التاريخ الاسلامي على مر الأيام والسنين له محطات مهمة ، ومعالم بارزة ، وخصوصيات واضحة. وهذه الدراسة محاولة للإشارة لهذه المحطة المهمة مع التركيز على الملامح العامة ، دون التفصيلات التاريخية الدقيقة. والغرض منها إعطاء لمحة عامة عن هذا التاريخ ، وربط بعض جزئياته المختلفة ، واستخلاص نتائجه العامة.
هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة.
هاجر صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى الحبشة بعد إشتداد أذى قريش عليهم ، وشد معاناتهم من وطأة التعذيب. وكان الذي أشار عليهم بهذه الهجرة الرسول (ص) حيث قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لايظلم عنده أحد وهي أرض صدق". وقد تمت الهجرة على دفعتين.
الدفعة الأولى في السنة الخامسة من البعثة (615م) ، وكان فيها أحد عشر رجلا وأربع نسوة. ومن ضمنهم عثمان بن عفان ، وزوجته رقية بنت رسول الله (ص) ، وعبدالرحمن ابن عوف وغيرهم. وهذه الدفعة عادت إلى مكة بعد فترة وجيزة. الدفعة الثانية ، وكانت تتكون من 83 صحابيا و18 صحابية ، وكان فيها جعفر ابن أبي طالب (ابن عم رسول الله) ، وزوجته أسماء بنت عميس. ولحقت بهذه المجموعة فيما بعد دفعة أخرى من اليمن فيها بضع وخمسون رجلا فيهم الصحابي
أبو موسى الأشعري. وهذه المجموعة خرجت قاصدة المدينة ، ولكن السفينة ألقت بهم في السواحل الغربية ، فأقاموا في الحبشة مع من كان سبقهم إليها من الصحابة. بقي جعفر ومن معه من الصحابة في أرض الحبشة إلى السنة الثامنة من الهجرة ثم عادوا بعدها إلى المدينة. وعلى هذا تكون الفترة الإجمالية لإقامة الصحابة في الحبشة في الهجرتين الأولى والثانية 13 عاما تقريبا. ويشير الأستاذ فتحي غيث في كتابه "الإسلام والحبشة عبر التاريخ" إلى تقدير البعض لعدد من هاجر ومن ولد هناك ب 600 شخص. وقد أكرم النجاشي وفادة الصحابة ، وبسط عليهم حمايته ، ورفض تسليمهم لقريش. وتختلف الروايات في تفاصيل هذه الهجرة ، ولذلك تكثر تكهنات المؤرخين. والمستخلص من مجموع هذه الروايات هو حدوث هذه الهجرة –فقد أجمعت المصادر الإسلامية على ذلك- وحسن وفادة النجاشي لهم. وقد ثبت في صحيح البخاري في (كتاب الجنائز) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات. ويستدل الإمام ابن كثير في البداية والنهاية ، برواية أبي هريرة لهذا الحديث ، بأن وفاة النجاشي الذي أسلم كان بعد فتح خيبر ، وأن النجاشي الذي أرسل إليه الرسول رسالة يدعوه إلى الإسلام –حين أرسل الرسل بعد صلح الحديبية - كان نجاشيا أخر غير النجاشي الذي إستقبل الصحابة.
وقد أثار بعض الكتاب المعاصرين تساؤلات حول الموضع الذي هاجر إليه الصحابة ، والمكان الذي أقاموا فيه. والبعض قد جاء بمزاعم ليس لها أي سند تاريخي. ويؤكد مفتي أرتريا السابق الشيخ إبراهيم في مقال له: بأن هبوط الصحابة كان في ميناء مصوع (باضع قديما) ، ويستشهد برواية إبن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر حيث ورد فيها: "فودع عثمان نبي الله صلى الله عليه وسلم وقبل يديه ، وبلغ المسلمين رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم إني خارج من ليلتي وسنقيم بجدة ليلة أو ليلتين فإن أبطأتم فوجهي إلى باضع...." ويشير الأستاذ فتحي غيث ، مستشهدا بما جاء في سيرة إبن هشام ، إلى "أن مكان هؤلاء المهاجرين كان قريبا من النيل الأزرق في قلب هضبة الحبشة حيث كانت عاصمة النجاشي الكبير" ومن المعلوم تاريخيا أن قاعدة ملوك الحبشة كانت في هضبة إقليم التيجراي. وفي منطقة قريبة من حدود أثيوبيا وأرتريا اليوم –في إقليم التجراي- يوجد قبر منسوب إلى النجاشي ، وهو قبر قديم ذكره فقيه عرب الجيزاني في كتابه "فتوح الحبشة" حيث ذكر أن الإمام أحمد إبن إبراهيم زار ذلك القبر في أثناء فتوحاته في القرن السادس عشر الميلادي. وعلى هذا يمكن القول بأن الصحابة هبطوا في باضع (مصوع) ، ومنها اتجهوا عبر الأراضي الأرترية إلى مقر النجاشي في الهضبة.
من الصعب تحديد الأثار التي تركتها هذه الهجرة بدقة ، لكنه يمكن على الإجمال الإشارة إلى أنها أوجدت أول إتصال للإسلام بالحبشة ، وتركت إنطباعا حسنا لدى المسلمين عامة ، وأدت إلى دخول النجاشي في الإسلام (سرا). ولا يستبعد أن يكون أخرون من أبناء الحبشة قد دخلوا في الإسلام في هذه الفترة. ومدة بقاء الصحابة في الحبشة ، وكثرت عددهم ، وتعاطف النجاشي معهم مما يرجح ذلك. وعلى كل فهذه محطة مهمة مهدت لدخول الإسلام وانتشاره في أرض أرتريا.