عرض مشاركة واحدة
 
 رقم المشاركة : ( 8 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 9
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 03-20-2024 - 05:10 PM ]


فكان من دلالة العمل ختامَ الآية : (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، كان منها ما تناول حركات الاختيار كافة ، وذلك مما يجري ، من وجه ، مجرى المجاز ، إذ كان من مدلول الضمير في "تَعْمَلُونَ" ما دل بأصل الوضع الأول على الجمع المذكر ، فواو الجمع نَصٌّ فيه ، وثم من القرينة ما جَاوَزَ المدلول الأول ، فهو ما استغرق كل محل قد صَحَّ تَوَجُّهُ التكليفِ إليه ، وهو ما عم فَتَنَاوَلَ المذكر والمؤنث ، وَإِنْ نَصًّا أخص في اللسان على المذكر ، فكان من ذلك خاص يُرَادُ به عام يتناول الجميع بما كان من قرينة العموم في خطاب التكليف ، وهو ما يجري مجرى المجاز ، فمنه مجاز الخصوصية إِذْ أَطْلَقَ الخاص وَأَرَادَ به العام الذي يستغرق آحاده كافة في الخارج ، ومن ينكر المجاز فهو يجري ذلك مجرى عرف من اللسان أخص ، وهو حقيقة في الحد تَقْضِي في حقيقة من اللسان أعم ، فكان من العرف ما اشْتُهِرَ في التَّدَاوُلِ ، ومنه التغليب ، فَخِطَابُ الجمعِ المذكَّر تَغْلِيبٌ بالنظر في جمعِ المخاطَبين ، إذ يغلب عليه الرجال فالأصل فيهم الاشتهار ، لا النساء فالأصل فيهم الاستتار .
وثم آخر قد احْتَمَلَ المجازَ عند من يُثْبِتُهُ في اللسان والوحي ، إذ أَطْلَقَ الخاص وهو العمل ، وهو شطر من الاختيار ، إذ ثم منه الاعتقاد الباطن ، وآخر يظهر من اللِّسَانِ إذ يَنْطِقُ أو يَسْكُتُ ، فالسكوت ، كَمَا قَرَّرَ أهل الشأن ، قد يفيد من البيان ما يُفْصِحُ ، فيكون السكوت في أحيان أَبْلَغَ من المنطق ، فالسكوت في موضع البيانِ : بَيَانٌ ، وهو ما يقع من العبد اختيارا ، كما النطق ، وإن كان على ضِدٍّ ، فالترك فعل ، كما يقول أهل الشأن ، إِنْ تَرْكَ القولِ في موضع البيان ، أو ترك الفعل ، فصار من الترك ما به تخلية المحل ، وذلك مما يُرَادُ ، وَإِنْ لِغَيْرٍ ، فالنفس قد خُلِقَتْ لِتَفْعَلَ لا لِتَتْرُكَ ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، فَثَمَّ من جنسِ التَّرْكِ مَا عَمَّ فاستغرق فَتَحْتَهُ من الآحاد ما يَتَعَدَّدُ ، فَثَمَّ ترك في الاعتقاد ، فيكفر بالمتروك ، وبه تخلية المحل ، فلا ينفك يطلب بعدا ما يشغل ، فيكون منه تحلية بعد تخلية أولى بها المحل يشغر ، وليس في النفس شغور ، فلم تخلق ، كما تقدم ، للتروك ، وإنما خلقت لضد من الأفعال ، وذلك ما عم فَتَنَاوَلَ المحال كافة ، فإذ كان ثم تَرْكٌ في الاعتقاد به الكفر بالمتروك ، كما الكفر بالطاغوت ، وهو فعل أول به المحل يُخَلَّى قَبْلَ أَنْ يُشْغَلَ بضد ، فيكون من ذلك إيمان بالله ، جل وعلا ، فكان من ذلك شرط قد تركب ، فثم أول به التخلية ، فـ : (مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) ، وثم تال به التحلية : (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) ، فَكَانَ تَرْكُ الطاغوت شطرا أول من الاعتقاد يثبت ، وَثَمَّ منه فعل ، إذ كان بالإرادة التي تَعْدِلُ عن المتروك وَتَنْتَحِلُ ضِدًّا هو المفعول ، فلا يكون تَرْكٌ لِذَاتِهِ ، فَلَيْسَ ذَا حال النفس ، فقد جبلت ، كما تقدم ، على الفعل لا الترك ، فَثَمَّ كُفْرَانٌ وجحود بالطاغوت ، فذلك ترك أول ، وبه المحل يَنْصَحُ إذ يَسْلَمُ من مادة الباطل ، وعنوانها الجامع : عنوان الطاغوت الذي يجاوز به العبد الحدَّ ، إذ يكون الغلو الذي يَسْتَغْرِقُ الطاعة والاتباع والعبادة ، فَإِنَّ من الطاعة دِينٌ بِهِ يَتَعَبَّدُ الطائع ، فَهُوَ يُسْلِمُ القياد لمن يطيع ، ويكون من الاتباع ما يطلق ، فهو في هذه الحال المقلِّد الذي لا يسأل عن الدليل ، وذلك مما يحمد إن كان تقليدا لمعصوم ، فكان من البحث ابتداء ما يجتهد صاحبه أَنْ يُحَرِّرَ مناطَ العصمةِ الناصحَ ، فيسبر ويقسم ، ويكون من ذلك جمع لطرق الباب ، فالأدلة تَتَضَافَرُ لتفيد من الدلالة مجموعةً ما لا تفيد منفردةً ، فَثَمَّ من الدليل المفرد ما استوجب نظرا يحقق ، فهو يتناول صحة النقل أولا ، وثم آخر يعضد ، وهو ما يواطئ العقل المصرح ، فلا يجوز فِيهِ خلاف بين نقل صحيح يخبر بغيب يجاوز مدارك العقل والحس ، فيخبر بالمحار لا المحال ، فإن من عدم العلم بالدليل الأخص ، وهو في الغيب دليل الخبر المصدق ، فإن من عدم العلم به ما يُوجِبُ التَّوَقُّفَ ، فَثَمَّ أول من العقل يجوز ، وإن حَارَ في الحقيقة والكيف ، فَثَمَّ جائز في العقل مبدأَ النظرِ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فإذا لم يكن ثم مرجِّح من الخبر ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، فالجائز مما يتوقف فيه الناظر ، فيستصحب فيه عدما هو الأول ، لا عَدَمَ المحال ، وإنما عدم الجائز الذي يحتمل الإثبات إذا كان ثَمَّ دليل مُثْبِتٌ ، وإلا وَجَبَ التَّوَقُّفُ ، فَاسْتُصْحِبَ العدمُ حتى يكون ثم دليل من خارج يرجح ، فإن لم يكن عند واحد ، فقد يحصل لدى آخر ، فيبلغه من الدليل المثبِت ما لم يبلغ الأول ، ومن علم فهو حجة على من لم يعلم ، فليس عدم العلم بالشيء يَسْتَلْزِمُ العلمَ بالعدم ، بل قد يكون ثم دليل يثبت ، وهو مما يجاوز دليل العقل لا أنه يأتي بما يخالف عن قياسه المصرح ، وإنما يأتي بما يحار العقل في حقيقته وكيفه ، فيجاوز العقلَ في الإثبات الأخص ، لا في التجويز المحض ، فمن العقل أولٌّ يُجَوِّزُ ، وهو ما استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فَثَمَّ من الدليل ما يجاوز العقل والفطرة والحس ، وإن كان من الغيبِ ما يَثْبُتُ جملة في الفطرة الناصحة ، والقياس المصرح ، والحس السالم من الآفة ، ولو الاستدلالَ بالأثر على المسير ، فإن من آي الآفاق والأنفس ما يدل ضرورة على خالق مقدِّر هو الأول ، فلا أول قبله ، فإن المحدَث لا ينفك يطلب المحدِث ، وهو مما في الخارج يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي ضرورة إلى أول لا أول قبله ، فالأسباب كافة عنه تصدر ، صدور المخلوق الحادث عن الخالق ، وهو الخالق بالفعل المؤثِّر لا بالطبع المجرَّد ، كما اقترحت الحكمة الأولى التي غَلَتْ في التعطيل ، فاقترحت المطلق بشرط الإطلاق ، ولا وجود له في الخارج يجاوز ، فليس إلا الوجود الذهني المجرد ، وليس ذلك بشيء في الخارج يثبت ، فلم يكن إلا العدم الذي جُرِّدَ من الوصف المقدِّر في الأزل فلا علم أول يحيط ، وإنما علم كُلِّيٌّ هو المجمل ، فلا يكون الخلق إلا بعلم جزئي هو المفصَّل ، وكذا تناول التجريد الوصف المؤثِّر بإرادة ترجح ، فلم يكن من فعل تلك العلة المجردة إلا فعل الطبع اضطرارا ، فَثَمَّ من خبر الرسالة المنزلة ما واطأ مقدمات العقل المصرحة ، أن ثم من التقدير والتأثير ما لا يكون إلا عن خالق أول له من الوصف ما جاوز التجريد الذهني الذي اقترحته الحكمة الأولى ، فَثَمَّ من وصف الخالق الأول : علم محيط قد استغرق ، ومشيئة تالية ترجِّح ، فَثَمَّ من آحادها ما يحدث ، وهو المصدِّق لما قَدُمَ من نوعها ، المظهِر لما كان من تقدير أول قد تناول المقدورات الجائزات كَافَّةً ، فَثَمَّ من المشيئة ما تأول العلم الأول ، وهو ما جاوز الإيجاد المطلق ، فَثَمَّ من الإتقان والإحكام ما يعالجه الحس ، ويكشف عنه التجريب والبحث ، فَلَيْسَ له يُؤَسِّسُ ، بل هو عنه يكشف ، إذ يُظْهِرُ مَا كان خافيا من دقائق الحقائق ، وسنن التدبير التي بها الفعل والتأثير ، فكل أولئك مما يعالجه الحس ، فهو شاهد ، وإن لم يدرك حقيقة الغيب ، فهو يُثْبِتُ مِنْهَا المجمل ، كما العقل المصرَّح والفطرة الناصحة ، فكل أولئك مما يدل دلالة الإجمال على غَيْبٍ يجاوز ، وهو وجود الرَّبِّ المدبر الخالق ، جل وعلا ، فهو أول لا أول قَبْلَهُ ، وله من الكمال الذاتي ما لا يعلل ، وهو ما قَدُمَ في الأزل ، وَثَمَّ من ذلك ما تَنَاوَلَ الأسماء والصفات والأفعال والأحكام ، وإن كان من بعضٍ : آحاد تحدث ، فَثَمَّ من النوع أول يَقْدُمُ ، فالآحاد تأويل له في الخارج يصدق ، لا إكمال لما كان ناقصا لدى المبدإِ ، فذلك وصف المخلوق المحدَث لا الخالق المدبِّر ، جل وعلا ، إذ له من الكمال أول يطلق ، فلا يقاس على المخلوق المحدَث الذي يكون منه لدى المبدإ : عدم في الخارج ، وإن كان ثم وجود أول في علم التقدير المستغرق الذي تَنَاوَلَ المقدُورات كافة ، المحال والأسباب ، وما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى تُعَالِجُ ، فَثَمَّ من ذلك سَنَنٌ محكم في تأثير السبب وقبول المحل ، وذلك أصل يطرد في الحكومات كافة ، وَاضْرِبْ لَهُ المثل بالدواء ، فهو سبب في حصول الشفاء وزوال المرض ، إذ رُكِزَتْ فِيهِ قوى تُؤَثِّرُ ، وَكَانَ في المحل أخرى تَقْبَلُ ، فيكون من ذلك تَلَاقٍ به الشفاء يَثْبُتُ ، وهو ما لا يستقل بالفعل والتأثير ، بل لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ شرطا يُسْتَوْفَى ليقبل المحل آثار الدواء ، ومانعا يُنْفَى ، وإلا لم يصب الدواءُ الداءَ ، وإن باشر المحل ، فَثَمَّ من المانع ما عَطَّلَ ، فحصل من ذلك مجموع مركب ، فَثَمَّ المحل الذي يَقْبَلُ ، وثم السبب الذي يُبَاشِرُ ، وَثَمَّ الشرط الذي يُسْتَوْفَى ، وثم المانع الذي يُنْفَى ، فَحَصَلَ من ذلك مجموع مركَّب قد اصطلحَ أهلُ الشأنِ أنه العلة ، وهي ما استوجب أولا يَتَقَدَّمُ ، فهي المحدَث الذي لا يَنْفَكُّ يطلب أولا هو المحدِث ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ فيجاوز حَدَّ الشهادةِ ، ويكون من السبب أول هو المغيَّب ، وذلك ، أيضا ، مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، وإلا لزم من ذلك عدم في الخارج ، فلا وجود يَثْبُتُ فِي نَفْسِ الأمرِ ، وهو ما يُفْضِي إلى فساد في العقل ، وسفسطة في القول ينكر صاحبها مبادئ الضرورة التي يعالجها بحواسه ! ، فَثَمَّ من ذلك ما أُجْمِلَ في العقل المصرح والفطرة الناصحة والحس السالم من الآفة ، وإن تَكَلَّفَ مَنْ تكلف إذ سلك جادة الحداثة أن يجفو دليل النقل ، فلا يقيم وَزْنًا إلا لدليل الحس ، وهو ما يخالف عن مقدمات الضرورة العقلية الناصحة ، كما تقدم من نَفْيِ التلازم بين عدم العلم والعلم بالعدم ، فلا يتلازمان في الوجود والعدم ، بل قد يكون ثم عَدَمُ علمٍ يُعَالِجُ صاحبه من الدليل ما لا يُثْبِتُ ، لا أن الدليل في نَفْسِهِ فاسد ، بل المعلوم له يجاوز ، وذلك مما اطرد في مباحث العلوم كافة ، ولو المدركةَ بالحسِّ التي عظمتها الحداثة وصيرتها الأصل إذ اتخذت الجسد رائدا في الإثبات والنفي بما عَالَجَ بِحَوَاسِّهِ ، فإن من عدمِ العلمِ في مواضع ، إذ ثم جمل من الظواهر التي لا يدركها الحس إذ يباشر بلا واسطة من آلة ، ثم منها ما هو غيب مبدأ النظر ، فكان قَبْلًا من المغيَّب الذي لا يدرك بالحس المحدَث فلم يكن عدما حتى عالجه الحس بما عضد من آلة البحث ، فالحس المعضَّد له يكشف ، لا أنه يُؤَسِّسُ فَمِنَ العدم ينشئ ، بل هو الموجود قَبْلًا ، وإنما كان من الدليل ما عنه يكشف ، وإن لم يدركه دليل الحس المجرَّد ، فثم آخر منه قد اعتضد ، فكان من الدليل أول لا يُثْبِتُ ، وهو دليل الحس المجرد ، وثم من زيادة الدليل ما اعتضد بالآلة ، فصار المغيَّبُ من الشهادة ، فلم يكن عدما قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ ، بل كان ثَمَّ وجودٌ وإن لم يُدْرَكْ بالحسِّ المجرَّد ، ثم صار المشهود بما اعتضد به من آلةِ البحثِ والنظرِ ، فلم يكن عدم العلم بما عالج الحس المجرد ، لم يكن علما بالعدم ، بل ثم وجود قد كشفه بَعْدًا الحسُّ إذ اعتضد بالآلة ، وهو ما يدحض دعوى الحداثة ألا مُدْرَكَ إِلَّا ما يُعَالِجُ الحس ، وَأَلَّا غَيْبَ يجاوز مدارك الجسد ، بل ثم غيب ، وَإِنْ نِسْبِيًّا في هذا العالم ، فلم يكن من عدم وجدانِه بالحس دليل أنه المعدوم في نَفْسِ الأمرِ ، فَلَا يَلْزَمُ من ذلك علم بالعدم ، بل قد ثَبَتَ بدليل آخر ، وهو ما عَالَجَ من آلة البحث والنظر ، وعلى هذا فَقِسْ في مباحث الغيب المطلق ، فليس عدم العلم بالدليل فِيهَا عِلْمًا بالعدم ، بل ثم منها ما يَثْبُتُ بدليلٍ آخر يجاوز ، وإن كان من أدلة العقل والفطرة والحس ما يشهد ، فتلك شهادة الإجمال فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ مَا يُفَصِّلُ ، وهي ، من وجه آخر ، شهادةُ التجويزِ المحضِ ، وهو مما اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الاحتمالِ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ المرجِّح من خارج ، وهو دليل الخبر الصادق ، وإلا كان التَّوَقُّفُ في الجائزات من المغيَّبات التي لا يَتَنَاوَلُهَا الحسُّ المحدَثُ ، فكان التوقف إذ لم يكن ثم دليل أخص ، وهو في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فَوَجَبَ التوقف فلا إِثْبَاتَ وَلَا نَفْيَ ، ووجب استصحاب عدم أول ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، وإنما عدم الجائز الذي يقبل الإثبات إذا كان ثم دليل يرجح ، فلا يكون من ذلك تحكم يُرَجِّحُ في الباب بلا مرجِّح ، فَثَمَّ من الأدلة في بابِ الغيبِ ما أُجْمِلَ ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب آخر يُبَيِّنُ ، فكان من ذلك دليل الخبر المجاوز من خارج ، وهو ما حَسُنَ لأجلِه الاشتغال بِتَحْرِيرِ الأصلِ ، إِنْ فِي الصحة أو في الضعف ، لا معارضته بالعقل ، فَإِنَّ العقل لا يزيد في هذا الموضع أَنْ يُجَوِّزَ ، وذلك ، كما تقدم ، لَا يُجْزِئُ فِي إثباتٍ أو نَفْيٍ أَخَصَّ ، وإنما غايته التوقف حتى يكون ثم دليل من خارج يُرَجِّحُ ، فَحَسُنَ الاشتغالُ بتحريرِ الأصلِ ، أن يعالج الناظر من أدلته ما يَنْصَحُ ، فالمبدأ منه آحاد تَتَعَاضَدُ ، فَهِيَ ابتداءً تُفِيدُ الظنَّ الراجحَ إذا سلمت من المعارِض ، واستوفت من الشرط ما يَنْصَحُ ، وهو ما يجزئ في الاستدلال إِنْ فِي العلمِ أو فِي العملِ ، وذلك ما لا يكون إِلَّا بَعْدَ أَوَّلٍ يُحَرِّرُ الْأَصْلَ ، أصلَ النُّبُوَّةِ والوحيِ ، فذلك ما استوجب بحثا يزيد حتى يحصل من ذلك اليقين ، فيكون منه دليل يفيد الضرورة في باب العصمة ، أن ثم من الوحي والنبوة مرجع ناصح في الاعتقاد وفي الشرعة ، فلا يكون التقليد لها بَعْدًا في فروعٍ من العلم والعمل مما يُذَمُّ ، بل صاحبه أولا قد بَذَلَ الجهد واستفرغ الوسع فِي سَبْرٍ وَتَقْسِيمٍ لأدلة النبوة والوحي ، فكان من ذلك اجتهاد يَنْصَحُ ، قَدْ سَلِمَ به من وصفِ تَقْلِيدٍ يُذَمُّ ، بل ثم آخر يحمد ، فقد حصل له أولا يقين العصمة ، عصمةِ المرجِعِ الذي له يُقَلِّدُ ، فكان من ذلك محل اقتداء يُؤْمَنُ إن في التصور أو في الحكم ، إن في العلم أو في العمل ، فإذا صَحَّ الخبر فهو المذهب ، وذلك مما عم فاستغرق المسائل كافة ، الخبرية والإنشائية ، فإذ كان من الأدلة ما تَعَاضَدَ في الخارج ، أدلة النبوة ، ولها في العقل ما يعضد ، إذ ثم