت دوال اللفظ المنطوقة أماني تُتْلَى فلا تفيد من المعاني المفهِمة ما ينصح ، وهو ما افتقر إلى مثال جديد من الكلام ، فهو الحامل للمعاني والأفكار ، فكان من مذهب التاريخانية ما أبطل المدلول المتعدي إلى جيل تال يتحمل من الأفكار ما اتصل إسناده ، وهو ما يحول دون جديد ينسخ ، فكان من التاريخانية ما لَزِمَ جيله فلا يتعدى إلى آخر يعقب ، وكان من مثال التفكيك ما تناول المأثور ، إذ ثم علائق بين المنطوق والمعقول لما تَزَلْ ، وهو ما استغرق المستوياتِ كَافَّةً : المعجمِيَّ الأول ، ثم تَالٍ من الاشتقاق يَرْفِدُ المطلقات المعجمية ، وإن لم يجاوز بها حَدَّ الإفراد في النطق والمعنى ، فالاشتقاق يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ من المدلول المعجمي المطلق ، فَيَزِيدُهُ مَعْنًى كالفاعل أو المفعول أو الوصف المشبه أو المبالغة أو التفضيل ..... إلخ ، وله من حَدَّ النطق ما استقرأ أهل الشأن إذ تَنَاوَلُوا من ذلك مأثورا له من الصيغ والدلالات ما تعدد ، فكان من علمهم ما يجرد الكليات من الجزئيات ، وذلك الاستقراء ثم التركيب الذي يبلغ بالناظر حد الكلي الجامع في الذهن من الجزئي الثابت في الخارج ، فَجَرَّدَ أهل الاشتقاق مُثُلًا وموازين في النطق والكتب ، وبها تصاغ الألفاظ المشتقة من المعاني المجردة فتفيد من الدلالة ما يزيد على المعنى المعجمي المفرد ، وكذا ثالث من النحو ، فهو المعيار الناظم لما أُفْرِدَ من الدوال اللفظية المفردة ، وكذا رَابِعٌ من الْبَيَانِ يَلْطُفُ ، وهو ما تَنَاوَلَ معنى ثانيا لا يَنْصَحُ إلا إذا صَحَّ المعنى الأول ، معنى النحو المركب ، وهو ، أيضا ، ما لا يَنْصَحُ إلا إذا صح اللفظ المفرد ، فَصَحَّ في النطق بما نصح من المخارج والصفات ، وصح في المدلول ، وهو ما تناوله بحث المعجم الأول ، إذ يَنْظِمُ الحروف المقطعة في مَبَانٍ تَتَفَاوَتُ ، فمنها المهمل ومنها المستعمل ، وهو ما افْتَقَرَ إلى مَرْجِعٍ من خارج يجاوز ، مرجع الآثار المنطوقة ، المنظومة والمنثورة ، فَثَمَّ استقراء واستنباط ، وهو ما يحرر المراكز الدلالية التي تدور عليها المادة المنطوقة ، مَادَّةُ الدَّالَّةِ ، فهي لفظ ذو مرجع دلالي ، وَبَيْنَهُمَا من التلازم العقلي ما يَقْرِنُ ، فإذا حصل المعنى في الذهن تَبَادَرَ إلى النطق ما يلازمه من اللفظ ، وإذا حصل اللفظ ، فالمخاطَب يستدعي المعنى المقارن بما تقدم من العلائق المحكمة بين الدوال والمدلولات ، لا جرم حرصت الحداثة أَنْ تَتَنَاوَلَ هذه العلائق بِالْبَتِّ ، فَأَفْرَغَتِ الدالة من المدلول ، وصار اللفظ من المنطوق المجرد فليس ثم مفهوم يُعَيَّنُ ، ثم تصرفت الحداثة بعدا بمذهب آخر يَتَنَاوَلُ الْبِنْيَةَ المحدَثة في الجيل التالي ، فَقَدْ أُفْرِغَتِ الألفاظ من المعاني التي تَوَاطَأَ عليها الجيل الأول بما استقر من عُرْفِهِ اللِّسَانِيِّ المشتهر ، فكان نسخ أول قد تَنَاوَلَ مركز الدلالة ، وهو ما تَوَاتَرَ في لسان الجيل الأول ، فَأَفَادَ علمَ ضرورةٍ في الباب ، فلا يفتقر إلى نظر أو استدلال ، وإنكاره وجحده ، فضلا عن استبدال آخر به وَنَسْخِهِ ، ذلك ، لو تدبر الناظر ، سفسطة لا يجدي جدال صاحبها شيئا ، فليس ثم كلمة سواء إليها يرجع الخصوم ، بل الخصم المسفسِط لا يُقِرُّ بمبادئ من الاستدلال ، فهو ينكر مقدمات الضرورة التي لا تفتقر إلى نظر ولا استدلال ، فهي محل الإجماع الأول ، وبه بناء الاستدلال بعدا يحكم ، فلا يكون ذلك إلا وثم مقدمات قد أجمع عليها الخصوم ، فإذا جادل خصم وَمَارَى ، فلا يُقِرُّ بمبادئ الدلالة في معجم اللسان المطلق ، مع آخر يتكلف من التأويل البعيد أو الباطن ما يخالف عن ظاهر الدلالة المتبادر بما كان من معنى أول يَتَنَاوَلُهُ درس النحو الناظم ، فثم منه ظاهر راجح أو نص جازم ، وهما أول ما يحصل من الدلالة المركبة بعد أخرى مفردة لا تجاوز بحث المعجم المطلق ، فَثَمَّ من التركيب قرينة ترجح في اللفظ إذا احتمل أكثر من وجهٍ معتبر ، وشرط اعتباره ، كما تقدم ، أن ينصح له من دليل الأثر ما يَثْبُتُ ، فقد استقر في العرف المتداول لدى الجيل الأول الذي ورد النص بمعياره اللِّسَانِيِّ ، فَثَمَّ من ذلك مادة مجردة في الذهن قد تَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ من وجهٍ ، فيكون من ذلك اشتراك يُجْمَلُ ، فلا ينفك يطلب من القرينة ما يُبَيِّنُ إذ يُرَجِّحُ من المشترك وجها دون آخر ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، عملٌ يُضَاهِي في الحد الترجيحَ في جائزٍ قد استوى طرفاه في الحد ، فالجائز ، كما المشترك ، وإن كان من الجائز طرفان لا أكثر ، فإما إيجاب وإما منع ، فالجائز لدى المبدإ : عدم أول يستصحب ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، فذلك شطر ثالث من قسمة العلوم في الذهن ، فالعلم يتناولها جميعا ، ومنها ، كما تقدم ، المحال الممتنع لذاته ، فليس إلا الفرض المحض تنزلا في الجدال مع الخصم ، فكان من العلم ما أُطْلِقَ في آي من الذكر قَدْ أُحْكِمَ ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، فَثَمَّ الاستئناف الذي صُدِّرَ بالمؤكد الناسخ "إِنَّ" ، ولا ينفك يدل على محذوفٍ يُقَدَّرُ ، بالنظر في سباق قد تَقَدَّمَ من غيوب قد استأثر بعلمها الرب المعبود ، جل وعلا ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ، فثم المحذوف الذي يُقَدَّرُ ، ولو دلالةَ اقتضاء تَحْكِي السؤال المقدر ، فَلِمَ كان اسْتِئْثَارُ الله ، جل وعلا ، بهذه العلوم ، فكان الجواب لِأَنَّ : (اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، فلا أحد يعلم ذلك ، وذلك النَّفْيُ الذي تسلط على المصدر الكامن في الفعل "تَدْرِي" ، فأفاد العموم المستغرق ، وثم آخر هو في الباب نَصٌّ ، إذ وردت النكرة "نَفْسٌ" في سياق النفي ، فدلالتها دلالة العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول ، وإن دَخَلَهُ التخصيصُ من جهة العقل ، فلا أحد يعلم ذلك إلا واحد ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، الذي هَيْمَنَ عَلَى المقادير إذ تناولها العلم المحيط الذي اسْتَغْرَقَ ، فَثَمَّ منه تقدير أول ، وهو ما تناول الكليات والجزئيات كافة ، وذلك مما ثبت في الأزل ، فَنَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، وثم من المقادير عدم بالنظر في الخارج ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تَأْوِيلُهَا الناصح أن تَقَعَ كما قد قُدِّرَتْ ، وأن يكون من العلم تال يتناولها ، فآحاده بَعْدًا تحدث ، وهي لنوع أول يَقْدُمُ تُصَدِّقُ ، إذ ثم من آحاد المقدورات ما يخرج من العدم إلى الوجود بما نَفَذَ من المشيئة وما صدر عنها من كلمات الإيجاد والتصوير والتدبير ، فكان من العلم الأول المحيط ما تَنَاوَلَ المقدورات في الأزل ، ووصفها من ذلك عدم هو الأول ، وإن كان من تقديرها في الأزل ما يَثْبُتُ ، فذلك وصف الخالقِ المقدِّر ، جل وعلا ، لا وصف المقدورات ، فَثَمَّ من العلم ما قَدُمَ في الأزل ، قِدَمَ النوعِ الذي أحاط فاستغرق الكليات والجزئيات كافة ، وثم منه تال يَتَنَاوَلُ المقدورات إذ تُسْطَرُ في لوح التقدير المحكم ، فلا يُبَدَّلُ فيه القول ولا يَتَغَيَّرُ ، وهو ما اصطلح أنه القدر المبرَم ، وَلَمَّا تَزَلِ المقدورات على حد العدم ، وثم منها ثالث بصحف الملَك ، وهو ما اصطلح أنه القدر المعلَّق ، وهو ما يعالجه السبب الذي يُدْفَعُ بِهِ القدر ، فَثَمَّ من ذلك أسباب ، وهي في نَفْسِهَا من المقدور الأول ، فَلَا تستقل بالتأثير ، بل هي من السبب الذي رُكِزَتْ فِيهِ قُوَّةٌ تُؤَثِّرُ ، فليس الأمر اقْتِرَانًا بلا تأثير ، كما اقترح مقال الكسب المحدَث ، فأثبت إرادة لا كإرادة ، فهي إرادة لا تُؤَثِّرُ في إيجادِ المقدورِ ، إذ لا يكون بها وإن لم تَسْتَقِلَّ بالفعل ، بل قد أجراها الكسب مجرى الاقتران غير المؤثر ، فالمقدور يحصل عندها لا بها ، فليس ثم باء سببية في اللغة ، وإنما هي المصاحبة ، وذلك مما يقدح في ضروري أول قد أبان عنه درس النحو المحكم ، وآخر عن معاني الحروف يبين ، وكلام العرب من الجيل الأول ، هو أبدا معيار ناصح في الاستدلال بما كان من استقراء لمأثور منه يكثر ، إن من النظم أو من النَّثْرِ ، فيحصل من ذلك تقرير لأصول جامعات في معاني الحروف وَعَمَلِهَا ، ونظم الجمل المركبة وما يكون من دلالاتها الأولى نحوا هو المبدأ ، وثم تال من الْبَيَانِ يفيد معنى ثانيا يلطف ، ولا يصار إليه إلا بعد سلامة المعنى الأول ، المعنى النحوي ، وهو ما به السياق يستقيم فَيَسْلَمُ من العجمة واللحن المفسد لنظم الكلام ، ومن وسائطه التي تَقْرِنُ : حروف منها العاطف ، ومنها الناصب ، ومنها الجازم ، ومنها الجار ، كما الباء آنفة الذكر ، فهي مما اتحد عمله في المنطوق ، جرا لِتَالٍ هو المجرور ، واختلف معناه ، فمنه القسم ، ومنه المصاحبة التي لا تُؤَثِّرُ ، ومنها أخرى تُؤَثِّرُ في إيقاع الفعل ، فتلك باء السببية ، آنفة الذكر ، ومعنى المصاحبة فيها لا يخلو من تَجَوُّزٍ ، إذ لا مصاحبة بمعنى الاقتران في الزمن والرتبة ، لا مصاحبة بهذا المعنى تثبت ، فإن العلة تتقدم المعلول ، فالسبَّب أول قبل المسبَّب ، فليس له يقرن في الوجود ، وإن كان ثم آخر من باب التلازم ، فالسبب : ملزوم ، والمسبَّب : لازم ، فكان الاقتران بَيْنَهُمَا ، من هذا الوجه ، فهو التلازم بين شطرين ، فكان من الاستقراء ما غَلَبَ ، فاجتهد في تَتَبُّعِ مواضع الباء من اللسان ، وحصل له من ذلك ظن يَرْجُحُ ، فَثَمَّ من دلالة السببية ما ثبت ، ومحل الشاهد منه : السببية في الإرادة التي يقع الفعل بَعْدَهَا ، فَثَمَّ منها ما يُرَجِّحُ ، إذ فِيهَا قوى في الفعل تؤثر ، فالفعل يحدث بالإرادة لا عندها ، فَلَهَا من قوى الترجيح ما يُؤَثِّرُ ، فيرجح الفعل تارة ، والترك أخرى ، وكلاهما ، كما قرر أهل الشأن ، من الفعل ، فَالتَّرْكُ فِعْلٌ ، وَإِنْ سَلْبًا ، فَثَمَّ من الفعل : إيجاب وسلب ، وهو ما استوى طرفاه أولا في الحد ، فَيُشْبِهُ ذلك ، من وجه ، الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فكان من ذلك إرادة من الفاعل تُؤَثِّرُ في أفعال الاختيار ، وهي مناط التكليف بالأمر والنهي ، وما يكون من فعلٍ وَتَرْكٍ ، فالإرادة تؤثر في إيجاد المقدور إذ ترجح من خارج ، كما السبب الذي يرجح في الجائز ، فَثَمَّ من الإرادة ما يرجح ، وذلك سبب أول يؤثر ، وهو ، مع ذلك ، لا يستقل بالتأثير ، فإرادة الفاعل تؤثر في حصول الفعل ، فَثَمَّ المجموع المركب من المحل والسبب ، فالفعل هو المحل الذي يتناوله الترجيح ، فهو ، ابتداءً ، على حد العدم ، وذلك عدم الجائز الذي يطلب المرجح من خارج ليكون من وجوده تال يصدق ما كان من تقدير أول ، والسبب الذي يباشر المحل هو الإرادة التي ترجح ، وذلك مما افتقر إلى شرط قد وجب استيفاؤه ، وآخر من المانع قد وجب انتفاؤه ، فحصل من ذلك المجموع المركب الذي اصطلح أهل الشأن أنه العلة ، فَهِيَ المجموع المركب من المحل والسبب والشرط المستوفَى والمانع المنفِيِّ ، ولا ينفك ، مع ذلك ، يطلب أولا يسبق ، فإنه لا يستقل بوجوده إذ له من الوصف مبدأ النظر : وصف الجائز المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا كان التحكم أَنْ كَانَ الترجيح بلا مرجِّح ، مع آخر يخالف عن مقدمات الضرورة في الاستدلال الناصح ، فيكون من ذلك محدَث بلا محدِث أول يسبق ! ، وذلك مما خالف عن بدائه العقل المصرح ، فذلك المجموع المركب من العلة ذات الأجزاء في الخارج ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب من السبب ما يَسْبِقُ ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ من الشهادة إلى الغيب ، فإن ثم من الشهادة حد وسقف لا يُجَاوَزُ ، وليس به تُحْسَمُ المادة الممتنعة في الذهن ، مادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فحسمها لا يكون في الشهادة ، لا جَرَمَ كان من إثبات الغيب ضرورةٌ تُلْجِئُ لدى كلِّ ذِي عقلٍ يَنْصَحُ ، فإثبات الغيب وإن لم يدرك بالحس المحدَث ، ذلك مما بِهِ امتاز العاقل المكلَّف من الجن والإنس ، فليس عدم الوجدان بالحس دليلا على عدم الوجود بالفعل ، بل ذلك تحكم محض ، أَنْ قَصَرَ الإثبات والنفي على مدارك الحس حصرا ، فهي دون غَيْرٍ ، هي مصدر المعرفة والعلم ، وذلك مِمَّا يجافي قسمة الأدلة المعتبرة ، فقد حَجَّرَتْهَا الحداثة إذ قَصَرَتْهَا على الحواس ، فَصَيَّرَتِ الجسدَ هو الأصل ، إذ ثم من مادته ما يُقَاسُ بالتجريبِ والبحثِ ، فليس ثم حقيقة إلا ما يخرج من المعمل ، فقد صار الإنسان مادة تُسْتَعْمَلُ ، فهي تُنْتِجُ إنتاجَ المادة الذي يُبَاشَرُ بالحس استهلاكا ، فَتُنْتِجُ لأجل الإنتاج ، وتستهلك لأجل الاستهلاك ، وتعمل لأجل العمل ، وتدخر لأجل الادخار ، فقد صار كل أولئك من الغايات لا الوسائل ، إذ لا غاية تجاوز مدارك الحس التي تقيس الخسارة والربح على قاعدة من المادة تُبَاشَرُ شهادةً ، فلا غيب يجاوز الحس ، وإن جائزا في العقل مبدأ النظر ، فهو يطلب المرجِّح من خارج ، دليلا يوجِد ، وآخر يُثْبِتُ ، إذ ليس الحس لكلِّ أولئك يدرك ، فإنه لا يُوجِدُ الشيء من العدم ، وإن كان من التجريب في المعمل ما يؤلف بين عناصر تكثر ، فيكون من ذلك إيجاد وخلق ، ولكنه ليس من العدم ، بل ثم عناصر أولى يَتَنَاوَلُهَا البحث ، فلا يحدِثُها من العدم ، وهو يؤلف بَيْنَهَا على سَنَنٍ أول يَثْبُتُ بِمَا رُكِزَ في كلٍّ من قوى تمنح الجسيمات وأخرى تَقْبَلُ ، فيكون من ذلك تفاعل محدَث ، وله من العلائق ما تناوله أهل الشأن ، فمنه ما عُنْصُرٌ يستأثر بالجسيم فهو يحوزه من آخر قد منح ، إذ ثم من القدر الفارق في القوى ما به انْتَزَعَ الجسيمَ ، وإن كان ذلك مطلبَ الآخر ، فهو يروم الوصول إلى حال من الاستقرار لا تحصل إلا بالفقد ، كما الآخر يَرُومُ بُلُوغَهَا ، ولا يكون ذلك إلا بالكسب ، ومن العلائق ، من وجه آخر ، ما يكون تساهما ومشاركة ، فَثَمَّ جسيم واحد يتناوبانه وبه يحصل الكمال لكلٍّ ، وإن تَنَاوَبَا ، فَثَمَّ من التفاعل ما يحدث بين اثنين على سنن محكم ، وبه يبلغان من الوصف استقرارا هو المرادُ لكلٍّ ، ولا بد له من أول يُحْدِثُ ، وهو ما اطرد من السنن المحكم ، وذلك ، في نفسه ، فعل في الخارج يسلك جادةً من التأثير مخصوصةً ، فإذا جُمِعَ عُنْصُرٌ إلى آخر حصل من ذلك تأويل يُخْرِجُ قوى التأثير في السبب ، وهو السنن المحكم ، يُخْرِجُهَا من العدم إلى وجود تَالٍ يصدق ، فيكون من وجود الفعل بما يظهر من المركب إذا ائْتَلَفَ من عناصرَ تُفْرَدُ ، يكون من ذلك ما يُصَدِّقُ أولا من وجود القوة بما رُكِزَ في كلِّ عنصر من قوى تَمْنَحُ وأخرى تَقْبَلُ ، وذلك ما يسلك جادة من السنن قد أحكمت ، فليس كُلُّ العناصر إذا جُمِعَتْ تُفْضِي إلى المركَّب ، بل لا بد من قوى أولى في كل عنصر قد رُكِزَتْ ، أن يمنح أو يقبل أو يشارك غيرا ، فَلِكُلِّ تَفَاُعلٍ من الجادة ما به قد اختص ، فلا ينفك يطلب أولا من العناصر بما ركز فيها من قوى التفاعل ، ولا يكون ذلك إلا أن يُهَيَّأَ من الظرف ما يحفز ، وهو ما يزيد في الفعل والتاثير ، وَيُسَارِعُ في خروج المركَّب الذي يُصَدِّقُ أولا من السنن المحكم ، أو يكون من ذلك ما لا يمنع ، فثم من المانع ما وجب انتفاؤه ، وثم من الشرط ما وجب استيفاؤه ، فحصل من ذلك ، أيضا ، مجموع في الخارج قد تَرَكَّبَ ، وهو العلة التي تَطْلُبُ أولى تَسْبِقُ ، وذلك مما تسلسل في التاثير فَانْتَهَى ضرورةً إلى مرجع من أعلى يجاوز فلا مرجع له يجاوز ، وهو ما يُبِينُ عن فَارِقٍ أصيل بين الرسالة والحداثة ، فالأخيرة لا تنفك تطلب المرجع من أدنى فهو من الأرض يَحْدُثُ ، فَثَمَّ من الحقيقة الأرضية المحدثة ما عنه التشريع والحكم يصدر ، بل وله من قصة الخلق ما اقترح ، وإن خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فأنكر الخلق المباشر ، وَتَكَلَّفَ من ضد ما يخالف عن مقدمات العقل المصرحة ، أن الحادث لا بد له من محدِث ، وهو ما عَمَّ فَتَنَاوَلَ إحداث العين من العدم ، وما يطرأ عليها من حركة وسكون ، وما يكون من تدبير يعم المحسوس والمعقول ، فهو الجاري على السنن المحكم ، وذلك ، بداهة ، مما افتقر ، أيضا ، إلى مرجِّح من خارج يُحَرِّكُ ، فلا يكون من ذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، إذ كيف يكون الغني الذي لا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ ، وشاهد العقل والفطرة والحس ، وإن لم يكن ثم شرع يَتَنَزَّلُ ، ذلك الشاهد دَالَّةُ ضرورةٍ تُلْجِئُ أن هذا العالم فَقِيرٌ الفقرَ الذاتيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا بد له من سبب من خارج يَرْفِدُ ، فلا يملك لنفسه ضَرًّا ولا نَفْعًا ، كما سائر المعبودات من دون الله ، جل وعلا ، وقد صَيَّرَتِ الحداثة هذا العالم من الآلهة التي تَبْطُلُ ، فَقَدْ حَلَّ فيه المطلق الأعلى ، فَحَلَّ المعنى في المادة ، ولم يَصِرْ ثَمَّ إلا المادة التي تُدْرَكُ بالحسِّ ، فهي المرجع والأصل ، وهي الحقيقة الثابتة في الخارج فلا حقيقة لها تجاوز ! ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنْهَا ما يجاوز الحس المحدَث ، تحكُّمًا في الاستدلال قد تَقَدَّمَ ، أَنْ صَيَّرَ الجهل دَلِيلًا على العلم ، فمن جهل من الأدلة ما يُغَايِرُ الحسَّ ويجاوز ، فهو الحجة على من علم من الدليل ما نَصَحَ فَجَاوَزَ الحسَّ المحدَث ، وذلك مما يخالف عن بدائه الضرورة ، بل من الحس المحدَث ما يشهد بِضِدٍّ ، فإن وجود هذا العالم في نفسه دليل على موجِد أول ، إذ العالم ، كما تقدم ، محدَث يَفْتَقِرُ إلى محدِث ، فَثَمَّ من فَقْرِهِ الذَّاتِيِّ ما لا يُعَلَّلُ ، وذلك ما عَمَّ افْتِقَارَهُ إلى الموجِد الأول ، وآخر يُتْقِنُ الخلقَة وَيُدَبِّرُ الحركة ، فَثَمَّ من ذلك وصفُ فَقْرٍ ذاتِيٍّ لا يُعَلَّلُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إِلَى أوَّلٍ يُوجِدُ وَيُدَبِّرُ ، فَلَهُ من ذلك توحيدُ ربوبيةٍ يَنْصَحُ ، وهو أول في الدين المجزِئِ ، وله تال هو القسيم ، من وجه ، واللازم من آخر ، فَثَمَّ آخر من توحيد الإله الذي يحكم ويشرع ، فالتسلسل في التأثير أزلا يمتنع ، إن في التكوين وذلك توحيد الربوبية ، أو في التشريع وذلك توحيد الألوهية ، فَثَمَّ مرجعٌ من خارجِ هذا العالم يُجَاوِزُ ، إن في التكوين أو في التشريع ، فالأول في دينِ النبواتِ ، أول التكوين الذي يُدَبِّرُ ، وأول التشريع الذي يحكم ، ذلك الأول في السماء ، فالأمر يَنْزِلُ من أعلى ، فهو يجاوز هذا العالم ويفارقه ، فلا يحل فيه ولا يتحد ، كما اقترحت الحداثة في مذهب محدَث قد غلا في الحقيقة الإنسانية ، فصيرها هي الأصل ، فهي مركز التشريع والحكم ، فَثَمَّ إنسان قد صار السيد المتأَلِّه الذي يقترح من الشريعة ما يواطئ الهوى والذوق ، إن في الاعتقاد أو في الحكم ، فَاقْتَرَحَ من قِصَّةِ الخلقِ مَا يَنْفِي الربَّ الخالقَ ، تجبرا وطغيانا قد جاوز الحد في الفكرة ، وإن خالف عن صريح العقل الذي ينصح ، وله من مقدمات الضرورة ما ثَبَتَ مبدأ الاستدلال ، ومنها ما تقدم أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ ضرورةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصفِ الوجود اللازم : وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الإيجاد المتعدي : وصف فعل ، نَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، وَثَمَّ من آحاده ما يحدث ، فهو الجائز مبدأ الأمر ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج إذ يُصَدِّقُ الفعلُ قوةً أولى بآحاد منه تحدث بالفعل ، فَثَمَّ من ذلك جائز يطلب المرجِّح ، وهو آحاد من المشيئة تحدث ، وبها المقدور الأول يخرج من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، فَاقْتَرَحَ العقل المحدَث من تلك القصة ما يخالف عن مقدمات الضرورة ، نَقْلًا وَعَقْلًا وفطرةً وحسًّا ، فمن عالج هذا العالم بالحس ، وهو من باب الإلزام لخصمٍ قد قصر الاستدلال على الحس ، فهو وحده ، كَمَا يَزْعُمُ الخصمُ ، ما ينصح العقل بمقدماتٍ يُعَالِجُهَا بما رُكِزَ فيه من قوة الفهم والفقه ، فالعقل لا يصح مرجعا أو مصدرا من مصادر المعرفة ، فهو آلة لا تنفك تطلب المادة التي تعالجها ، والخلاف في مصادر هذه المادة ، فالحداثة قد تحكمت ، فقصرت المصدر على واحد وهو الحس المحدَث ، إذ صيرت الجسد هو المبدأ ، فالإنسان هو المركز ، والمرجع من الأرض يحدث ، فلا مرجع من السماء ، إن في التكوين ربوبية أو في التشريع ألوهية ، فَلَيْسَ ثَمَّ إلا الإنسان بلا إله ، بل قد صار هو الإله السيد الذي يحكم ويشرع ، وليس ثم وراء هذا العالم آخر ، إذ لا يدرك الحس ذلك الآخر ، وقد تحكمت الحداثة فَصَيَّرَتِ الحسَّ ، كما تقدم ، مرجع الإثبات والنفي الأوحد ، وإن كان ثَمَّ من الخبر ما يَنْصَحُ ، فهو يدل على آخر يجاوز هذا العالم المحدَث ، بل ثم من قَرِينَةِ العقلِ ما يَنْصَحُ ، فإن من الحكومات ما لم يُقْضَ فِي هذه الدار ، وفواتها يقدح في معنى العدل المطلق ، أن يحكم في المظالم بما يدل العقل على حسنه ضرورةً ، فَيُوَفَّى كلٌّ حسابه ، فـ : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، وَتُرَدُّ المظالم إلى أَهْلِهَا ، فَلَوْ جَحَدَ العقل هذه المسلَّمة الضرورية في باب الحسن والقبح ، لأنكر معلومًا ضَرُورِيًّا قد أجمع النظار على حسنه ، فالعدل مما يحسن ، وَرَدُّ المظالم آخر عنه يصدر ، فهو لازمه في القضاء المحكم الذي تجرد من الهوى والحظ ، والغفلة والخطأ ، فكان من ذلك كتاب يحصي كل شيء ، فهو ينطق بالحق ، إذ يَسْتَنْسِخُ القولَ والفعلَ ، فَثَمَّ منه دليل يشهد ، وهو عن الظلم والخطإ قد تَنَزَّهَ ، فكتب البشر المحدَثة ، وإن بلغت ما بلغت من الإحصاء والضبط ، فَلَا يَنْفَكُّ يعتريها الخطأ والنقص ، بل والهوى والحظ الذي يَتَقَصَّدُ أن يخالف عن حكومة الحق ، وذلك دليل الفقر ، فقرِ الظالمِ ، وإن بَدَا الغني القاهر ، فَلَوْ كَانَ من غناه الغنَى الذاتيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، كما لسان حاله بل ومقاله في مَوَاضِعَ ، لو كان ذلك وصفه ما اضطُّرَّ أَنْ يَظْلِمَ ، فهو يَفْتَقِرُ إلى ما عند المظلوم أَنْ يَسْتَغْنِيَ به من فَقْرٍ ، فيقتل ويسفك ، ويسرق وينهب ...... إلخ ، فكل أولئك دليلُ ضدٍّ من الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وإن اقْتَرَحَتْ له الحداثة من مذاهب الحكم والسياسة ما يُؤَوِّلُ وَيُبَرِّرُ ، فَيُخَرِّجُ ذلك على جادة من العقل تَنْصَحُ ، فَثَمَّ المثال الواقعي ، وثم آخر يصير العالم على مثال الغابة ، ولها من الشرعة ما يأكل القوي به الضعيف ، وليس يُذَمُّ بذلك ، فهو قانون الطبيعة المحكم ، وَإِنْ جَرَى على خلق لم يُكَلَّفْ ، فذلك قانون الحيوان الذي لا يَعْقِلُ ، فَعَجَبًا أَنْ تَتَبَجَّحَ الحداثة بمذهب ينحط بالإنسان وقد زعمت أنها له تكرم ، فانحطت به إلى دَرَكَةِ تَسْفُلُ ! ، فقانونه قانون الحيوان ، إن في الخلق أو في السلوك ، فاقترحت من قصة الخلق ما يخالف عن بدائه العقل ، أن كان ثَمَّ مادة أولى بسيطة ، لا عقل لها ولا حس ولا إرادة ، فقد وُجِدَتْ في الأزل بلا موجِد ، وهي ما لا يجزئ ، بداهة ، في إثبات أول عنه هذا العالم المتقَن المحكَم يَصْدُرُ ، فَهِيَ تَفْتَقِرُ إلى من يُوجِدُهَا مبدأَ النظرِ ، ثم يحرِّكُها ، كما اقترحت الحداثة ، فيكون من ذلك انقسام وَتَرَاكُبٌ ، فلم تَرْضَ الحداثة بهذا القول ، إذ ثم فيه تَوْجِيهٌ وإرادةٌ أولى تَضطَّرُهَا أَنْ تُثْبِتَ الخالق الأول ، فيكون ثم من المحرِّك أول ، فهو يُؤَثِّرُ فيها انقساما ثم تَرَاكُبًا على مثالٍ مخصوصٍ ، وذلك مما يفسد مذهبها ـ فلا يستقيم إلا أن تنكر الخلق الأول بالقصد والإرادة ، مع نفي التخصيص في الفعل ، فذلك ما يوجب أولا من العلم الذي يقدر ، فلم ترض الحداثة بكل أولئك ، وإن كان من ذلك ما يواطئ مقالها تطورا ، فقد زَادَ من القيد أنه الموجَّه بالعلم المقدِّر والإرادة التي تُخَصِّصُ ، والمشيئة التي تُرَجِّحُ ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، من باب الإلزام للخصم ، لا أنه صحيح في نَفْسِ الأمرِ ، فإن التطور الموجَّه ، وإن كان جائزا في العقل لدى المبدإ ، إذ يسلم من نواقض القياس المصرح ، أن يكون ثم خلق بلا خالق في باب التكوين ، كما إنسان بلا إله في باب السيادة والتشريع ، وكما جسد هو الأصل بل هو الحقيقة وحده ، فلا روح له تَرْفِدُ ، وإن كان ثم من ذلك شيء فقد حَلَّ في الجسد واتحد به ، فلم يعد في الخارج حقيقة تُدْرَكُ إِلَّا ما يُنَالُ بالحس المحدَث ، وكذا المعنى آنف الذكر ، فقد حل في المادة واتحد بها ، فصارت المادة التي تدرك بالحس هي الأصل ، إذ الجسد هو المركز ، فليس ثم رَبٌّ في السماء يخلق ويدبر ، وله من الوصف تال يَلْزَمُ ، فهو الإله الذي يحكم ويشرع ، فكل أولئك من نَوَاقِضِ العقل المصرح الذي تَتَبَجَّحُ الحداثة أنها له تُعَظِّمُ ، وليست تُعَظِّمُ إلا الحس ، وهو ما يهدر خاصة العقل في الإيمان بالغيب ، وَإِنْ جَائِزًا يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج يثبت ، فيكون من الدليل ما يَنْصَحُ الحسَّ المحدَث فهو له يجاوز ، فكان من ذلك الخبر الذي يصدق ، وهو ما لا يعالجه الحس ، فمداركه لا تطيق إلا الشهادة ، فتباشر منها المحسوس ، فلا عناية لها بالمعقول ، فتلك خاصة الروح ، وهي معدن الجنان الذي يعقل ، وذلك محل الإيمان بالغيب ، واقتراحِ آخرٍ من الخيال والحدس ، وكل أولئك من خاصة الإنسان الذي يَعْقِلُ ، فَلَهُ من ذلك محل يُنَاطُ به التكليف بالأمر والنهي ، وإن في شرائعِ الوضعِ المحدَثَةِ ، فلا يخاطب بها الحيوان الذي لا يجاوز علمه مداركَ حِسِّه ، وهو ما يلزم الحداثة إذ صيرت الجسد ، كما تقدم ، المبدأ والغاية ، مبدأ الإثبات والنفي ، وغاية الخلق والشرع ، وإن أَفْضَى ذلك إلى عَبَثٍ يجحد المعلوم الضروري الناصح ، أن هذا الإتقان والإحكام لا بد له من متقِن محكِم أول ، وآخر من الغاية يَنْصَحُ ، ومن ذلك ما تَقَدَّمَ من حكوماتِ عدلٍ تَفْصِلُ في المظالم التي لم تُسْتَوْفَ في هذا العالم ، فَثَمَّ من العدل معنى مطلق ، وهو ما أجمع على حسنه العقلاءُ كَافَّةً ، وذلك ما استوجبَ ضرورةً دارا تجاوز هذا العالم ، فالعقل ، وإن لم يستقل بإثباتها ، لا سيما ما فُصِّلَ من أعيانها وأحوالها ، إلا أنه ، من وجه آخر ، يدل عليها دلالة ضرورةٍ تُلْجِئُ ، بما يعالج الناظر في هذا العالم من مظالم لم يُقْضَ فيها وقد فات المحل ، فَمَاتَ الظالمُ دُونَ أَنْ يُقْتَصَّ منه القصاص الظاهر ، وإن كان من العقاب الناجز ما لا يُدْرَكُ ، فتلك معيشة الضنك التي تُؤْلِمُ ألما يجاوز الحس ، فهو أعظم في القدر ، وإن خفي في الوصف ، تصديق آي قد أحكم ، فـ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وليس ذلك مما يَظْهَرُ لكلِّ أحدٍّ ، فَلَا يَرَاهُ إلا من فَطِنَ ، فَلَهُ من ذلك فراسة تجاوز الظاهر ، فلا يغتر بما يكون من مظاهر الفخر والخيلاء ، فهي تحجب ضِدًّا من الذلة والصغار ، وَلَا تَنْفَكُّ أماراتُه تَظْهَرُ ، فَكُلَّمَا زَادَ صاحبه وتكلَّف من آي العزِّ والرفعةِ ، فلا يَنْفَكُّ يحكي ضدا من الذلة والضعة ، وإن لم يحسن كلُّ أحدٍ دَرَكَهَا ، بل ثم كثير يَغْتَرُّ بالطاغوت إذ يخرج في زِينَتِهِ ، وهي ما يعالج الحسُّ المحدثُ ، فَيَسْحَرُهُ فلا يحسن يميز الحق من الباطل ، فَقَدْ فَسَدَ معياره في الوصف والحكم ، فانحط إلى دركةٍ تَسْفُلُ ، لا تجاوزُ زِينَةَ هذا العالم المحدَث ، فمن خرج بها على قومه فهو السيد الناصح الذي فَقِهَ الأمر واستبد باللذة والحكم ، وإن ظَلَمَ ما ظَلَمَ ، فليس ثم معيار عدل يجاوز ، بل العدل ما به تنال اللَّذَائِذُ ، كما الحداثة قد اقترحت من مثال التطور آنف الذكر ، فكان من ذلك انتخاب في الخارج لا يُبْقِي إلا على القوي الغالب ، وإن الظالم الذي يخالف عن حكومة العدل التي استقر حسنُها ضرورةً في العقل ، إِنْ عَقْلَ الفردِ أو آخر من الجمع ، لا جرم لجأت الحداثة إلى طاغوت آخر ، وإن في باب المعاني والأحكام ، أَنْ تُخَرِّجَ هذا الفعل الذي ينحط بالإنسان إلى دركة الحيوان الذي يصدر عن غريزة لا تجاوز الحس المحدَث ، أَنْ تُخَرِّجَ هذا الفعل على قاعدة من الحسن والعدل ، فذلك قانون الطبيعة الذي لا يرحم الضعيف ، فليس له في الحياة حق ، وليس له من مأدبة الكون صحن ، كما يقول بعض من غلا في مذاهب محدثة قد صيرت رأس المال هو الباعث في الفكرة ، والمحفِّز في الحركة ، وإن ظلمت الخلق ، فاستبدت بالثروة ، لا عن عمل يدأب ، وإنما اقترحت من المثال ما يَسْتَرِقُّ العامل في المصانع ، وإن تَبَجَّحَتْ أنها قد حررته من رِقِّ المزارع ، فكان من ذلك تحرير من قيد إلى آخر ، كما يُنَوِّهُ بعض من حقق ، فتلك الحرية التي تتبجح بها الحداثة أن توسلت بها إلى الغاية ، الغاية المادية المحدَثة التي لا تجاوز مدارك الحس ، وإن زخرفت من المذهب ما يَغُرُّ ويخدع ، فصار من اسم الحرية ما به يسترق الحر طوعا ! ، إن في المصنع الذي ينتج ، فلا يعطى من الأجر إلا قليلا به يقيم الصلب ، وما زاد فهو يُنْفَقُ في لذة الحس ليستهلك ما أُنْتِجَ في المصنع ، ويرجع الربح إلى الأصل ، وليس العامل إلا آلة بها الإنتاج يزيد ، وكذا الاستهلاك على قاعدة من المادة تجرده من خاصة الإنسان المكلَّف ، خاصة العقل الذي يَنْصَحُ ، وَإِنْ تَبَجَّحَتْ أخرى أنها مذهب إنساني يروم تحرير العقل من القيد الكهنوتي ، فتذرعت بما كان من الدين المحرَّف ، لا أن تَرُدَّ الإنسان إلى آخر قد أحكم ، وإنما صيرته الذريعة إلى إبطال الوحي والشريعة مرجعا من خارج يجاوز ، فَحَقَّرَتْ من شأن الإنسان وهي تَزْعُمُ أنها له تعظم ، إذ انحطت به إلى دركة الحس المحدَث ، فصار الانتخاب الطبيعي فضيلةً ، وَإِنْ صَيَّرَ الإنسان حيوانا كسائر الحيوان ، فلا خاصة بها يمتاز ، بل قد وصفَه بَعْضٌ ، أنه قَذَرٌ من الكيمياء في كَوْكَبٍ ذي حجم متوسط ، فقد وجد خبط عشواء ، وليس ثم حاجة إلى إله ، فقانون الطبيعة يجزئ في تفسير الخلق ، ووضع الشرع ، إذ ثم من الانتخاب ما يمنح القوي أهلية السيادة والحكم ، فهو يقترح من الحكومات ما يواطئ الهوى والحظ ، فلا يسلم العقل المحدَث ، إن المفرد أو المجموع ، لا يسلم من وصف الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فهو باعث الظلم الذي يفحش ، وإن التمس له من القول ما يُزَخْرِفُ ، فَصَارَ الظلمُ فضيلةً تُحْمَدُ ، وله من المذهب ما يُبَرِّرُ ، كما تقدم من الانتخاب الطبيعي الذي يُفَسَّرُ به عالم الحيوان ! ، لا آخر من الإنسان الذي شَرُفَ بما رُكِزَ فيه من قوى التَّعَقُّلِ ، وبها يُنَاطُ التكليف المنزَّل الذي يجاوز به دركة الحيوان الأعجم ، فالحداثة تُعَظِّمُ الإنسان دعوى ، ودليلها يحكي ضدا إذ يصيره حيوانا كسائر الحيوان ، بل وَيُصَيِّرُهُ قذرا من الكيمياء ، وهي ، من وجه آخر ، تقترح من اسم الحرية ما به الانعتاق من أوهام الدين ! ، فتطلق ولا تقيد ، فَثَمَّ من القيد ما يحسن أن يكون من الحرية ما ينعتق به العقل من أوهام الدين المبدل والمحرف ، لا الدين مطلقا فإن منه المحكم الذي ينصح ، وله من الخبر ما يصدق ، وهو يعالج في الإنسان المحل الأشرف ، محل العقل الذي به قد امتاز من الحيوان المحدَث ، وهو مناط التكليف بالوحي الناصح الذي سلم من التبديل والتحريف ، بل قد جاء الوحي بما يحرر العقل ، حقيقةً لا دعوى ، فأبطل ما فسد من المقال وما حَدَثَ من آلهة الباطل ، إن حسا أو معنى ، فَنَسَخَ رَسْمَ الكهنوت المحدَث ، وهو في كل جيل يضل الخلق إذ له من ذلك غاية ومتجر ، ولولا ضلال الخلق ما صار ذا رياسة وثروة .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس