عرض مشاركة واحدة
 
 رقم المشاركة : ( 5 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 9
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 02-28-2024 - 04:56 PM ]


فقال بعض بالاتحاد إذ أَنْزَلَ المعنى من السماء إلى الأرض ، فكان من اتحاد المطلق الأعلى بالمادة ، مادة هذا العالم المحدَث ، فَلَيْسَ ثم من خارج المرجع الذي يجاوز وهو ما يمتاز من الأدنى حكايةَ ضرورةٍ في القياس تَثْبُتُ إذ بها امتياز المعنى الأعلى من المادة الأدنى ، وكذا امتياز ما لطف من روح تسري في الجسد الكثيف ، وبهما حقيقة الإنسان في الخارج تحصل ، وهما ، مع ذلك ، مما امتاز في الحقيقة والحد ، فلم تَفْنَ الروح في الجسد ، ويكون من الحقيقة في الخارج مادة جسد هي الوجود حصرا ، وإن كان مآلها تاليا أن تَفْنَى ويضمحل ، فإذا فارقته الروح فهو يفسد ، وإن كان من الروح آخر قد حدث ، فهو المخلوق من العدم ، تصديقا لما كان أولا من التقدير المحكم ، فذلك ما استغرق أجزاء القسمة في الخارج : الروح والجسد ، وكلاهما مما كُرِّمَ به الإنسان المكلَّف ، وإن جسدا هو المادة ، فثم من الخلقة ما امتاز من غير ، فكان له منها تقويم هو الأحسن ، وذلك ، أيضا ، ما عم الروح والجسد ، فالأولى لها من التقويم الأحسن أن صارت محل التكليف المنزل بما يكون من تصور واعتقاد أول ، ودرك لمعان تلطف فهي تجاوز مدارك الحس المحدَث ، فثم من العقل حكاية لها تنصح ، وهو الغريزة معنًى لا الجوهر مادة ، فالعقل غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، فَلَيْسَ الدماغ الذي يحكي مادة في الخارج يعالجها الحس ، فيكون من ذلك ما يرصد من إفراز ونبض ، فالعقل اللطيف طور يجاوز الدماغ الكثيف ، كما الروح اللطيف طور يجاوز الجسد الكثيف ، وإن كَانَا جميعا من الخلق المحدَث ، وبه حد آخر لكلام العاقل يثبت ، فإن منه المعنى الذي يقوم بالعقل ، واللفظ الذي يحصل بآلة نطق تدرك بالحس ، ومبدؤها الدماغ فهو واسطة بها تأويل المعاني القائمة بالعقل ، وهو ما يحدث في الخارج فَيُدْرَكُ بالحسِّ الحادث ، ومنه كلام يصدر من آلة نطق بما أُتْقِنَ من خِلْقَتِهَا وَأُحْكِمَ من سُنَّتِهَا ، وهو مما يدرك بالحس ، فيكون منه ما يسمع ، وإن افتقر إلى تال من المرجع يلطف ، فهو يميز من الصوت : المستعملَ في الكلام المفهِم من المهمل فلا يجاوز في الحد صوتا يصدر ، فحصل من ذلك فرقان يميز : المعنى القائم بالنفس من اللفظ الحاصل بالنطق ، وإن كان منهما قسيمان لحقيقة من الكلام تثبت ، فهي : المعنى المعقول واللفظ المحسوس ، فهو المنطوق المسموع ، وكل مما يدرك بالحس ، لا المعنى فهو مما يَلْطُفُ ويخفى إذ يقوم بالنفس ، فلا يدرك إلا بدليل من خارج يشهد ، وهو ما جاوز في حَدِّ الكلام ما يُنْطَقُ وَيُسْمَعُ ، فصدق في المكتوب الذي يُسْطَرُ أنه كلام ، فهو يُقْرَأُ ، وصدق في إشارة العين وحركة الجسد أنها لسان يفصح ، وإن خَفِي نطقه ، فكل أولئك من دليل الخارج الذي يحكي أولا في النفس يحصل ، وهو المعنى الذي يلطف ، فكان من ذلك قسمة تميز المعقول من المحسوس ، وإن تَقَاسَمَا حقيقة الكلام في الخارج ، كما الروح اللطيف والجسد الكثيف فهما يتقاسمان حقيقة الإنسان في الخارج ، وإن امْتَازَا ، كما تقدم ، وإلا ما فارقت الروح الجسد ، فحصل بذلك موت به الجسد يفسد ، فإن سبب حياته ما لطف من الروح وخفي ، فالمعنى أبدا يخالف المادة ، فلكلٍّ من الحد في الخارج ما يميز ، فلم يَتَّحِدِ المعنى بالمادة ، فيفنى فيها ويضمحل ، فيكون من الحقيقة في الخارج مادة تدرك بالحس ، فليس ثم ما يجاوزه في المرجع ، كما اقْتَرَحَتِ الحداثة إذ لا تجاوز في التصور والحكم والغاية ما يدرك بالحس من عالم الشهادة ، فلا تُقِرُّ بغيب يجاوز ، فذلك مما افتقر ضرورةً إلى مرجع من خارج يجاوز ، فكان من الخبر من خارج ما يجاوز الحس ، فالمعنى يجاوز المادة ، ولكلٍّ من المرجع ما يميز ، ولكلٍّ من المحل ما يعالج ، فالمادة يعالجها الجسد بالحس ، والمعنى تعالجه الروح بالعقل ، فَامْتَازَا من هذا الوجه ، فالروح تخالف الجسد ، فَلَمْ تَفْنَ الأولى في الثاني وتضمحل ، فيكون من الحقيقة في الخارج جسد هو الأصل ، فلا حقيقة تجاوز الحس ! ، بل ثم من الروح ما جاوز وله من المرجع ما يجاوز ، فذلك الوحي بما صَدَقَ من أخباره وعدل من أحكامه ، فَبَطَلَ ، من هذا الوجه ، اتحاد ووحدة بها المعنى يفنى في المادة ، أو الروح في الجسد ، وهو ما عَمَّ به بَعْضٌ الخلقَ كلَّه ، فكان من الوجود واحد بالعين ، فَقَدِ اتحد الخالق ، جل وعلا ، بالخلق ! ، فليس منها إلا مظاهر لحقيقة واحدة لا تَتَعَدَّدُ ! ، كما مقال من الحلول والاتحاد ماضٍ ، وله في دين الرسالة الخاتم رجالات إليه قَدِ انْتَسَبُوا ، وإن خرجوا بذلك ومرقوا إذ خالفوا عن معلوم ديني ضروري ، يميز ، بداهةً ، الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، وهو ما يواطئ قسمة العقل الناصح ، فإن الوجود ، وهو الجنس الدلالي المجرد في الذهن ، ذلك مما يَنْقَسِمُ ضرورة في الخارج ، إذ لا وجود لمطلق كلي في الخارج فلا يوجد إلا مقيدا بحقيقة تستقل ، فيكون من إضافته إليها ما يعدل في درس اللسان : إضافة الوصف إلى الموصوف ، فهو المعنى الذي يقوم بالذات ، فَدَرْسُ اللسان ، لو تدبر الناظر ، يحكي منطقَ باطنٍ يَنْصَحُ في وجوه الاستدلال كافة ، فليس الكلام ظاهرة تقتصر على النطق ، بل ثم من المعنى ما لطف في الحد ، فهو يقوم بالعقل الذي يحكي ماهية الروح ، وهي شطر أول في حقيقة الإنسان المكلَّف ، فالجسد لها قسيم ، كما المادة قسيم المعنى ، فكان من ذلك ما ثَبَتَ ضرورةً في الجنان ، أن ثم كليات جامعة في الدلالة ، وهي المجردات في الذهن ، وما يحكيه اللسان بَعْدًا من إضافة هذه المجردات إلى ذوات في الخارج تقوم بها ، فيكون من ذلك إضافة الوصف إلى الموصوف ، فلا وصف يقوم بذاته في الخارج ، بل ثم من الذات ما يُقَيِّدُ ، وهو إليها يَرْجِعُ ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، كما يقول بعض من حقق ، فَدَرَكُ الماهيةِ في الخارج وهو ما يجاوز التجريد في الذهن إذ يقتصر في الإثبات على المعنى المطلق ، دَرَكُ الماهية في الخارج ، ماهيَّةِ الوصفِ ، فَرْعٌ عن دَرَكٍ أَوَّلَ لِلذَّاتِ الَّتِي يَقُومُ بها المعنى ، فإذا لم يُدْرِكِ الحسُّ حقيقةَ الذات في الخارج ، فهو لُزُومًا في النَّظَرِ المصرح ، لا يُدْرِكُ حقيقةَ المعنى الذي يقوم بها ، وإن كان ثم إثبات في الباب ، باب الغيب ، فلا يجاوز المعاني المجردة في الذهن ، إِنْ فِي الذَّاتِ أو فِي الوصفِ ، وهو ما عَمَّ مسائلَ الغيبِ كَافَّةً ، وَإِنِ الواجبَ لدى المبدإ في قياس العقل المصرح ، كما إثبات الأول الذي إليه تَنْتَهِي المحالُّ والأسباب كَافَّةً حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا فلا بد من انْتِهَائِهَا إلى أَوَّلٍ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فهي عنه تصدر صدور المفتقِر إلى الغني الذي يُغْنِيهَا فَيَمْنَحُهَا من ذلك وصف الغنى لا الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وإنما هو الغنى بإغناءٍ لَهُ من السبب ما يجاوز من خارج إذ ليس ثم من يُوصَفُ بالغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ليس ثم من ذلك وصفه إلا الرب المهيمن ، جل وعلا ، فالجائز يفتقر إلى موجِب من خارج ، وثم من ذلك ما جَاوَزَ مُطْلَقَ الوجودِ الأول ، فَثَمَّ الترجيح الذي يوجِب ، وبه يصير الجائز المحتمل واجبا لا لِذَاتِهِ ، وإنما لِغَيْرٍ إذ كان ثم مرجِّح من خارج ، وإلا كان التَّحَكُّمُ الَّذِي يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ ، وهو مما يخالف ، أيضا ، عن العقل المصرح ، والجائز بَعْدًا يَفْتَقِرُ إلى المقدِّر الأول ، فلا يكون من ذلك عشواء تخبط ، أو عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ بالطبع ، فَلَا إِرَادَةَ وَلَا عِلْمَ ، وإنما إلجاء في التأثير والفعل ، فذلك مما به تَعْطِيلُ الْأَوَّلِ عَنْ صفاتِ كمالٍ ، الحسُّ بِهَا يَشْهَدُ ، وهو عمدة الحداثة في الاستدلال ، فَشَهِدَ الحس بِضِدِّ مَقَالِهَا إذ عالج من وجوه الإتقان والإحكام في المحالِّ والأسبابِ وَالسُّنَنِ التي يجري عليها كلٌّ ، عالج من ذلك ما يدل ضرورةً على الأول ، وهو ما جَاوَزَ المطلقَ بشرط الإطلاق الذي لا وجود له في الخارج يجاوز الأذهان ، فَلَيْسَ فِي أحسن الأحوال إلا جَائِزًا يَفْتَقِرُ هو ، أيضا ، إلى موجِب موجِد يُخْرِجُهُ مِنَ العدمِ إلى الوجودِ ، فيكون من ذلك تَسَلْسُلٌ في المؤثِّرين قد امتنع في الأزل ، فلا بد من أَوَّلٍ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وله من الحقيقة ما جاوز المعنى المجرد في الذهن ، فَثَمَّ حقيقة في الذات والوصف ، فالأول قد جَاوَزَ المطلَق بشرطِ الإطلاقِ ، وجاوز العلة التي اقْتَرَحَتْهَا الحكمة الأولى ، فهي الفاعلة بالطبع المجرَّدة من الوصف ، فلا إرادةَ ولا علمَ ، وإنما إيجابٌ بِذَاتٍ مجرَّدة لا بِوَصْفٍ يقوم بها وَفِعْلٍ ، فهو ما عنه المفعول المحدَث في الخارج يحصل ، وهو ما يُصَدِّقُ أولا من العلم يُقَدِّرُ ، وذلك ما جاوز الكلي المجمل إلى آخر يُفَصِّلُ ، فيكون من دقائق الخلق ما يحكي الإتقان ، ويكون من السَّنَنِ الجاري الذي اطَّرَدَ ، يكون منه ما يحكي الإحكام ، وذلك ما يدل ضرورةً ، ولو لم يكن ثم خبر من خارج يَرْفِدُ ، ما يدل على أول له من الوصف ما جاوز المطلق الذهني بشرط الإطلاق ، فَلَهُ من العلم ما فَصَّلَ ، وله من القدرة والمشيئة ما رَجَّحَ ، وبه المقدور الأول يحصل في الخارج ، فيكون من ذلك تأويل به يَقَعُ ، ومنه ما يعالج الحس إذ يدرك الأثرَ ، أَثَرَ التقديرِ ، وما يكون بَعْدًا من فعلِ التَّكْوِينِ ، فَثَمَّ حقيقة في الخارج تُصَدِّقُ ، وثم من الإتقان والإحكام ما يشهد ، وهو ما يعالجه الحس ، فما استدلت به الحداثة في الإثبات قد أتى على مقالها بالإبطال بما عالج الحس من وجود أول ، ولو المجرَّد ، فهو شاهد بأول يَتَقَدَّمُ ، فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وإلا كان المحال الممتنِع لذاته من التسلسل آنف الذكر ، التسلسلِ في المؤثِّرين أزلا ، فَلَا بُدَّ من رجوعِ كُلٍّ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وكذا أَتَى دليل الحس على مقالِ الحداثةِ بالإبطال إذ فَرَضَتِ التَّطَوُّرَ على قاعدة عشواء تخبط ، فليس إلا العبث ! ، فكان من دليل الحس إذ يعالج ما أُتْقِنَ من الخلقة وَأُحْكِمَ من السنة ، كان منه ما يدل ضرورة على علم أول يُقَدِّرُ ، قَدْ جَاوَزَ مَا أَثْبَتَتِ الحكمة الأولى من العلم الكلِّيِّ المجمَلِ ، فَثَمَّ تَالٍ قَدْ تَنَاوَلَ الجزئيَّ المفصَّل ، وبه الإتقان والإحكام ، فلا يكون ذلك إلا بآخر أخص ، فَثَمَّ من الاسم والوصف : حكيم وخبير ، فخبير قد علم الدقائق ، فذلك في المدلول أخص من أول به يَثْبُتُ مَعْنَى العلمِ ، فهو ، جل وعلا ، العليم الخبير ، وهو ، مع ذلك ، الحكيم في إجراء السنن أَنْ قَدَّرَ من الماهيات ما تَنَاوَلَ المحالَّ بِمَا رُكِزَ فِيهَا مِنْ قوى تَقْبَلُ ، والأسباب بما رُكِزَ فِيهَا من أخرى تُؤَثِّرُ ، فكلٌّ قَدْ سَلَكَ جَادَّةً من الحكمة البالغة ، وهي ما افْتَقَرَ إلى شَرْطٍ يُسْتَوْفَى ومانع يُنْفَى ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، ما اصْطُلِحَ أَنَّهُ العلة ، فهي المجموع المركب من المحل الذي يعالج ، والسبب الذي يباشر ، والشرط الذي يُسْتَوْفَى ، والمانع الذي يُنْفَى ، وهو ما يَفْتَقِرُ إلى سببٍ أول يَسْبِقُ ، وذلك ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إِلَى الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصفِ الجمالِ : علمٌ وخبرةٌ وحكمةٌ ، فكلُّ أولئك مما به التقدير الأول ، والحس به يَشْهَدُ إذ يُعَالِجُ من آثارِه في الخارج : إتقانًا وإحكامًا ، فذلك مما تَوَاتَرَ في آيٍ من الآفاق والأنفس ، فتلك آيات في الكون تصدق ما جاء به الشرع ، فَتَتَأَوَّلُ منه الأمر الذي يرشد أَنِ : (انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) ، وهي بَعْدًا تَدُلُّ عَلَى شَطْرٍ من القسمةِ ، قسمةِ المعني الديني المجزئ في حصول حقيقة منه في الخارج تَنْفَعُ ، فَثَمَّ توحيدُ الخالقِ الأوَّلِ الذي لا أول قَبْلَهُ ، فَإِلَيْهِ تَنْتَهِي المحالُّ والأسبابُ كَافَّةً ، فذلك توحيد الخالق بأفعاله في الخارج ، تقديرا وتكوينا وتصويرا وتدبيرا ، فقد عالج الحس من آثارها في الخارج ما يشهد بها ضرورة لدى العاقل المسدَّد الذي هُدِيَ سبيل الهدى المحقَّق ، فاستدل بِالْأَثَرِ على المسيرِ ، وعالج من آي التكوين المحكم ما يدل ضرورة على خالق أول له من العلم ما جاوز المجرد في الذهن ، فلا حقيقة له في الخارج تَثْبُتُ ، وجاوز الكلي المجملَ الَّذِي اقترحته الحكمة الأولى ، فَثَمَّ من وصفِه عِلْمٌ يُفَصِّلُ قَدْ تَنَاوَلَ دقائِقَ الخلقِ المحكَمِ ، وذلك وصف الجمال ، وهو بَعْدًا يَطْلُبُ التأويلَ في الخارج أَنْ يكونَ من آثاره دليلٌ شاهدٌ ، فَثَمَّ من المشيئة والقدرة ما يَنْفُذُ ، وذلك وصفُ جلالٍ به القسمة تَكْمُلُ ، قسمةُ الكمالِ المطلقِ الذي ثَبَتَ ضرورةً للخالق الأول ، جل وعلا ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا دَلَّ عليه الحس إذ عالج آيا من الآفاق والأنفس ، وذلك من إبطالِ المقال بِعَيْنِ ما استدل به ، ولو تحكم لدى المبدإِ فَقَصَرَ مدارك العلم على الحس المحدَث ، فَلَوْ سُلِّمَ له بذلك ، فهو شاهدٌ بِضِدِّ ما اقْتَرَحَ من نَفْيِ الخالقِ الأول ، ولو خالف به عن ضروري في العقل يَنْصَحُ ، إذ المحدَث لا يَنْفَكُّ يطلب المحدِث ، وشاهد بِضِدِّ ما اقترح من عشواء تخبط فلا يكون منها بداهة ، هذا الخلق المتقن المحكم ، لا جرم اجتهد ما اجتهد ، ولو لَفَّقَ من الدليل وتكلف من الاستدلال ما لا يَسْلَمُ فِي القياس المصرَّح ، فاجتهد ما اجتهد أن يُثْبِتَ في الخلقِ عَيْبًا أو زِيَادَةً لا تنفع ، فكان من ذلك ما نقضه البحث والتجريب ، وهو مستنده في الإثبات والنفي ، إن في دقائق الخلق أو أخرى من النفس تحكي أخلاق الفرد والجمع ، فقد تكلف أخرى في قوانين الاجتماع البشري أَنْ رَامَ قَصْرَهَا على الدليل الحسي ، فهو يجزئ في تفسير الباعث النفساني لدى الفرد والجمع ، فلا يجاوز في بحثه الجسد البشري إذ المادة قَدْ صارت في بحثِه الأصلَ ، فلا حقيقة في الخارج تجاوزها إذ حَلَّ فيها المعنى وبها قد اتحد ، فكان من قصة الخلق لدى الحداثة ما خالف عن العقل المصرَّح إذ تَكَلَّفَ الجاحدُ مَا تَكَلَّفَ مِنْ نَفْيِ الأول ، وهو ما يَنْقُضُ مقدِّمَةً أولى في العقل المصرَّح أن المحدَث لا يكون إلا بمحدِث ، وتكلف آخر أن يَرُدَّ هذا الخلق المتقن المحكم إلى أول بسيط في الأزل قد وُجِدَ بلا موجِد ، فَلَيْسَ إلا الصدفة ، ثم كان تالٍ من الحركة بلا محرِّك ، فكان منه ، أيضا ، الترجيح بلا مرجِّح ، وهو ما يخبط عشواء وَيَعْبَثُ ، فكان من ذلك خلقٌ مُتْقَنٌ وَسَنَنٌ محكَم ! ، وكان منه فِعْلٌ فِي الخارجِ يُؤَثِّرُ ، ولا فاعل له إذ يخبط ! ، فالحس الذي استدلت به الحداثة شاهدٌ بِضِدٍّ ، إذ عالج ، كما تقدم ، آيا من الآفاق والأنفس قد أُتْقِنَتْ مِنْهَا الخلقَةُ ، وَأُحْكِمَتْ مِنْهَا السنة ، ولا يكون ذلك إلا بعلمٍ وحكمةٍ ، وذلك الجمال ، ومشيئةٍ وقدرةٍ ، وذلك الجلال ، وبهما كمال أول قد أُطْلِقَ ، وذلك شطر من الدين المجزِئ ، فَثَمَّ توحيدُ الخالقِ المكوِّن بما كان من تقدير أول ، وإيجادٍ تال له يُصَدِّقُ ، وتصوير لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك فعل البديع الذي عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، وَإِنْ خُصَّ في آي من الذكر المنزَّل ، فهو : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فكان من الإضافة في هذا الموضع ما يجري مجرى التنبيه بالأعلى على الأدنى ، فمن بدع الأعلى من السماوات والأرض ، فهو يبدع الأدنى من الخلق ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، فَثَمَّ هذا التوحيد في الخلق والتدبير ، وهو شطرٌ من معنى يجزئ في حصول اسم ديني يجزئ ، ولا ينفك يطلب شطرا آخر به اكتمال القسمة في العقل الناصح ، فمن له توحيد الخلق والتدبير ، فَلَهُ ، بداهة ، آخر من الحكم والتشريع ، إذ من خَلَقَ فَهُوَ أعلم بما خلق ، وما يُصْلِحُ حالَه وَيُفْسِدُ ، وما يَنْفَعُ وما يَضُرُّ ، فكان من حكمه ما يَنْصَحُ ، وهو ، مع ذلك ، يَسْلَمُ مما لا تَسْلَمْ منه المراجع المحدثة في الأرض ، ولو صدق في بَعْضٍ أنه موضوعي يجاوز من خارج ، كما عقل الجمع الذي اقترحه بحث الاجتماع المتأخر ، فذلك موضوعي من خارج العقل المفرد ، وهو ، مع ذلك ، لا يسلم من العوارض والآفات ، فهو حكاية عقول مفردة لم تسلم من الأهواء والحظوظ المحدثة ، فَيُزَيِّنُ لَهَا ما تَتَوَهَّمُ أنه حق ، وَتُؤْطَرُ على معان يقترحها الملأ ، وهم في كل جيلٍ مَنْ يُفْسِدُ ، فـ : (كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، فلهم في أطر الجمع على جادة تواطئ أهواءهم وحظوظهم ، لهم في ذلك ما ضَنَّ به السادة في كلِّ أُمَّةٍ ، فَهُمْ ، أبدا ، خصوم الوحي والنبوة ، إذ جاء يبطل رياساتهم التي تحملوها عن الآباء أُمَّةً تُقَلَّدُ ، فلا دليل من العقل المصرَّح ، فكان من ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، خصومة السيادة ، أتكون للوحي المنزل وهو عن السيد المطلق يصدر ، كما في الأثر المحقق إذ : "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّيِّدُ اللَّهُ» ، فَقَالَ: أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلًا، وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلَا يَسْتَجِرَّنَّهُ الشَّيْطَانُ أَوِ الشَّيَاطِينُ»" ، أم تكون للوضع المحدث بما اقترح الملأ ، وإن مكروا بالخلق ، فأطروا عقل الجمع على طريقة تواطئ أهواءهم وحظوظهم ، فَزَيَّنُوا وزخرفوا القول بما احتكروا من أداة السحر الذي يُخَيِّلُ للجمع ما لا حقيقة له تَنْصَحُ ، فكان من ذلك ما أفسد الفكرة بالشبهة ، وأفسد الحركة بالشهوة ، وكل أولئك مما أُسْنِدَ لعقلِ الجمع الذي بَلَغَ الرشد فهو الموضوعي الذي يحكم من خارج ، وإن أجمعَ على باطل ، لا جرم لم يكن الإجماع ، بادي النظر ، بحجة في أصول الشريعة ، بل لا بد له من مستند من الوحي الذي يجاوز من خارج ، أو قياسٍ على نَصٍّ ، فهو ، يرجع ، أيضا ، إلى الوحي ، على خلافٍ في الإجماع الذي يستند إلى القياس .

فكان من مكر الملإِ أَنْ أَفْسَدُوا عقل الجمع فاختارَ ما يواطئ أهواءهم وحظوظهم ، فَبِهِ تُقْضَى الأمور وَتَنْفُذُ الحكومات ، ولو بِضِدِّ مَا يَنْفَعُهُ ، إذ أطره الملأ على ما استحسن ، ولو كان عين القبيح المفحِش ، بل قد خالفوا به في الجيل المتأخر عن بدائه الضرورة في الاعتقاد والأخلاق ، فهي من فطرة الخلق الأولى ، فكان منهم مكر يُبَدِّلُ ، وَيُحَسِّنُ ما قد عُلِمَ قبحه ضرورة لدى كل ذي عقل يَنْصَحُ ، ولو عقلَ الضرورة الأولى ، فليس يسلم عقل الجمع من الخطإ ، وإن جاوز عقل الفرد ، وهو ، لو تدبر الناظر ، يصدر عن فَرْدٍ حاكم ، فَثَمَّ قليل قد احتكر أسباب القوة والثروة والفكرة ، فصنع عقل الجمع على عينه بما يواطئ هواه وحظه ، فَمَرَدُّ العقل المجموع الذي اقترحته الحداثة في بحث الاجتماع ، مَرَدُّهُ إِلَى عقلِ فَرْدٍ قد تَحَكَّمَ ، مع آخر من الجبر يبطل خاصة الإنسان الذي يُبْدِعُ وَيُفَكِّرُ ، فكان من ذلك العقل ما يبطل خاصة الفرد الذي يَصْلُحُ وَإِنْ فَسَدَ الجمع ، وَيُصْلِحُ وإن أَفَسْدَ الخلق ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، ما ينقضه تاريخ النبوات وما سلك جادتها من الإصلاح ، ولو امتازت منه أن ثم من المرجع ما جاوز فَسَلِمَ من الخطإ والنقص ، فكل شاهد بإبطال دعوى الجبر في عقل الجمع ، وإلا ما كان آحادٌ في كلِّ جيلٍ قد خالفوا عن جمع كثير ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يعم الخير والشر كافة ، فكم من واحد قد أصلح الله ، جل وعلا ، به أمة ، وكم من آخر قد أفسد به أخرى ، فذلك مما اطرد وانعكس ، ومحل الشاهد منه إبطال دعوى الجبر الذي يبطل خاصة التكليف ، فهو يصدر عن إرادةٍ واختيارٍ بهما يباشر المكلَّف الفعل في الخارج ، فَثَمَّ من إرادته ما يُؤَثِّرُ في حصول المقدور في الخارج ، وهو عن علم أول يصدر ، فيكون من تصوره في باب الحسن والقبح ما يكون ثَمَّ بَعْدَهُ فِعْلٌ أو تَرْكٌ ، فَيَخْتَارُ بإرادةٍ تُؤَثِّرُ ، يختار بها ما يُوَاطِئُ تصورا في الذهن هو الأول وإن لم يخرج عن أول من التقدير المحكم ، وثان من مشيئة الخالق ، جل وعلا ، فهي أولى تنفذ ، وعنها مشيئة العبد تصدر ، فـ : (مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ، وذلك العدل وسطا بين جبرية تُعَطِّلُ إرادةَ العبد ، وقدرية تُعَطِّلُ إرادة الرب جل وعلا .

فَثَمَّ من دعوى الجبر في عقل الجمع ما يبطل الأمر والنهي ، وهو ما لا يطلق في الحكم ، فيصدر عنه الأفراد على جهة اليقين والجزم أنه حكمه هو الحق في نفس الأمر ، إذ خاصته كما خاصة العقل المفرد ، فكلاهما المخلوق المحدَث ، والعقل أبدا يَفْتَقِرُ إلى مرجع من خارج يجاوز ، قد سَلِمَ مِمَّا لم يَسْلَمْ مِنْهُ كُلٌّ ، إنْ عقلَ الفرد أو عقلَ الجمع ، وذلك شطر آخر من المعنى الديني المجزئ ، شطر الحكم والتشريع ، ولازمٌ لملزومٍ أول قد تَقَدَّمَ ، فذلك شطر الخلق والتكوين ، وكل أولئك مما ثَبَتَ ضرورة بأدلة العقل والفطرة ، بل والحس الذي تحكمت الحداثة فَصَيَّرَتْهُ دليلَ الإثباتِ والنفيِ الأول إذ صدرت عن مقال حلول واتحاد قد خالف عن الضرورات والبدائه ، فكان من ذلك ما غلا في الحس ، فصارت المادة في الخارج هي الأصل ، بل هي الحقيقة فَمَا جاوزها فَلَيْسَ يَثْبُتُ ، وإن كان من الدليل غَيْرٌ يُثْبِتُ ، من الخبر المصدَّق ، بل الحس ، كما تقدم ، شاهد بضد إذ يعالج من وجوه الإتقان والإحكام ما يدل على أول له من التقدير ما قد عَمَّ الكليات والجزئيات كافة ، وله من التكوين ما يُصَدِّقُ ، فحصل بذلك من قسمة العقل في باب الوجود ما ينصح ، إذ ثم تجريد لمعنى أول في الذهن ، وهو الوجود المطلق ، فليس يكون منه شيء في الخارج إلا أن يُقَيَّدَ بذاتٍ تَسْتَقِلُّ ، فيكون من الأعيان في الخارج ما يتمايز ، ولو المخلوقاتِ المحدثاتِ ، فوجود زيد يُغَايِرُ بداهةً وجود عمرو ، فكيف بوجود الخالق ، جل وعلا ، في حد ، ووجود المخلوق الحادث في آخر ، وهو مَا يُبْطِلُ مقال الحلول والاتحاد ، وقد عَمَّ به بَعْضُ من تَأَخَّرَ : الأعيانَ المخلوقةَ كافةً ، وهو ما قال به فئام لهم نسبة إلى الدين الخاتم تثبت ، وإن الاسم المجرد فقد خالفوا عن المسمَّى ، وجحدوا منه المعلوم الضروري الأول ، أن يميز الناظر الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، لا جرم حد بعض العارفين التوحيدَ أنه إفراد المحدث من القديم ، وبه امتاز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، وذلك ، وإن لم يكن حد التوحيد الذي جاءت به النبوات ، إلا أنه مما يجري مجرى النص على موضع الخلاف إذ به قد عمت البلوى فأجاب بِخَاصٍّ ولم يذكر الحد الجامع المانع الذي يستغرق حقيقة التوحيد المجزئ ، توحيد الخالق المدبِّر والحاكم المشرِّع ، وإنما نَبَّهَ على خلافٍ قد وقع في عصره ، فكان منه بلوى قد عظمت ، ولها بعدا في من الآثار ما يفدح ، وذلك ، كما تقدم ، الحلول والاتحاد العام ، وَثَمَّ قَبْلًا من خَصَّهُ بواحدٍ بالعين ، كما غلت المثلثة في المسيح ، عليه السلام ، وثم من خصه بواحد بالنوع ، كما الشعب المختار ، فهم الأبناء والأحبة ، كما مثال في الوحي قد ذُكِرَ ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما اطرد في كل مذهبٍ يُعَظِّمُ الْعِرْقَ والعنصرَ ، فلا ينفك يَزْدَرِي غيرا ، ويكون ذلك ذريعة تُبَرِّرُ استرقاقه واستغلاله على قاعدة من الحس معيارها الكسب ، فليس ، كما يقول بعض من حقق ، إلا مادة تُسْتَعْمَلُ ، على قاعدة من التعاقد ذي المعيار المادي الصارم ، وإن انْتَحَلَ جملة من الأخلاق والمبادئ ، فلا تخرج عن حد الكسب العاجل بما يحصل من الرِّبْحِ ، وهو ما يدرك بالحس ويقاس في الخارج بمعيار اللذة والألم المباشر ، وذلك أصل يصدر عن المادة ، فلا معنى يجاوزها ، فهي معيار الحسن والقبح ، وبها التعاقد الصارم لا التراحم الذي يجاوز مدارك الحس ، فَثَمَّ من عقد العبودية والسخرة في الحقل والمعمل والمصنع على قاعدة : من لا يعمل لا يأكل ، وإن كان عاجزا لا يقدر ، فَثَمَّ قاعدة من المادة قد انحطت بالإنسان فلم تعتبر منه إلا الجسد الذي يتحرك في الخارج إنتاجا واستهلاكا لا يجاوز الأشياء ، فهو مادة كما الحجر والشجر فلا امتياز له منها بِتَكْلِيفٍ ورسالة ، أن يكون منه في الأرض خلافة تحكم بالحق ولا تتبع الهوى والحظ ..... إلخ ، فكل أولئك من المعاني التي جحدتها الحداثة بما تقدم من حلول واتحاد قد صير المادة هي المرجع والمعيار ، فانحط بالحقيقة البشرية المكرَّمة التي فُضِّلَتْ على الكائنات بما رُكِزَ فِيهَا مِنَ العقلِ ، وهو ، كما تقدم ، منطق أول يَبْطُنُ ، وعنه منطق الكلام في الخارج يُفْصِحُ ، فلا ينفك يطلب قسيما أول في الوجدان يَثْبُتُ ، فالكلام ، كما حَدَّهُ أهلُ الشأنِ : معنى يقوم بالنفس ولفظ يُنْطَقُ فَيُدْرَكُ بالسمعِ ، فكان من الحداثة جناية تَعْظُمُ إذ جَحَدَتْ مَا اخْتُصَّ به الإنسان من العقل ، مناطِ التكليفِ بالأمر والنهي ، وهو ما آثاره تجاوز فَلَهُ من الأخلاق مرجع ناصح ، فلا يقتصر على أخلاق النفع المباشر وهي ما يعالج الحقيقة الإنسانية في الخارج كما المادة المجردة من القيمة والمبدإ ، فلا حرمة لها في الخارج تثبت ، فما الظن بمذهب يعالج الأخلاق معالجته للأشياء ، فلا مرجع لها من خارج يجاوز ، وهو ما يُفَسِّرُ هذا التوحش في القتل والسفك والسعي في إفناء النوع بالمجاعات والحروب والأوبئة التي صارت فضائل تهبها الطبيعة إذ تَنْتَخِبُ الأقوى على قاعدة من المادة لا تجاوز مدارك الحس ، فلا صحن فيها لضعيف لا يصمد ، كما يقول بَعْضٌ لا يَرْحَمُ ! ، وإنما هو لمن غلب ، فهو القوي ، وَإِنْ ظَلَمَ ، فوحده من استحق البقاء ، وإن لم يكن الأصلح ، بل إفساده في الخلق يعظم ، فكان من ذلك ازْدِرَاءٌ لحقيقة الإنسان أَنْ صَارَ مَادَّةً تُسْتَعْمَلُ ، وصار إفناؤه فَضِيلَةً تُحْمَدُ ، وهو ما استوجب دعاية تُبَرِّرُ هذه الجناية أن يَنْزِعَ عن الآخر معنى الإنسان ، وهو ما يعالج الناظر لَهُ في الأرض المقدسة المثالَ الشاهد ، فقد نُزِعَ معنى الإنسان عن الخصم ، وذلك ما يُبَرِّرُ القتل والسفك ، فَلَيْسَ الجنسَ الأعلى الذي بَلَغَ الغاية في الوصف على قاعدة تَتَحَكَّمُ في حد الحضارة أنها المادة ، وهي ، بعدا تَخُصُّ الجنس الأعلى بالفضائل ، فهو الشعب المختار في الخارج ، وما سواه فلا يجاوز الخادم والحارس ..... إلخ من وظائف الرَّقِيقِ المستخدَم على قاعدة الاستعمال آنف الذكر ، وهو ما انحط بالإنسان فجرده من فضيلة الروح والمعنى ، فليس إلا الجسد والمادة ، وإن كان من المقال الحداثي ما يُعَظِّمُ النوع الإنساني ، وإنما عَظَّمَ منه الجسد والمادة لا الروح والمعنى ، فلا ينفك يَقْرِنُ ذلك بِفَرْضٍ من التطور ، فلا يَعُمُّ بهذا التعظيم آحاد النوع كافة ، بل ثم تحكم بعد آخر ، فقد تحكم أُولَى أَنْ قَصَرَ الحقيقة في هذا الوجود على الموجود المحسوس ، وَرَدَّ جَفَاءَ الدين المبدَّل الذي ازْدَرَى مادة الجسد انْتِصَارًا للروح زَعَمَ ! ، فَانْتَصَرَ للمعنى من المادة ، وَجَفَا المحسوس من الجسد ، بل وَصَيَّرَ إهانتَه وتقذيرَه وتعذيبَه بأجناس من الرياضة المحدَثة ، رهبانية قد ابْتَدَعَ ، صَيَّرَ ذلك سبيلَ الخلاصِ الروحيِّ ، خلاص المعنى فلا يكون إلا بإهدار المادة ، فكان آخر على ضِدٍّ قد سلكتِ الحداثة ، إذ غَلَتْ في الحس ، فانتصرت للجسد من الروح ، للمادَّةِ من المعنى ، فَصَارَتِ المادة هي الحقيقة في الخارج ، فلا حقيقة لها تجاوز ، فَثَمَّ ، كما تقدم في موضع ، حلول واتحاد : حلول المطلق الأعلى واتحاده بمثال محدَثٍ في الأرض ، سواء أكان ذا شخص في الخارج يثبت حقيقة ، كما حلوله في ذات المسيح عليه السلام ، أو ذات الإمام أو الشيخ أو الكاهن في الأديان الأرضية المحدَثة إذ يعالج من أجناس الرياضة والزهد ما قد جَاوَزَ الحد ، وبه يخلص من الحقيقة الجسدية السفلى فَيَصِيرُ أهلا أن تَحِلَّ فيه الحقيقة الروحانية العليا ، فسواء في ذلك أكان المثال المحدَث في الأرض ذَا شخص في الخارج يثبت حقيقة أم آخر يعتبر ، كما مثال الدولة التي صارت الإله الذي حَلَّ فيه المطلق الأعلى ، وبه حركة التاريخ تُفَسَّرُ إذ سرى فيها هذا المطلق ، وذلك ما اخْتُزِلَ بَعْدًا في شخصِ حقيقةٍ في الخارج ، شخصِ الحاكم أو الملك ذِي الحق الإلهي المطلق ، فتلك الحقيقة التي وجدها الشعب المختار تحكما آخر في الإثبات ، فكان التفاضل على قاعدة الحس الذي يَتَنَاوَلُ العرق والعنصر ، وكان من المادة أصل في الخارج هو الواحد إذ المعنى قد اتحد بها فاضمحل ، ولم يَبْقَ سوى المادة في الخارج وهي المدركة بالحس الظاهر ، فليس بِسِوَاهُ تثبت الحقائق ، تَحَكُّمًا قد تَقَدَّمَ ، إذ صير الجهل حجة على العلم ، فإذ جهل الحس فذلك دليل العدم ، وإن لم يجاوز في الحد عدم الدليل ، وقد يثبت الشيء بأكثر من مرجع ، فَلَيْسَ فَوَاتُ واحدٍ منها يَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ كُلٍّ ، فقد يفوت في الباب دليل الحس ، ويكون آخر من العقل والفطرة ، أو الخبر الذي يجاوز المدارك كافة ، فهو يَرْفِدُهَا بما لا تطيق دَرَكَهُ ، وهو ، مع ذلك ، لا يتحكم ، فَيَضطَّرَ العقل أن يؤمن بمحال ذاتي يمتنع إذ يخالف عن بدائه الضرورة الأولى في الوجدان ، فَلَا يُلْجِئُهُ بِمَا يُخَالِفُ عن المقدمات الأولى في الاستدلال ، فلا يُكْرِهُهُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الجزء أكبر من كُلِّهِ ، أو أَنَّ الواحد إلى مثله يعدل ثلاثة لا اثنين ، أو أن الثلاثة إذا اجتمعت فالحاصل واحد ..... إلخ من المحالات الذاتية التي تمتنع في العقل المصرح ، وهي بعدا تجافي فطرة أولى تسلم من عوارض الآفة والسفسطة التي تنكر البدائه والضرورات الثابتة لَدَى كُلِّ ذِي عقلٍ ناصح ، وهي ، أيضا ، تجافي الحس ، فما سَلِمَ من آلاته فهو يعالج من المحدَثات في الخارج ما يدل ضرورة على محدِث أول ، وذلك مما يجاوز مَدَارِكَ الحسِّ بما تَقَدَّمَ من تسلسلٍ في الأسباب من المشهودات إلى المغيَّبات التي تَنْتَهِي ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وعنه علة الخلق تصدر ، فكل أولئك من المجمل في أدلة العقل والفطرة والحس ، فلا تنفك تطلب ضرورةً الخبرَ المجاوز من خارج ، فهو يبين عن مجملاتها .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس