لا يكاد يمر يوم إلا و يصلك خبر وفاة قريب أو صديق أو جار كنت تراه في الحي يتجول على قدميه وإذا به ينعى إليك خبره , ومن المظاهر التي تدل على العزاء هي نصب بعض الخيام أمام البيوت لاستقبال المعزين فتشاهد تزاحم السيارات في تلك الشوارع وقد تقاطر الناس من كل مكان من أجل تعزية أهل الميت وتخفيف مصابهم وكسب الثواب .
فقد ذكر في الحديث الذي رواه الألباني في صحيح ابن ماجه بسند حسن عن عمرو بن حزم أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة " , فكيف بمن شهد صلاة الجنازة وشيعه إلى المقابر وحضر الدفن ثم عزى أهله وقرابته في ذلك , فلا بد أن الأجر عظيم جدا , فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط ، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان . قيل : وما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين .
وقد ذكر ذلك الأجر لأبن عمر رضي الله عنهما فتعجب من هذا الحديث وسأل عائشة رضي الله عنها ليتثبت من صحة ما رواه أبوهريرة فقالت : لقد صدق أبو هريرة فقال لقد فرطنا في قراريط كثيرة .
والسنة في التعزية أن تعزي قرابة الميت بعد دفنه مباشرة في المقبرة فإن لم تتمكن بالحضور فأينما صادفتهم إن كان ذلك في المسجد أو في منزلهم أو في السوق , ولا حاجة للتكلف لقطع مسافات بعيدة للصلاة عليه أو التعزية , فيكفي إذا بلغك الخبر أن تدعوا له وتستغفر الله له إلا إذا لم يوجد من أهله وقرابته إلا أنت ليقوم بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فالأولى أن تتولى أنت أمر ذلك لما له من حق القرابة , والمسلمون يحمل بعضهم بعضا حتى لو كان الميت مقطوع ولا يعرف له قرابة فإنهم يقومون بواجب الإسلام في حق أخيهم .
ان المراقب مؤخراً لحال المآتم وبيوت العزاء سيرى فارقا بسيطاً بين مظاهر الحزن على المتوفى ومظاهر التسلية خاصة في اليومين الثاني والثالث .وكثيراً ما نرى ان بيت العزاء اصبح مكاناً لملقى لقصص واحاديث بعيدة كل البعد ان هدفه الاساسي , وخاصة بعد مرور اليوم الاول .
يفتح بيت العزاء ليومين او ثلاثة بالكثير . اليوم الاول يغشاه الحزن والبكاء وفي اليوم الثاني والثالث او حتى وقت “الختمة” تبدأ القصص والحكايات ووصفات الطبخ وكل ما يخطر على البال من مواضيع، ولا يذكر سيرة المتوفي والمتوفاة إلا ساعة دخول المعزين : ” رحمه الله ” . وعند مغادرتهم : ” عظم الله أجركم “.
ان التعزية سنة مستحبة سنها الرسول عليه الصلاة والسلام بغرض مواساة أهل المتوفى وحثهم على الصبر على المصيبة التي حلت بهم ولا تزيد عن ثلاثة أيام لأن الأغلبية سيكونون قد هدأوا بعد هذه الأيام فما من داع لإعادة فتح الجروح، كما جاء في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم “لا يحل لأحد أن يحدَّ على أحد فوق ثلاث إلا المرأة على زوجها فإنها تحد أربعة أشهر وعشراً”. و إذا كانت زيارة أهل المتوفى تسبب ضيقاً أو حرجاً لأهله بسبب طول البقاء أو تكليفهم ما لا يطيقون تنقلب السنة معصية .. كما أن الزيارة مخصصة لتقديم المواساة وليست اجتماعا للقيل والقال .. ولا يوجد ما يدلل في السنة عن وجوب ترك الأعمال للجلوس ساعات أو أيام لاحتساء القهوة وتناول التمر، وهذا للأسف ما يحدث في مجتمعنا..
وفي مظهر آخر نجد الناس المعزين المقربين من ذوي الميت يمكثون الساعات والليالي الطوال عند أهل الميت مما يثقل كاهل ذوي المتوفى في الانشغال بهم عن مصابهم وهذا مخالف لسنة نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام حيث حثنا على مراعاة مصاب العائلة وإحضار الطعام لهم بقوله يوم وفاة جعفر: ” اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما يشغلهم” , كما أن سماع القرآن في بيت العزاء لا بأس به في حال أنصت له الموجودون، اذ قال تعالى : ” إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ” ولكنه ليس فرضاً واجباً . أما عن ظاهرة وجود الدعاة أو الخطباء فلا حرج فيها إذا ما كان المتكلم متمكناً.
فما بال أمتنا .. اتخذت من بعض بيوت العزاء مقاهي .. وجعلت وجبات الغداء فيه واجبةً ومدعاة للتفاخر بين الأقران؟! ..، وأحياناً كثيرة أخرى أضحت فيها بيوت العزاء ملعباً للأطفال فما أصبح المار يميز بين الفرح والترح الا بزينة الفرح....
أن العزاء مطلوب شرعا للمواساة والتخفيف على المصاب، وله آداب منها الدعاء للمصاب ولميته بالرحمة وحثه على الصبر والاحتساب رجاء الثواب. وأحسن ما يستعمل في التعزية ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل إلى أجل مسمى" متفق عليه، ولو قال (أحسن الله عزاءك) وغير ذلك، حصل المقصود، ومن الآداب التي ينبغي التأدب بها في العزاء وغيره ترك القيل والقال وعدم الكلام بغير المفيد وخاصة في مثل التعزية.
مظاهر عجيبة في بيت العزاء
وهناك مظاهر عجيبة تشاهد في العزاء حيث ترى بعض الأسر الثرية تقيم الخيام الكبيرة وتضع المكيفات والمراوح والمقاعد الفاخرة, وأهل الخدمة يقدمون القهوة والتمور للمعزين وإذا أقبل الليل أقاموا الولائم الفاخرة للناس وهم قائمين على هذا الفعل ثلاثة أيام بلياليها , ولا ندري أذلك فرحا برحيله أم حزنا عليه ولا يدل في الحقيقة ذلك على حزن على الميت بل هو عبث وتفاخر وإسراف في المال لا حاجة لفعله وقد يكون من تركة الميت وبدون أذن الورثة , و إذا تمعنت قليلا تبين أن ذلك كله مظهرا من مظاهر الرياء والسمعة وأن هذا يراد به إعلام الناس أن المتوفى من عائلة ثرية وأن مقامه يستوجب فعل هذا ولا يليق بمقام أهله أن يستقبلوا المعزين إلا بإظهار شيء من مكانته الاجتماعية , فيقولون أهله هذا أقل شيء نقدمه لفلان رحمه الله في أيام عزائه , ويا ليتهم تصدقوا بثمنه للفقراء والمساكين ليجد أجره في صحيفته خير من هذه المظاهر الكذابة .
وكل ما كانت مرتبة المتوفى عالية في المجتمع كل ما كان له مراسيم رفيعة في الدفن والعزاء , وربما ينعى خبره في وسائل الإعلام المختلفة , وربما تحمل جنازة ذلك الزعيم على الخيول ويمشي الناس خلفها بخطوات منتظمة وتضرب الطبول وأبواق الموسيقى تصدح باللحن الحزين والجميع يسيرون به إلى أمه الهاوية إن كان من الغافلين , وإن كان فقيرا ربما لا تجد من يتبع جنازته أو من يدفنه بل الذي يقوم بذلك هم المتعهدون من أهل الخير في المساجد المتخصصة لدفن كل ميت تصل جنازته للمسجد , بل نسمع أن بعض الموتى ما زال جثمانه محبوسا في ثلاجات الموتى من زمن طويل لا يسئل عنه أحد ولا يعرفه أحد وهذا كثيرمنتشر في المستشفيات , وقد يتأخر دفنه أحيانا شهور طويلة .
فحتى الجنائز أصبحت مقامات في ظاهرها ولكن الله هو الذي يعلم من الفائز منهم ومن الخاسر هل هو صاحب الخيام الفارهة أم ذلك الذي دفن بليل ولم يأبه به أحد .
بل أحيانا تجد أفراد القبيلة تتناصر حتى في العزاء لتظهر تكاتفهم في الوفاء لأبن قبيلتهم فيتزاحمون في بيته ويقيمون ثلاثة أيام يأكلون ويشربون على حساب هذه الأسرة المنكوبة ويرون هذا الفعل من الأجر العظيم ومن التدين , وفي الحقيقة هي بدعة منكرة ولا يقصد بها إلا الجهل القبلي وطلب السمعة عند القبائل الأخرى فتحولت الجنائز إلى استعراض قبلي مقيت ومكاثرة في العدد وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا .
والعجيب أن التعزية في السنة أن تؤدى مرة واحدة يعزي بها أهل الميت فترى ذلك الجاهل يعزي في المقبرة ثم يذهب إلى منزل أهل الميت ثم يعزيهم مرة أخرى ثم يرابط في منزلهم ثلاثة أيام يتردد عليهم وهذا خلاف السنة والهدي النبوي , والحقيقة أن تلك المجالس والخيام تتحول من مجالس عزاء إلى مجالس لتلاقي الأصحاب وتضييع الوقت والشاي والقهوة وأحاديث لا داعي لها , [frame="1 80"]وكم يتمنى أهل الميت أن ينتهي اليوم الثالث ليتخلصوا من هذا الحشد الرهيب ويغلقوا بابهم ويستريحوا من هذا العناء , فليت الناس إذا أدوا سنة العزاء انصرفوا وتركوهم وشأنهم , ويكفيهم الذي أصابهم من مصيبة .[/frame]
إن السنة أن تحضر الصلاة على الميت وتشيع جنازته وتحضر دفنه وتعزي أهله ثم تنصرف ولا تعود أليهم لتكرر ما تفعل , فإذا فعلت ذلك أصبت السنة وثبت لك الأجر كاملا إذا خلصت نيتك وبذلك انتهى دور التعزية , وما يفعله كثير من الناس خلافا للسنة وإحياء للبدعة نسأل الله أن يفقهنا في ديننا ويرشدنا إلى الصواب .... والحمد لله رب العالمين .
العرض العادي