من طلب الأول الذي لا أول قبله ، ثم من ذلك ما عَمَّ التشريع كما التكوين ، إذ الخلاف به يحسم بين أهواء وأذواق تَتَعَدَّدُ ، فلا تنفك تطلب المرجِّح من خارج ، فَهُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهَا في الحكم ، وهو السالم من الآفة والنقص ، لا كَمَا وصفها الذي به تُتَّهَمُ في حكومتها ، وإن تحرت ما تحرت من العدل ، فثم تلازم في الباب : باب التكوين ، فلا ينفك يطلب أولا يرجح ، فلا أول قبله ، إذ له من الوصف ما أطلق ، وهو ما يحسم مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا بد من رجوعِ كُلٍّ إلى أول لا أول قبله ، فهو يرجح في تال من الخلق المحدَث أَنْ يُقَدِّرَهُ في الأزل ، ثم يُوجِدَهُ بَعْدًا ، فيكون من المشيئة آحاد تَنْفُذُ ، وعنها كلماتُ التكوينِ تصدر ، وهي المرجِّح من خارج ، إذ تُرَجِّحُ في الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ العدمِ ، وإن قَبِلَ بَعْدًا الوجود بما يكون من سببِ إيجادٍ ، فَثَمَّ تجويز أول هو المحض ، ولا يجزئ في وجود يزيد في الحد ، حتى يكون من الدليل ما يوجد ، فَيُرَجِّحُ من خارج ، ويكون من ذلك ما لِصَرِيحِ العقلِ يُوَاطِئُ ، إذ يسلم من التحكم أن يكون ثم ترجيح بلا مرجح ، بل ثم من المرجح المعتبر : كلمات تكوين تنفذ ، وبها تأويل لمقدور أول ينصح ، إذ يخرجه من العدم إلى وجود تال يصدق ، وقل مثله في إثبات هذا المغيَّب ، فذلك قدر يزيد ، وهو يجاوز وجوده في نفس الأمر ، فقد يوجد ولا يثبت لدى الناظر إذ لم يعالج الدليل المثبِت ، فلا يكون جهله بالدليل المثبِت حجة ، بل من علم الدليل فهو حجة عليه ، فَثَمَّ من عَالَج من أدلة الوحي أخبارا تُثْبِتُ مِنَ الغيبِ ما لا يستقل العقل والفطرة والحس بدركه ، وإن لم يُحِلْهُ في نَفْسِ الأمر ، فهو له يجوز ، بل قد يوجبه ، وإن الإيجابَ المجملَ ، كما إثبات الأول الذي لا أول قبله ، فذلك مما ثبت ضرورةً مبدأ النظر المصرح ، وهو ، مع ذلك ، المجمل الذي لا ينفك يطلب من الدليل ما يبين ، فكان من نصوص الإلهيات ما بَيَّنَ ، وذلك قدر يزيد على أول من الضرورة العقلية والفطرية والحسية ، فلا تجاوز في الباب حد الإثبات المجمل ، إذ ثم من حقائق الإلهيات ما لا يُدْرَكُ إلا بخبرٍ يخرج من مشكاة النبوات ، وقل مثله في مرجع التشريع ، كما أول قد تقدم من التكوين ، فَكُلٌّ يطلب من الأول ما لا أول قبله ، إذ يرجح من خارج ، فالوحي يُرَجِّحُ من خارج في حكومات العقول إذ تَتَخَالَفُ وَتَتَدَافَعُ ، فلا تسلم من الأهواء والحظوظ ، وإن رُكِزَتْ فِيهَا مبادئ ضرورة في باب الحسن والقبح ، فذلك مجمل يطلب تاليا يُفَصِّلُ ، وثم منه ما يبيح ويحظر ، فيكون من التشريع ما يزيد ، فذلك مرجع من خارج يجاوز قد دل عليه العقل ضرورةً بما يعالج من الخلاف في التصور والحكم ، فيكون من ذلك متشابهات من الأهواء والأذواق ، فلا تنفك تطلب المحكم الذي فيها يَقْضِي قضاء العدل .
فَثَمَّ افتقار ضرورة آخر إلى مرجع يجاوز من خارج ، فذلك عام قد استغرق التكوين والتشريع كافة ، فَثَمَّ افتقارٌ إلى أول هو الرب الخالق ، وثم افتقار إلى أول هو الإله الحاكم ، وبهما حد التوحيد المجزئ يثبت ، فتوحيد في العلم وآخر في العمل يصدق ، فَثَمَّ من ذلك دليل ضرورة يبين عن حاجة الخلق إلى الوحي ، فهو الواسطة بينهم وبين الحق ، جل وعلا ، وثم من أدلة النبوات آخر يعالج ما كان من قَصَصِهِمُ التي اشتهرت ، وما كان من عاقبة لهم على خصومهم في كل جيلٍ ، وما نَالَ المصدِّق من الخير المعجل ، وإن كان ثم ابتلاء يعظم ، وما نال المكذِّب من عاقبةِ سوءٍ وَهَلَكَةٍ ، وإن حصل له أول من المكنة ، وبه الاستدراج والمكر ، فإذا أُخِذَ لم يُفْلَتْ .
وثم من آي الحس ما اصْطُلِحَ لَدَى النظار أنه المعجزات ، وثم منها ما يُعْقَلُ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، الأشرف ، والوحي الخاتم في الباب أول ، فَثَمَّ من إعجاز المعنى ما كان من حفظِ الذكر المنزل ، وذلك وعد في الباب يصدق ، كما في آي من الذكر المحكم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ التعظيم في النطق ، وذلك مما يحسن في مواضع الامتنان ، وَأَيُّ مِنَّةٍ أعظم من حفظ الذكر المنزَّل ؟! ، فَثَمَّ من التعظيم في الحد أَنْ كَانَ من ذلك الإسناد إلى الجمع ، فَاسْتُعْمِلَتْ منه ضمائر في الباب هي النص : "نَحْنُ" ، و : "نَا" الدالة على الفاعلين ، وواو الجمع في "لَحَافِظُونَ" ، مع ما زِيدَ في الحد ، فَثَمَّ من زيادة الضمير "نَحْنُ" ما يجري مجرى التوكيد ، من وجه ، فهو توكيد لِضَمِيرِ الفاعلين في "نَزَّلْنَا" ، وقد أَجْرَاهُ بَعْضٌ مجرى المبتدإِ ، وبه اسْتُؤْنِفَتْ جُمْلَةُ الخبرِ ، خبرِ الناسخ "إِنَّا" ، فاسمه هو ضمير الجمع الذي به اتصل ، وَخَبَرُهُ على هذا الوجه هو الجملة الاسمية : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، فَثَمَّ من الضمير ما به الجملةُ صُدِّرَتْ ، فهو الاسم الذي وَرَدَ صدر الكلام ، وحده في الإعراب أنه المبتدأ ، وهو ، في هذا الموضع ، حكاية رَابِطٍ بين اسم الناسخ في "إِنَّا" ، وجملة الخبر : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، ولا تخلو الجملة الاسمية ، وهي الخبر على هذا الوجه ، لا تخلو من دلالة توكيد أول ، فهي مئنة الثبوت والاستمرار ، وهو ما يحسن في سياق الامتنان ، وثم من التوكيد آخر بالتكرار ، فخبرها جملة فعلية قد صدرت بالماضوية في : (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، وهي ، أيضا ، حكاية ثبوت ، إذ مَضَى الحدث وَانْقَضَى ، فَثَبَتَ يَقِينًا لا يَرْتَفِعُ ، وثم من التكرار آنف الذكر ، تكرار الإسناد في النطق ، فَثَمَّ من الفاعل اسما : ضمير الفاعلين في "نَزَّلْنَا" ، وثم آخر من المعنى وهو ما كان من المبتدأ "نَحْنُ" ، فَهُوَ فاعل في المعنى إذ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الخبرُ وهو الجملة : (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، كما الفعل يُسْنَدُ إِلَى الفاعلِ ، فَثَمَّ تكرارُ إسنادٍ من هذا الوجه ، فَاعِلِيَّةَ لَفْظٍ في "نَزَّلْنَا" ، فالضمير "نَا" هو الفاعل ، وأخرى من المعنى إذ أُسْنِدَ الخبر إلى المبتدإ إسنادَ الفعل إلى الفاعل ، وثم ، أيضا ، من الضمير ما هو رَابِطٌ ، ضمير "نَزَّلْنَا" ، فهو رابط بين الخبر وهو الجملة الفعلية ، والمبتدإ وهو الضمير "نَحْنُ" ، وَكُلُّ أولئك مما رَفَدَ السياق بِزَوَائِدَ في المبنى لا تَنْفَكُّ تَحْكِي أُخْرَى تَعْدِلُ في المعنى ، وقل مثله في تكرار الناسخ ، صدر كل شطر : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، و : (إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وكذا في لام ابتداء قد تَأَخَّرَتْ فِي "لَحَافِظُونَ" ، فهي اللام المزحلقة التي تَأَخَّرَتْ فِي الذِّكْرِ إِذِ اشْتَغَلَ المحل بالناسخ المؤكد "إِنَّ" ، وهو في الباب أقوى ، فلم يحتمل المحل آخر من نَفْسِ الجنسِ ، ولم يُقَدَّمْ عَلَيْهِ غَيْرٌ ، فهو أُمُّ الباب ، وله فيه الصدارة مطلقا ، فإن كان ثم آخر من نفس الجنس ، فهو يَتَأَخَّرُ ، لئلا يَثْقُلَ المحل في النطق إذ اجتمع فيه اثنان من نفس الجنس ، فَاقْتَضَتِ الحكمة أن يقدم الأقوى ويؤخر الأضعف ، وكان من خفة النطق ما يحسن .
وَلَفْظُ "نحن" ، قد حُمِلَ ، من وجه ، على التوكيد ، فَثَمَّ منه ضمير فصل يفيد التوكيد والحصر ، على تقدير : إنا نحن وحدنا نَزَّلْنَا الذكر لا أحد غيرنا ، فثم من القصر ما أَوْجَزَ فَحَذَفَ من الكلام شطرا تاليا يَنْفِي بَعْدَ أول يُثْبِتُ ، فَثَمَّ من إثبات الفعل ما أسند إلى الله ، جل وعلا ، وحده ، وهو ما اسْتَلْزَمَ في الدلالة أَنْ يُنْفَى عَنْ غَيْرٍ ، فلا يكون إِنْزَالٌ لِذِكْرٍ محكَم إلا من واحد وهو الربُّ المهيمنُ ، جل وعلا ، فالقصر يوجز في النطق ، إذ يَحْذِفُ شطرا من الكلام ، فقد دَلَّ المذكور المثبت على المحذوف المنفي ، وهو جار على قانون اللسان المفصِح ، إذ لا حَذْفَ إلا بدليلٍ ، والأصل فيه أن يَتَقَدَّمَ في الوجود والذكر ، فذلك قياس العقل المصرح ، أن يتقدم الدليلُ على المدلول ، فيكون من الأول مرجع ، ومن الثاني تَابِعٌ يعقب ، فالأصل في الكلام ألا حذف ، فإن صِيرَ إليه فهو يفتقر إلى دليلٍ ، فكان من المذكور دليل ينصح على المحذوف المقدر ، وبه استأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فمنه مجاز الحذف ، وهو ، من وجه آخر ، جَارٍ عَلَى مِثَالِ التأويلِ ، فَثَمَّ ظاهر في الباب يُسْتَصْحَبُ ، فلا يفتقر إلى دليل إذ قَدْ ثَبَتَ لَدَى المبدإِ بما كان من استقراءٍ لوجوه الكلام المفصِح ، فحصل من ذلك سبر قد حَرَّرَ الأصل ، وهو الذكر لا الحذف ، فذلك ظاهر قد حصل له الدليل من الاستقراء والاستنباط آنف الذكر ، فَثَمَّ منه يقين جازم إن كان الاستقراء هو التام ، أو ظن راجح إن كان الاستقراء هو الناقص ، فحصل من ذلك ظاهر يُسْتَصْحَبُ بَعْدًا في كل كلامٍ يُنْطَقُ ، فلا يفتقر إلى دليل إذ استصحب مبدأَ النظر ، فالناقل عنه إلى آخر هو الخفي المؤول ، ذلك من يجب في حقه الدليل ، إذ قد خالف عن الأصل ، وهو في هذا الموضع الذكر لا الحذف ، فمن ادعى ما يخالف عنه فقدر المحذوف ، فذلك العدول عن الظاهر الراجح إلى المؤول المرجوح ، فلا يجزئ في إثباته دعوى مجردة ، قد صَيَّرَهَا صاحبها دليلا عليها ! ، فَتَحَكَّمَ في الباب إذ كان منه دور يبطل ، وبه قد صَادَرَ على المطلوب ، كَمَا يَقُولُ النُّظَّارُ ، إذ اسْتَدَلَّ بِصُورَةِ الخلافِ ، فالخصم لا يسلم بدعواه ، بادي النظر ، بل لا يَنْفَكُّ يستصحب من الأصل الثابت ما عنها يخالف ، فوجب على صاحب الدعوى من الدليل ما لا يجب على الخصم الذي يستمسك بالأصل ، فلا تقبل دعوى التأويل التي تعدل عن الراجح إلى المرجوح ، لا تقبل إلا بقرينة تصرف ، فكان من ذلك ما تَقَدَّمَ من القصر في ضمير الفصل "نَحْنُ" ، إن حُمِلَ في إِعْرَابِهِ أنه ضمير الفصل ، فكان من ذلك تكرار يُؤَكِّدُ ، إذ حصل الإسناد أولا إلى ضمير "نَا" الدالة على الفاعلين ، فكان من "نَحْنُ" ما أَكَّدَ ، وهو ما أَكَّدَ ضميرا في محل نصب ، وهو "نَا" في "إِنَّا" ، والقياس أن يؤكد بضمير نصب ، لا بضمير رفع ، إذ محله النصب فهو اسم الناسخ "إِنَّ" ، فكان من استعارة ضمير الرفع "نحن" ما به تَوْكِيدُ ضَمِيرٍ في محل نصب ، إذ ثم من المعنى ما تَوَاطَأَ ، و "نَا" وإن كانت في هذا المحل منصوبة ، فلها من المواضع أخرى تكون فيها المرفوعة ، فَوُرُودُهَا مَوْرِدَ الرَّفْعِ مما ثَبَتَ وَاطَّرَدَ ، فسهلت استعارة "نحن" في توكيدها ، من هذا الوجه ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إن محل "نَا" ابْتِدَاءً الرَّفْعُ على الابتداء قبل ورود الناسخ ، فاستصحب منها الأصل الأول ، وهي ، وإن نُسِخَتْ بعدا فَنُصِبَتْ إلا أن محلها مع الناسخ جميعا في محل الرفع ، كما قيل في تأويل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) ، فَثَمَّ من حمل عطف المرفوع "الصابئون" على مَحِلِّ "إِنَّ" واسمها ، فَمَحِلُّهُ الرَّفْعُ على الابتداء ، فكذا يقال في مَحِلِّ "إِنَّا" في قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، فأكدت بالمرفوع "نحن" ، وكان من ذلك دليل آخر يقصر ، وذلك ما شَطْرٌ منه قد حُذِفَ ، فإن شطره المذكور هو عين الدليل على تال هو المحذوف ، فدل المذكور على المحذوف ، على تقدير : إنا نحن وحدنا قد نَزَّلْنَا الذكر فلم يُنَزِّلْهُ أحد سوانا ، وتلك قرينة التأويل التي تسوغ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، وبه نصح مثال المجاز في هذا الموضع ، أن كان منه تأويلٌ يسوغ ، فَثَمَّ من القرينة دليل يشهد ، فلم يكن من دعوى الحذف ما أطلق ، بل ثم من الدليل ما يشهد ، وإن خالف عن الأصل فعدل عن الظاهر إلى المؤول ، وذلك مثال التأويل الذي يدخل في حد المجاز مع ما تقدم من مجاز الحذف ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل له يستصحب أن ذلك مما تداوله الجمع الناطق بما كان من العرف المشتهر ولو خالف عن حقائق من اللسان أولى تطلق ، فكان من حقيقة العرف ما قَيَّدَ ، وَتَنَازَعَ المحلَّ حقيقتان في الباب ، حقيقة العرف وأخرى من النطق ، لا حقيقة في حد ومجاز في آخر ، فَمَا تكلمت به العرب فاطرد في نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا ، فهو الحقيقة ، وَإِنْ عُرْفِيَّةً أخص ، فَلَهُ من قرينة التداول في النطق المركب ما يقيد حقائق أولى من اللسان تطلق .
وثم من التعظيم ما ثَبَتَ إذ أُسْنِدَ الفعل "نَزَّلَ" إلى "نَا" الدالة على الفاعلين ، وهو ما احتمل ، من وجه ، التعظيم المجرد ، وهو مما يحسن في مَوْضِعِ امْتِنَانٍ يعم ، فذلك ذكر للعالمين كافة ، فـ : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) ، فكان من تقديم ما حقه التأخير من الجار والمجرور "للعالمين" ، كان من ذلك آخر يَحْصُرُ وَيُؤَكِّدُ ، وثم من عموم العالمين ما تَنَاوَلَ الآحاد جميعا فاستغرق ، فعم العالمين في زمانه وما تلا من أجيال الأمة ، أمة الإجابة الأعم ، وهو مما عَظُمَ في الحدِّ أَنْ كَانَ مِنْهُ ذِكْرٌ يشرف ، وبه يشرف المتَّبع الذي يصدق ويمتثل ، فَثَمَّ من دلالة الذكر ما عَمَّ فاستغرق ، فكان من ذلك : ذِكْرُ الأخبارِ الصادقة وآخر من الأحكام العادلة ، وهو ما تَنَاوَلَتْهُ "أل" إِذْ تَنَاوَلَتْ من مدخولِها بَيَانًا لجنسه وذلك في الدلالة أول ، وثم آخر قد استغرق وجوه المعنى ، فذلك ما عَظُمَ في الحد ، فهو النبأ العظيم الذي يشرف ، وثالث قد استغرق الآحاد كَافَّةً من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة ، وثم آخر قد تَنَاوَلَ أجناس النصوص من آي الكتاب المتواتر ، وما كان من أخبارٍ مُتَوَاتِرُهَا قَلِيلٌ ، وآحادُها كثير ، والعبرة فيها بالصحيح الذي استوفى الشرط ، وهو ما رَفَدَ الذكر بعهد أخص ، فكان من "أل" ما يحكيه ، فذلك عهد الكتاب الخاتم ، خاصة ، أو الشرعة الخاتمة ، عامة ، فكان من دلالة "أل" : دلالة العهد الخاص ، وَثَمَّ من ذلك ما يجري مجرى المشترك في "أَلْ" إذ احْتَمَلَتِ الوجوهَ آنفةَ الذكرِ ، وَنَصَحَتْ في كُلٍّ ، فَلَهَا منه وجه يعتبر ، فذلك المشترك الذي عَمَّ بدلالته ، فَتَنَاوَلَ من آحاد المدلول في الخارج ما كَثُرَ ، إذ احتمل وجوها من المعنى تَنْصَحُ ، فلا تعارض بَيْنَهَا بل الجمع يحسن ، فهو مما يعضد الدلالة ، وبه يستأنس من يجوز العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فَثَمَّ من الذكر ما عظم وشرف ، فحسن لأجله الإسناد إلى ضمير الفاعلين حكاية أخرى تعدل في التعظيم ، وقد يقال إنها مما يحكي كَثْرَةً في الخارج ، كثرة الصفات ، ومنها جمال العلم والحكمة في التشريع ، وجلال المشيئة والقدرة بما كان من آحاد من الوحي قد تَنَزَّلَتْ نجومًا فلا يكون ذلك إلا بمشيئة تنفذ ، فتلك كثرة في الوصف الذي يقوم بذات واحدة لها من الأولية والقدم ما يطلق ، لا كثرة الذوات فليس إلا ذات القدس الأولى وما قام بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فوحدها ، كما تقدم ، ما انْفَرَدَ بوصفِ الأولية المطلق ، فلا قديم سواها في الأزل يثبت ، فكان من ذلك تعظيم وتوكيد ، على التفصيل آنف الذكر ، فإما التوكيد بضمير الفصل ، وإما آخر بالإطناب الخبري ، فيكون من "نحن" مبتدأ وما بعده الخبر في قوله تعالى : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، والجملة مما أسند إلى الاسم الأول ، اسم الناسخ في "إِنَّا" ، فهو المبتدأ قبل دخول الناسخ ، فأسند إليه الخبر وهو الجملة : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، وقد يقال ، إن هذا الإعراب يَرْجُحُ من وجه ، إذ به تأسيس لمعنى جديد أَنْ تُحْمَلَ "نحن" على الابتداء الذي يستأنف معنى جديدا لا التوكيد لمعنى قد حصل ، والكلام إذا دار بين التأسيس والتوكيد فحملانه عَلَى التأسيس أولى ، كما قرر أهل الشأن .

وثم في الشطر الثَّانِي ما يجري ، أيضا ، مجرى القسيم الذي به اكتمال القسمة ، فـ : (إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فالكتب قَبْلًا كانت مُنَزَّلَةً من عند الله ، جل وعلا ، ولكنها لم تحفظ ، فكانت المنة السابغة في الرسالة الخاتمة أن كان التنزيل ثم الحفظ ، وهو ، أيضا ، مما أكد بالناسخ ، وثم من الإسناد إلى ضمير الجمع في "إِنَّا" ، ثم منه ما يواطئ السياق ، فالشطر الأول مما جرى الإسناد فيه إلى ضمير الجمع ، فكانت المواطأة في اللفظ ، ولا يخلو المعنى من تعظيم بما كان من منة الحفظ فهي تَعْدِلُ أولى من التَّنَزُّلِ ، وثم آخر يؤكد بما كان من تقديم الظرف "له" ، وحقه التأخير ، وثم من لام الابتداء ما دخل على الخبر إذ تأخرت ، فالمحل قد اشتغل بالناسخ ، وهو الأقوى ، إذ منه أم باب تقدم .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس