title="منتديات التربيه الاسلامية جنين - منتدى اللغة العربية وآدابها - RSS Feed" href="external.php?type=RSS2&forumids=54" /> من دلالات الكلام
  الرئيسية التسجيل خروج  

صفحتنا على الفيس  بوك  صفحتنا على  اليوتيوب  صفحتنا على تويتر  صفحتنا على جوجل  بلس

منتديات التربية الاسلامية جنين ترحب بزوارها الكرام ،،،، اهلا وسهلا بكم ولطفا يمنع نشر اي اعلان او دعاية تجارية هنا مع جزيل الشكر كلمة الإدارة


   
العودة   منتديات التربيه الاسلامية جنين > الأقــســـام الــعـــامــة > منتدى اللغة العربية وآدابها
   

آخر 10 مشاركات اعراض تضخم الكبد (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          بوربوينت ملخص احكام التجويد (الكاتـب : - آخر مشاركة : - مشاركات : 36 - المشاهدات : 3285 )           »          اختيار جنس المولود: تقنيات وتحديات لتحديد نوع الجنين قبل الحمل (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          أفضل طرق تجميل الأسنان بالليزر 🦷✨ (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          أي تقويم أسنان هو الأنسب لك؟ (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          قائمة أغنى وأفضل رجال الأعمال في العالم لعام 2024 (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          الربح من مجال التدوين: دليل شامل لتحقيق الدخل من كتابة المحتوى في عصر التحول الرقمي (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          مميزات وعيوب الاستثمار في الفضة: دليل شامل (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          كتب تطوير الذات i تجربتى الشخصية فى قراءة كتب غيرت حياتى 180 درجة ! (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )           »          اضطراب القلق (الكاتـب : - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1 )


من دلالات الكلام

منتدى اللغة العربية وآدابها


إضافة رد
   
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
   
رقم المشاركة : ( 1 )
 
عضو جديد
مهاجر أحمد غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10
قوة التقييم :
افتراضي من دلالات الكلام

كُتب : [ 02-11-2024 - 04:59 PM ]


مما تَقَرَّرَ في درس اللسان أن مبدأ الكلام هو حرف المبنى الذي لا يجاوز حد الصوت المفرد ، فَهُوَ مقطع واحد ، فلا يفيد قيدا يميز الإنسان الناطق من آخر هو الحيوان الأعجم ، فله من الآلة ما يحكي في الخارج أصواتا قد اصطلح لها من الأسماء ما يضاهي ، ولا تخلو من دلالة على عين الصوت كما الفحيح والزئير والمواء ، فتلك دلالة أخص على عين الصوت ، وهي ، مع ذلك ، جنس عام لا يمتاز في الخارج إلى أصوات أخص تحكي من الدلالات ما يُعْقَلُ ، فَلَيْسَ منها كلام يُفْهِمُ ، إن المفرد أو المركب ، وإن كان منها دلالات تلطف على أعراض مخصوصة كما الجوع والألم ، فتشبه ، من وجه ، صوت الرضيع ، فلا يحسن يحكي من الكلام ما به يُفْهِمُ أُمَّهُ أو من يباشر أمره ، وإن كان من صوتِ بكائِه ما يميز الفرح من الحزن ، الألم من الجوع ..... إلخ ، فَثَمَّ من ذلك صوت مُقَطَّعٌ بما يكون من تَرَدُّدِ الهواء في مجرى النطق من الحلق إلى الشفة ، ولكلِّ صوتٍ من المخرَج ما يميز ، وليس يفيد من صراخ الوليد أو بعض حروف منه تصدر ، ليس يفيد معنى تاما يُفْهِمُ فيضاهي الحيوان الأعحم من هذا الوجه ، وإن كان من حال الوليد ما يجاوز الحيوان ، فَلَئِنِ اشتركا في عدم الإفصاح بكلامٍ يُبِينُ عن المراد ، قَدِ استوفى الحد في الاصطلاح ، لفظا ومعنى ، إفرادا وتركيبا ، فَلَئِنِ اشتركا في ذلك ، فالوليد قد امتاز أنه المتكلم بالقوة ، وإن لم يكن من فعل الكلام ما يصدق في الخارج ، فَلَمَّا تَكْمُلْ آلته بَعْدُ ، وإن كان ثم منها أول ، فَلَهُ من خاصة العقل ما رُكِزَ في الوجدان ، فهو جزء من الحقيقة الإنسانية ، وهو حكاية ما لطف في الحد ، فالعقل يحكي الروح وهو الماهية اللطيفة التي لا تدرك بالحس ، فلا يتناولها التجريب والبحث ، وهي ، مع ذلك موجودة بما يعالج الناظر من آثارها في حركة الفكر وهي مما يحصل في العقل ، وأخرى تدرك بالحس الظاهر من حركة الأبدان والجوارح ، وهو ما ينصح في مدلول آخر أصرح ، فَثَمَّ من باب أولى : حقيقة للخالق الأول ، جل وعلا ، وهي مما يثبت في الخارج ، فيجاوز ما اقترح الذهن من المطلق بشرط الإطلاق ، فذلك ما لا وجود له في الخارج يثبت ، بل ثم من حقيقة الخالق الأول ، جل وعلا ، ما ثَبَتَ في الأزل ، فَلَهُ من ذلك أولية تُطْلَقُ ، وهو مما حصل في الخارج فجاوز المجرد الذهني ، فَثَمَّ وجود في الخارج ، فتلك الحقيقة التي لا تدرك بالتجريب والبحث ، كما الروح ، وإن وجد الناظر من آثارها ما هو أظهر بداهة من آثار الروح في الجسد ، فآثار الخالق الأول ، جل وعلا ، في الخلق المحدَث أظهر في الدلالة بما يكون من الإيجاد المصدق لخلقِ تقديرٍ هو الأول وما كان من تصوير لا على مثال تقدم ، وما كان من رزق وتدبير .... إلخ من خصائص الربوبية ، فَثَمَّ من آثار الخالق ، جل وعلا ، في الخلق المحدَث ما هو أظهر من آثار الروح في الجسد ، وكما الأخيرة تَثْبُتُ ، وإن لم تدرك بالتجريب والبحث ، فَثَمَّ من آثارها ما بوجودها يَشْهَدُ ، فإن الأثر ضرورةً يدل على المؤثِّر ، فكما الروح تَثْبُتُ على التفصيل آنف الذكر ، فالخالق ، جل وعلا ، يثبت من باب أولى ، إذ آثاره في الكون أظهر ، فهي دالة ضرورة على المؤثِّر الذي يسبق ، وذلك مما يتسلسل حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورة إلى أول لا أول قبله حسما لمادة في الذهن تمتنع ، وهي التسلسل في المؤثرين أَزَلًا فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وهو الواجب لذاته ، فلا يَفْتَقِرُ إلى موجِد موجِب من خارج ، بل كل مخلوق مُحْدَثٍ ، إِنِ المحلَّ أو ما يُبَاشِرُ من السبب ، كل مخلوق محدَث ، فإليه ، جل وعلا ، يَفْتَقِرُ ، أن يُقَدِّرَهُ ثم يوجده ثم يُدَبِّرُهُ ، فلا يكون السؤال عن سبب له يَسْبِقُ ، فذلك مما يخالف عن النص المحكم إذ : "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ" ، وهو ما حُدَّ مضارعا في "يَأْتِي" ، وبه استحضار المعنى ، فذلك أمر جَلَلٌ ، والبلوى به تَعْظُمُ بما اتصل من فعل الوسواس ، فالمضارعة ، من وجه آخر ، حكايةُ مَا يَتَكَرَّرُ في الخارج ، فهو من الوسواس الذي لا يَزَالُ في النفس يَتَحَرَّكُ ، فَثَمَّ من المضارعة حكاية حال واستقبال ، ولا ينفك يَعْرِضُ وَيَزُولُ ، وتلك أخرى من الفعل تُسْتَنْبَطُ ، فليس كالاسم الذي يحكي الثبوت والديمومة ، فالفعل يحكي التجدد والحدوث ، وهو ، مع ذلك ، مما حُدَّ مضارعا في الخبر آنف الذكر ، فذلك استمرار يَتَنَاوَلُ أجزاءَ الزَّمَنِ حالا واستقبالا ، وإن لم يثبت ويدوم كما الاسم في المدلول ، فإن اسم الذات مثالا ، كزيد أو عمرو ، ذلك مما يثبت في كل وقت من لَدُنِ الوجود وحتى الموت ، لا جرم لم يصح الإخبار عنه بالظرف ، إلا أن يكون ثم تأويل يسوغ ، فلا يقال : زيد الآن ، أو زيد الصيفَ ، فإن ذات زيد حاصلة في كل وقت ، إن في الشتاء أو في الصيف ، إلا أن يكون ثم تقدير لمحذوف ، كأن يقال : مولد زيد الصيفَ ، أو قدم زيد الصيفَ ..... إلخ ، فيكون من الإخبار عن حَدَثٍ يَتَجَدَّدُ ، فهو مما يعرض وَيَزُولُ ، فليس المولد مما يدوم ، وكذا القدوم ، فَثَمَّ من دلالة الفعل ما يحكي التجدد والحدوث ، وذلك الوسواس الذي يتكرر ، فيأتي المكلف إذا غَفَلَ فلم يَذْكُرْ ، ومن ذا لا يسلم من الوسواس إذ لا أحد يسلم من الغفلة ، ولو فَتْرَةً في الذكر ، فكيف بما زاد من فَتْرَةٍ فِي الفرضِ ، فذلك مما يُضْعِفُ المحل وَيُمْرِضُ فيصير أهلا أن يقبل آثار الوسواس الذي يضر ، فإذا ذكر واستغفر قَوِيَ المحل وانجبر ، وَزَالَ الوسواس وانخنس ، فذلك وصفه في الذكر المحكم ، أَنْ شُرِعَ من الاستعاذة ما يدفع ، فكان من ذلك أمر يوجب وَيُرْشِدً ، فـ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فَثَمَّ مدلول أول يحكيه الأمر بالنظر في أصل الوضع اللساني المجرد ، وهو الإيجاب الذي يُلْزِمُ ، وثم من دلالة الإرشاد ما يَنْصَحُ إذا عرض الوسواس وَتَكَرَّرَ ، وذلك مِمَّا حُدَّ أَمْرًا قَدْ تَوَجَّهَ إلى المفرد ، فَثَمَّ من ضميره ما وجوبا يضمر فلا يظهر في العامل "قُلْ" ، فذلك ضمير المخاطب المفرد ، وله من ضمير الفصل ما يعدل ، فهو تقديره في المعنى ، وإن لم يكن عينه ، وإلا ظهر في اللفظ ، فإن كان من ذلك ما يظهر ، كما في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) ، فذلك مما يُحْمَلُ على التوكيد ، وله في هذا الموضع مدلول أخص ، فالتوكيد بالتكرار ، تكرار المؤكَّدِ ، ولو لم يكن أولا يظهر ، فقد استكن في عامله إيجابا ، ثم كان من الضمير المؤكِّد ما يَظْهَرُ ، فأكد المظهَرُ المضمَرَ ، وكان من ذلك زيادة في المبنى تعدل أخرى تضاهيها في المعنى ، وثم آخر في صناعة النحو إذ امتنع العطف على ضمير الرفع ، ظاهرا أو مستترا ، امتنع العطف عليه إلا أن يكون ثم لفظ يَفْصِلُ ، فكان من التوكيد ما فَصَلَ ، وبه ساغ العطف ، على التفصيل آنف الذكر ، فأفاد التوكيد معنى يزيد ، وكان منه ما به اللفظ يستقيم ، فلا يقال إن الضمير المظهر في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) ، لا يقال إنه الفاعل ، بل الفاعل قد استتر وجوبا في الأمر إذا تَوَجَّهَ إلى مفرد مذكر ، وله من التقدير ما يعدل ضميرَ المخاطَبِ المفرَد ، وله ، من وجه آخر ، عهد أخص ، بالنظر في عين المخاطب أولا بالوحي ، وهو صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من ذلك أول وهو خطاب المواجهة ، وثم تال قد تناول غيرا ، وهو أصل آخر يستصحب في خطاب التكليف المنزل ، وإن خالف عن أول من وَضْعِ اللسانِ المطلقِ ، فإن الأمر الذي تَوَجَّهَ إلى واحد مذكر ، ذلك ، بداهة ، ما يتناول واحدا مذكرا في الخارج فلا يجاوز ، فتلك دلالته في اللسان لدى المبدإ ، فثم حقيقة أولى في اللسان تستصحب ، وثم أخرى من العرف وهي أخص ، فَثَمَّ من عهد التَّنْزِيلِ في خطاب التكليف ما جاوز المخاطب الأول ، فهو كالمثال الذي يُذْكَرُ بَيَانًا لعام له وَلِغَيْرٍ يَسْتَغْرِقُ ، فلا يكون ذِكْرُهُ ، وهو بَعْضُ أفرادِ العام ، لا يكون ذكره مخصِّصا لهذا العام ، بل هو له يُبِيِّنُ وَيُفَصِّلُ ، دون أن يقصر الدلالة عليه دون غير ، إلا أن تكون ثم قرينة تخصص ، فَتَرُدَّ المدلول إلى أول ، وهو الدلالة على واحد ، كما الحال في الخصائص ، فَثَمَّ من خطاب الوحي في مواضع ما خَصَّ واحدا بالعين ، أو آخر بالنوع ، فلم يكن من ذلك معنى يَسْتَغْرِقُ غَيْرًا بما اسْتُصْحِبَ في نصوص الوحي ، إذ ثم من قرينة العموم في خطاب التكليف ما يتناول الآحاد كافة ، المذكور الذي عليه قد نَزَلَ ، أو الخطاب به إليه قد تَوَجَّهَ مبدأَ التَّنَزُّلِ ، كما تقدم من قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فذلك ، كما تقدم ، مما استصحب مبدأ النظر ، فَعَمَّ الخطاب ، وإن توجه إلى واحد ، فَثَمَّ من ذلك عُرْفٌ أَخَصُّ بِمَا اسْتَقَرَّ من مدلول الوحي أنه عام يَتَنَاوَلُ آحاد الجمع كافة ، فجاوز المخاطَب الأول ، أو من عليه قد نَزَلَ ، كما العام الذي نَزَلَ على سبب خاص ، فلا يخصصه السبب ، وإنما يبين عنه ، إذ العبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ ، كَمَا قَالَ أهل الشأن ، وإلا صارت نصوص الوحي كَافَّةً : وقائعَ أعيانٍ لا عموم لها فلا تجاوز من عليه قد نزلت ، فيكون من الخطاب أن "قُلْ" في الآي آنف الذكر ، ، يكون منه ما توجه إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده ، فإذا امْتَثَلَ الأمر أن "قُلْ" ، فقال وَبَلَّغَ وَبَيَّنَ ما أُمِرَ ببلاغه وبيانه فقد انْتَهَى أَثَرُ الوحيِ في التشريع ، فلم يكن من ذلك ما يجاوز إلى غَيْرٍ ، فلا يؤمر غيره بالاستعاذة ، وإنما يؤمر هو وحده صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو ما يصدق مَرَّةً ، ثم يكون من النسخ ما يَرْفَعُ ، فقد بَطَلَ التكليف بعد امْتِثَالِ الأمر بإيقاع المأمور ، وهو ، كما تقدم ، مما يحصل بامتثاله ، ولو مَرَّةً ، فذلك أدنى ما يصدق فيه المأمور في الخارج ، فكان من ذلك طريقة في التأويل قد عمت بها البلوى ، فَتَكَادُ تَعْدِلُ من التأويل ما بَطَنَ ! إذ تفضي إلى تعطيل الأحكام ، وهو ما نهجت الحداثة في الجيل المتأخر أَنْ تُبْطِلَ حكومة التكليف الرسالي المنزَّل ، فَقَالَ مَنْ قَالَ في نحو قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، قَالَ إِنَّ ذلك مما يحكي العهد الخاص في سَارِقٍ بِعَيْنِهِ وهو من نَزَل عليه الحكم ، فلم يُجْرِهِ مجرى السبب الذي نَزَلَ عليه العام فلا يخصصه ، وإنما خصص العام بعين السبب تحكما يبطل معنى العموم المستصحب في خطاب الوحي المنزل ، فصير المدلول هو سارِقًا بعينه ، وهو سارقُ رِدَاءِ صفوانَ ، وسارقةً بِعَيْنِهَا وهي المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحد ، فَإِذْ حُدَّا فكان القطع ، فقد انتهى أثر الحكم وبطل حد السرقة إذ "أل" في "السارق" و "السارقة" من هذا الوجه تحكي من العهد ما خَصَّ فلا يجاوز عين السبب الذي نَزَلَ عليه الحكم العام ، وهو التحكم الذي يخالف عن الأصل المستصحب من عموم الدلالة في خطاب الوحي المنزَل ، فذلك الأصل في الباب حتى ترد قرينة التخصيص ، فلا يكون من ذلك ما يجري مجرى التحكم ترجيحا لمرجوح لا يتبادر ، فيكون من ذلك ترجيح له بلا مرجِّح معتبر إلا دعوى التخصيص ، وهي صورة الخلاف التي تطلب الدليل ، فكيف تصير هي الدليل وشرطه أن يسلم به الخصوم كافة ، لا أن يكون صورة الخلاف بينهما ، فذلك دور يبطل ، إذ يستدل على الشيء بنفسه ، وهو ما اصطلح النظار أنه المصادرة على المطلوب ، تحكما بلا دليل ، كما في هذا الموضع ، إذ تحكم الناظر فقصر مدلول "أل" في "السارق" و "السارقة" على عهد خاص لا يجاوز عين من فيه قد نَزَلَ ، فليست "أل" العامة التي تستغرق ، مع آخر هو في باب التعليل أخص ، فتلك "أل" الموصولة التي تعدل الموصول الاسمي إذ دخلت على الاسم المشتق "فاعل" وهو "سَارِق" و "سارقة" على تأويل : والذي سرق والتي سرقت ، وهو ، كما يقول أهل الأصول والنظر ، ما يؤذن بِعِلِّيَّةِ ما منه الاشتقاق ، وذلك وصف السرقة الموجِب لحكم القطع الذي تلا فاقترن بالفاء أَنْ شُبِّهَ بالشرط ، وهو ، أيضا ، مما يحكي التعليل في الدلالة ، فالجواب مع الشرط ، كما المعلول مع العلة ، وهو ما شُبِّهَ به الموصول مع خبره ، فإن من معنى السرقة الذي اشتقت منه الصلة ما يدور مع حكم القطع وجودا وعدما ، فكان من ذلك ما شُبِّهَ فيه الخبر بجواب الشرط ، إذ شُبِّهَ الموصول بالشرط ، فَقِيسَ الموصول على الشرط ، وكان أن دخلت الفاء على خبر الموصول كما دخلت على جواب الشرط ، إن كان إنشاءً كما الأمر "اقْطَعُوا" في هذا الموضع : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، وكان من الفاء في "فَاقْطَعُوا" ما به اللفظ يُسْتَصْلَحُ فتلك فاء الربط ، ولا تَنْفَكُّ تحكي آخر من العطف على حد التعقيب والفور ، وذلك آكد في الدلالة مسارعةً في إنفاذِ الحد ، ولا تخلو من دلالة السببية ، وإن لم تكن نصا فيها ، فوصف السرقة : سَبَبٌ في حكم القطع ، وذلك ما حُدَّ عاما إذ الموصول نص في الباب ، فَبَطَلَ ما تقدم من دلالة العهد الخاص في "أل" في "السارق" و "السارقة" ، فلا يجاوز السبب الذي عليه قد نَزَلَ ، فَقَدْ أُقِيمَ الحدُّ على سارقِ رداءِ صفوانَ والمخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحد ، فَأُقِيمَ الحد عليهما ثم كان النسخ لدلالته ، فَبَطَلَ العمل به ! ، وذلك بداهة ، مما لا يعقل إذ يُفْضِي إلى إبطال الشريعة ، وهو ما نهجت الحداثة إذ تخاصمُ في المرجع الرسالةَ ، فكان من الأولى أن صيرت الشريعة وَقَائِعَ أعيان لا تجاوز آحاد من نَزَلَتْ فيهم ، أو الجيل الأول من أمة الرسالة الخاتمة ، فَإِذِ انْقَرَضَ فَقَدْ بطل مدلولها ، فلا يستصحب منه إلا لفظ قد جُرِّدَ من الدلالة ، وَكُلٌّ يَتَنَاوَلُهُ بالتأويل ، فَيَقْتَرِحُ من ذلك ما يواطئ الهوى والحظ ، وإن خالف عن محكم الوحي ، فيستصحب اللفظ بلا مدلول ، وهو ما يخالف عن المنقول والمعقول ، وما استنبطت العقول من الأجناس الدلالية الكلية التي يدور عليها اللفظ بما كان من استقراء لكلام العرب المحتج به من نَظْمٍ أو نَثْرٍ ، فَيَكُونُ من ذلك آحاد يجتهد الناظر في تَصْنِيفِهَا وَتَرْكِيبِهَا ، حتى يحصل له من ذلك أصل من الدلالة الكلية ، وهي ما يُطْلَقُ في المعجم ، وهو أول في الاستدلال المحكم ، إذ الوحي قد نَزَلَ بِلِسَانِهِ المفصِح ، فَوَجَبَ الرَّدُّ إليه في التفسير ، كما وجب الرد إلى الوحي في التشريع ، فلا يُفْهَمُ خطابُ المخبِر أو المشرِّع ، لا يُفْهَمُ بداهةً إلا بلسانه الذي به قد نَزَلَ ، ولا تحصل الفائدة من لفظ يُتْلَى أماني فلا يفقه ، فَحَقُّ تلاوته أن يُقْرَأَ وَيُفْهَمَ ، ثم يكون من العمل تال يصدق ، وهو فرع عن العلم ، إذ الحكم فرع عن التصور ، ولا يكون علم ينفع بلفظ من الدلالة قد جُرِّدَ ، بل العلم النافع : مدلول يجاوز الملفوظ ، فما الأخير إلا دليل على الأول ، وإن كان قسيما له في حد الكلام المفهِم الذي يحسن السكوت عليه ، كما حده أهل الشأن ، فَثَمَّ من نَهْجِ الحداثة أَنِ اتخذت التاريخانية ذريعةً إلى نسخ الشريعة ، أن صارت جميعا من وقائع الأعيان التي لا تجاوز آحادها ، والجيل الذي فيه قد نَزَلَتْ ، فانقراضه نسخ لها ، فلا يستصحب المدلول الأول الذي به قد نزلت ، فَثَمَّ من حقيقة الاصطلاح الأخص ، اصطلاح الوحي ، ثم منها ما يزيد ، فهو يُقَيِّدُ حقيقة اللسان المجرَّد ، وهي الجنس الدلالي الأعم الذي حصل في الذهن مبدأ النظر في نص عربي مفصِح ، كَمَا لفظ الصلاة مثالا ، فَمَا يَتَبَادَرُ منه في اصطلاح المعجم وهو الأعم ، ما يَتَبَادَرُ منه هو مدلول الدعاء المطلق ، وهو ما يصدق في أي حقيقة منه في الخارج تَثْبُتُ ، وذلك ، بداهة ، ما لا يجزئ في الخروج من عهدة الخطاب الشرعي الأخص الذي جاوز بها في الدلالة ، وإن اتخذها أصلا أول عنه يصدر ، فَقَبَسَ منها المدلول اللساني المجرد ، مدلول الدعاء ، ثم زاد فيه قَيْدًا يأطر ، فهو دعاء مخصوص ذو ماهية في الاصطلاح تجاوز مطلق الدعاء ، فتلك حقيقة الشرع التي تُسْتَصْحَبُ مبدأَ النَّظَرِ في نصوص التشريع المحكم ، فَثَمَّ أول من حقيقة اللسان ، وهو ما يَتَبَادَرُ إلى الأذهان في تفسير أَيِّ نَصٍّ ، فلا يُفَسَّرُ إلا بِلِسَانِهِ الذي به قَدْ وَرَدَ ، أو نَزَلَ إِنْ كَانَ وَحْيًا ، وذلك لسان أخص ، إذ ثم من عُرْفِ زمانِه ما استقر ، فَلَا يُفَسَّرُ بِعُرْفٍ حادثٍ بَعْدَهُ ، فاستصحب من ذلك عرف اللسان زَمَنَ الورودِ أو التَّنَزُّلِ ، وهو ذو مراتب مبدؤها النظر في دلالات الألفاظ المجردة في المعجم ، فتلك المعاني الكلية الجامعة التي تدور عليها مادة النطق ، وهو المطلق بشرطِ الإطلاق ، فلا وجود له في الخارج إلا أَنْ يُقَيَّدَ ، فَثَمَّ قيد الاشتقاق الذي لا يجاوز المادة المفردة ، وهو ، مع ذلك ، يرفدها بمدلول يزيد ، بما استقرأ الناظر من وجوه الاشتقاق في الكلام المأثور ، فاستنبط منها الميزان المحكم ، إذ يحكي من كُلِّ وَزْنٍ : مدلولا أخص ، فهو المقيد لِمَا أُطْلِقَ من مدلول المعجم المفرد ، كما لو تناول الناظر مادة "كَتَبَ" ، وهي المجرد في المعجم ، فَإِذَا حَدَّهَا حَدَّ "فاعل" ، فَثَمَّ من ذلك اسم الفاعل ، فَيُقَالُ "كاتب" ، وهو ما يدل على المعنى المجرد في المعجم ، فتلك نواة أولى في المدلول ، وثم تال قد استفيد بما كان من زيادة تُوَاطِئُ مِيزَانَ الاشتقاقِ ، فَثَمَّ زيادة الألف ، وهي في المبنى حكايةُ أخرَى تَعْدِلُ في المعنى ، فتلك زيادة أخص بما واطأ ميزانَ الاشتقاق ، وهو ما رَفَدَ المادة المعجمية الأولى ، فَزِيدَ في لفظها ، وَزِيدَ في معناها زيادة أخص ، إذ تحكي فاعلَ الْكَتْبِ ، فَصَارَ من لفظِ كاتبٍ ما دل على جنس المعنى المجرد في الذهن ، وهو الْكَتْبُ ، ودل على آخر وهو الفاعل الذي قام به الفعل ، وثم ثالث ، وإن لَمْحًا ، بما ثبت من مضاهاة اسم الفاعل للفعل المضارع في العمل ، وإن كان فَرْعًا عنه فهو أضعف ، إلا أنه يُلْحَقُ بِهِ تَبَعًا ، فَلَهُ من ذلك مدلول المضارع حالا واستقبالا ، على تفصيل في ذلك ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الإضافةِ ، فَلَوْ قِيلَ : هذا قارئُ القرآنِ ، فَلَيْسَ ثم دلالة زمان ، إذ الإضافة قد قوته في باب الاسمية فَبَاعَدَتْ به عن الفعلية ، ولم يعد ثم لمح زمان يظهر ، فإن كان ثَمَّ قطع في اللفظ ، فَنَصَبَ اسمُ الفاعلِ مَا بعده ، وقيل : هذا قارئٌ القرآنَ ، فذلك مما يُقَرِّبُهُ إلى الفعل وَيُقَوِّيهِ في الباب ، إذ عمل عمله فَنَصَبَ المفعولَ بعده ، فكان من ذلك سببٌ لآخر من المضاهاة أن ألحق به في الدلالة الزمنية ، الحالية والاستقبالية ، فذلك تال في الدلالة اللسانية بعد أول من دلالة المعجم المفرد ، فَثَمَّ دلالة الاشتقاق الأخص ، وثم ثالثة في الذكر ، إذ اللفظ مجردا أو مشتقا ، لَا يُفِيدُ حالَ انفرادِه معنى يحسن السكوت عليه ، فلا فائدة تجاوز تصور المدلول مجرَّدا في الذهن ، فلا ينفك يطلب تاليا من الحكم أن يُسْنَدَ أو يُسْنَدُ إِلَيْهِ ..... إلخ ، فيكون من نَظْمِ الكلامِ ما يُفْهِمُ معنى يحسن السكوت عليه ، وتلك مرتبة تالية في اللسان ، مرتبة النحو الذي يَنْظِمُ المفرداتِ في سلكٍ جامعٍ بما كان من قانون في الإسناد أو الإضافة أو العطف ...... إلخ ، وهو آخر يميز اللسان من غَيْرٍ ، فَلِكُلِّ لسانٍ نَحْوُهُ في التقديم والتأخير ، مع ثالث من المراتب يحكي من وجوهِ الْبَيَانِ مَا يَلْطُفُ ، فَثَمَّ الكناية والمجاز والاستعارة ...... إلخ ، فكل أولئك مما به الحقيقة اللسانية الأولى تَنْصَحُ ، أن يكون من ذلك معنى تام في الذهن يحصل ، وبه الإفهام يثبت إذ يبين عن مراد المتكلم ، وذلك ، بداهة ، غَرَضُهُ ، وَإِلَّا كان من كلامه هذيانٌ لا يجاوز في الدلالة الصوت الذي يصدر عن الطفل الذي لا ينطق ، وإن كان له من العقل أول قد رُكِزَ فِي الوجدان ، فتلك قوة مجملة لا تنفك تطلب من الفعل ما يُبِينُ إذ يحصل له من ذلك التعلم شيئا فشيئا ، وإن حصل المعنى في النفس قبل اللفظ ، كما يقول أهل الشأن ، فالطفل الصغير الذي لا يتكلم ، لا ينفك لمادة الكلام ونحوه يجمع ، وإن لم يحسن يَنْطِقْ بذلك وَيُفْصِحُ ، فتلك القوة الكامنة في النفس ، مع أولى تقدمت وِهي خاصة الخلق ، خلق الإنسان الذي امتاز عن سائر الأنواع بما ركز فيه من العقل ، وهو منطق يبطن إذ المعنى فيه يثبت لدى المبدإ ، فلا ينفك يطلب آخر من المنطق يُظْهِرُ مَا حصل بالنفس من المعنى ، فحصل للصغير من ذلك المعنى ، وهو منطق باطن أول ، وهو تصديق آخر من رِكْزِ العقلِ لدى المبدإ ، فَثَمَّ قوة في الوجدان قد رُكِزَتْ ، وَثَمَّ مادة من المعنى في النفس قد جُمِعَتْ ، وذلك تأويل أول لخاصة الكلام والمنطق ، فالمبدأ منه باطن يُعْقَلُ ، ولا ينفك يفيد معنى يحصل به الإفهام فيحسن السكوت عليه ، إلا أن يكون من المنطق الظاهر ما يُفْصِحُ عَمَّا قَامَ بالنفسِ من المعنى ، فيكون من منطق الظاهر ما تقدم من مراتبِ الاستدلالِ ، فَأَوَّلٌ يُبِينُ عن جنس المعنى ، وآخر يشتق منه فيفيد معنى أخص ، وثالث يَنْظِمُهُ في سلكِ نحوٍ يحكي من المعنى أولا يتبادر إلى الذهن دون قرائن من التأويل تزيد في المدلول ، فتلك خاصة رابعة من عرف التداول المشتهر بما لطف من وجوه البيان ، وهي مما يفيد معان ثانية بعد أولى تحصل بظاهر من المعجم والاشتقاق والنحو ، فهي تُبِينُ عن معنى ظاهر يتبادر ، وهو الراجح الذي يستصحب حتى يكون ثم تال من القرينة يصرف ، فيفيد من وجوه البيان ما يَلْطُفُ ، وهو ما يُرَدُّ إلى معجم دلالي أخص ، فذلك معجم الكنايات والمجاز والاستعارة ...... إلخ من وجوه البيان التي تكلم بها الجيل الأول ، وإن لم يكن من اصطلاحها المحدَث ما دُوِّنَ ، فذلك ما كان بعدا إذ يحكي من الظاهرة ما يثبت أولا ، وتلك خاصة تَطَّرِدُ في العلوم كافة ، ومنها علوم اللسان التي تصف الظاهرة الأولى من المنطق المحتج به ، فيكون من ذلك ما يَتَنَاوَلُهُ الجيل الأول بداهة ، فلا يتعلم ذلك تَعَلُّمَ المتأخر الذي ينظر في تصانيف المعاجم والتصريف والنحو والبيان والبديع ...... إلخ ، فكل أولئك مما حصل في الجيل الأول حصول التواتر الذي لا يفتقر إلى نَظَرٍ أو تَعَلُّمٍ ، إلا ما يكون من تقليد الأبوين والجمع الذي يحيط ، لا جرم كان من كلام الأولين : حجة في الاستدلال لدى مَنْ صَنَّفَ في الباب من المتأخرين ، فكلام الأول حجة ، ولو لم يكن ذا شأن في العلم ، فآحاد الناطقين من الجيل الأول ، ولو البدو الرحل ، أولئك مصادر في الاستدلال لدى أهل الشأن ، ولو صاحبَ الكتابِ الأول في النحو ، فقد نَزَلَ في أهل البادية وَتَرَحَّلَ ، وسمع منهم وحفظ ، وكتب بعدا في ديوانه الجامع لأصول النحو ، فَهُمْ شيوخه في الصنعة ، وإن لم يحسنوا من التصنيف ما أحسن ، فهو مادة الكتاب الذي سطره ، فَسَبَقَ المتقدِّمُ المتأخِرَّ من هذا الوجه ، إذ حصل له البيان بلا معلِّم ، وكان من جيله ما نصح لسانه فلم يلحن ، لا جرم كان الحجة في الاستقراء ، فَجُمِعَ من كلامه مادة تَنْفَعُ ، وَجَرَّدَ منها كُلٌّ من الأصول ما ينصح ، فصاحب المعجم يجرد الدلالات المطلقة ، وصاحب التصريف يجرد ميزان الاشتقاق ، وصاحب النحو يجرد قواعد النطق التي يصح بها الكلام فيفيد من المعنى أولا يحسن السكوت عليه بما يظهر من المفرد والمركب ، فيكون من السياق تال يَرْفِدُ الدلالة بما استقر من وجوه الإسناد والإضافة والعطف .... إلخ ، وصاحب البيان يَتَنَاوَلُ بَعْدًا ما لَطُفَ من المعاني ، وهي تالية بعد أول من مدلول النحو ، فلا ينظر المستدل في المعنى الثاني الأخص ، وهو الفرع ، إلا أن يصح المعنى الأول الأعم ، معنى النحو الذي يفيد من المدلول ما يحسن عليه السكوت ، وذلك الأصل ، فاشترط له من الصحة أول ، وإلا فسد الفرع الذي عنه يصدر ، فلا يعالج الناظر وجوه بَيَانٍ تلطف ، والكلام ابتداء لم يسلم من عجمة تُفْسِدُ ، فكل أولئك مما سبق به المتقدِّمُ المتأخِّرَ ، وذلك سبق أعم يَتَنَاوَلُ أَيَّ نَظْمٍ أو نَثْرٍ ، وثم آخر أخص ، بما كان من اصطلاح الشرع ، وهو ، كما تقدم ، مما زِيدَ فِي الحدِّ ، فَقَيَّدَ ما أُطْلِقَ أولا من حقيقة اللفظ ، فَثَمَّ من قيد الاصطلاح الأخص ما تناول العلوم كافة ، ومنها علوم الشريعة ، فَلَهَا اصطلاح أخص ، وتلك حقيقة من العرف الذي يَقْضِي في حقيقة اللسان المجردة ، كما مثال الصلاة آنف الذكر ، فإن منه أولا يحكي مطلق الدعاء الذي يجرده الذهن ، فيصدق فِي أَيِّ دعاءٍ في الخارج أنه صلاة ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يجزئ في الخروج من عهدة الشرع الذي فَرَضَ الصلاة ، فَلَمْ يَفْرِضْ منها الدعاء المجرد ، وتلك ، أيضا ، مما نهجت الحداثة أن تخاصم نصوص الرسالة فَتَسْعَى في إبطالها ، فَتَارَةً تُبْطِلُ الأصل ، وتجرد اللفظ من المعنى ، فَيَصِيرُ وعاء شاغرا يطلب من المعنى شاغلا ، فَيَشْغَلُهُ كُلُّ أحدٍ بما يواطئ هواه وذوقه ، وأخرى تَرُدُّ الحداثةُ حقيقة الشرع الأخص بما كان من أول من حقيقة اللسان الأعم ، فَتَصِيرُ الصلاة هي الدعاء المجرد ، دون نظر في قَيْدٍ تال يأطر بما ثبت من نص الشرع المحكم ، وتلك طريقة في التأويل باطنية قد سلكها قَبِيلٌ أول ، فكان من تأويله ما ينكر المعلوم الضروري من الشريعة ، فكان من الصلاة ذِكْرٌ ، وهو دعاء ، وذلك مما في حد المعجم المجرد يَصِحُّ ، وهو ، مع ذلك ، لا يجزئ ، بداهة ، في الخروج من عهدة الشرع ، فخرج به أولئك أن قَصَرُوا الصلاة على ذكرِ أسماءٍ من الأئمة ، وَقُلْ مثله في الصيام ، إذ يحكي في المعجمِ الإمساكَ ، وهو ما يصدق في أَيِّ إمساك في الخارج ، فلا يجزئ في الخروج من عهدة الصيام في الشريعة ، فذلك إمساك مخصوص في زمن مخصوص ، فَثَمَّ من القيد ما يأطر المدلول المعجمي الأعم على معنى في الشريعة أخص ، فَلَا يَقْضِي العام في الخاص فَيُبْطِلَهُ ، بل الخاص هو القاضي في العام إذ يأطره على مدلول الكلام ، وهو بَيَانُ الأحكام في نصوص الشريعة ، فلم يقصد الشارع ، جل وعلا ، بصوم رمضان مُطْلَقَ الإمساكِ عن أَيِّ شيءٍ ، فذلك ما يصدق في الإمساك عن الكلام ، كما أمسكت البتول عليها السلام ، فـ : (إِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، فأطلقت ثم قيدت بما يبين عن ماهية صومها ، فهو صوم عن الكلام ، وذلك مما جاز في الشرائع المتقدمة ، وقد جاء الشرع الخاتم له يبطل ، فلا يشرع الإمساك عن الكلام ، وإن كان شرعا لمن تقدم ، فهو شرع لنا إلا أن يكون من شرعنا ما ينسخ ، فحصل من مريم ، عليها السلام ، فعل يصدق فيه أنه صوم ، إذ أمسكت عن الكلام ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يجزئ في الخروج من عهدة الشرع الخاتم ، إذ الصيام فيه أخص ، فَلَهُ من المدلول ماهية مخصوصة ، فلا يتأوله الناظر بحقيقة المعجم المفردة ، وإن كانت الأولى في بَيَانِ المعنى ، إذ نَزَلَ الوحي بِهَا ، فهو العربي المبين ، فمبدأ الاستدلال فيه : معجم الدلالات العربية ، وهي ، مع ذلك ، تطلب القرينة الشرعية التي تحملها على معنى في الاصطلاح أخص ، فلا تَبْرَأُ الذمة إِلَّا به ، وهو ما يَسُدُّ ذَرَائِعَ التأويلِ ، ومنها ما تَقَدَّمَ من الاقتصار على المعنى الأول ، المعنى المعجمي المفرد ، فيقال إن الصوم هو الإمساك المجرد ، وهو ما يحصل بآحاد منه في الخارج لا تواطئ حقيقة الشرع النازل ، فيكون من ذلك ما يجحد معلوما دينيا ضروريا ، كما تأول الباطنية الصوم أنه الإمساك ، وذلك صحيح في المعجم ، ثم خَصُّوهُ بلا مخصِّص ، أن صار الإمساك عن إفشاء السر ، سر المذهب الباطن وهو لِظَاهِرِ الشريعة ناقض ! ، فليس الباطن الذي يلطف من وجوهِ تأويلٍ تَنْصَحُ ، فَشَرْطُهَا ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أَلَّا تُخَالِفَ عن ظاهر المعنى الأول ، وكذا قالوا في الحج ، إذ اقْتَصَرُوا على مطلق المعنى الذي يجرده الذهن ، فهو القصد ، ثم كان من القيد ما صرفه إلى قصد المراقد ، مراقد الأئمة ، وهو ، أيضا ، مما ينقض معلوما من الدين هو الضروري المحكم ، فَنَقَضَهُ التأويل الباطني إما بِجَحْدٍ تام يُفْرِغُ الألفاظ من المعاني ، ولو المعجمية الأولى ، ثم يقترح لها من وجوه التأويل ما يواطئ الهوى والحظ ، وهو التلاعب الذي يضاهي السفسطة ، وَإِمَّا بآخر يَرُدُّ المحكم من دلالة الوحي بما تشابه من دلالة المعجم ، فهي الجنس الدلالي المطلق الذي لا يَنْفَكُّ يطلب من القرينة ما يقيد ، إِنْ في سياقٍ مركَّب يُفْهَمُ ، أو اصطلاح في الدلالة يحكم ، فاصطلاح كُلِّ علمٍ : حَكَمٌ عَدْلٌ في الألفاظ ، فكان من اصطلاح الشريعة عرف أخص يقضي فيما ثَبَتَ أولا من حقيقة في اللسان أعم ، وهو ما يبطل نهج الحداثة في تأويل النصوص ، وذلك التحريف ، لو تدبر الناظر ، فالتأويل لفظ مجمل به تكسو الحداثة بَاطِنِيَّتَهَا في الدلالة ، فليس التأويل كله يُذَمُّ ، بل منه ما اعتبر ، وشرطه ألا يخالف عن ظاهر هو الأول ، وأن يكون ثم قرينة في الباب تَثْبُتُ لا أخرى تُتَوَهَّمُ أو تقترح تحكما في الدعوى بلا دليل يشهد من عرف النطق أو الشرع ، وليس ذلك التأويل الباطن ، بل هو ، لو تدبر الناظر ، تفسيرٌ ظاهرٌ مركَّبٌ ، إذ تَنَاوَلَ أصلَ الدلالة الأول ، وما احتف به من قرينة السياق المفهِم ، وهو في الشريعة أخص ، إذ يحكي من التكليف ما مَدَارُهُ التوقيف فلا يثبت إلا بالسمع الصحيح ، فَثَمَّ في الباب عرف أخص ، وهو عرف الوحي المنزل ، وذلك ما قَضَى في أول من اللسانِ المجرَّد ، وهو ما استصحب في نصوص الشريعةِ كَافَّةً ، فالأصل أَنْ تُحْمَلَ على المعنى الشرعي الأخص إلا أن تكون قَرِينَةٌ تَصْرِفُهَا إلى آحر من المعنى اللساني الأعم ، فيكون من ذلك ، أيضا ، تأويل في الباب ينصح ، إذ ثم من القرينة ما يجزئ ، كما السياق في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، فذلك ، بداهة ، مما يُرَدُّ إلى أصل اللسان الأول ، فذلك مطلق الدعاء ، إذ لا يكون من ذلك الصلاة المعهودة في الشرع ، فلا تكون إلا لله ، جل وعلا ، فلا يصلى على الإنسان إلا صلاة الجنازة ! ، وهو ، بداهة ، ما لا يشرع في حق من جاء بِزَكَاتِهِ ، بل شُرِعَ الدعاء له بما يَشْفَعُ ، وله الخبر قد أبان وأظهر بما كان من دعاء صاحب الشرع المنزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ : "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ أَهْلُ بَيْتٍ بِصَدَقَةٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ فَتَصَدَّقَ أَبِي بِصَدَقَةٍ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»" ، فكان من ذلك صلاة الرحمة ولا تخلو من ثَنَاءٍ أن بَادَرُوا بِالامْتِثَالِ ، فكان العدول عن العرف الشرعي إلى أول من الوضع اللساني إذ كان من القرينة المعتبرة ما سَوَّغَ ، فلم يكن ذلك تحكما بلا دليلٍ يُجْزِئُ ، بل كان من ذلك قرينةٌ تَنْصَحُ ، فذلك تأويل يَصِحُّ إذ يواطئ ظَاهِرًا من اللفظ والسياق ، فليس المذموم من التأويل الباطن الذي يصرف الحقائق عن المعنى الشرعي إلى آخر لغوي دونَ قرينةٍ معتبرةٍ تَصْرِفُ ، فيكون من ذلك ذريعةٌ تَنْقُضُ مَا أُحْكِمَ من نصوصِ الوحيِ ، إِنِ الخبرَ أو الحكمَ ، كما تقدم من إبطال الصلاة والصيام والحج ، وذلك ما طرده المذهب الباطني في النصوص كافة ، الإلهيات والشرعيات ، الخبريات والحكميات ، حتى أتى على أصل الديانة بالإبطال ، فَتَلَطَّفَ إذ لم يصرح بالجحود والإنكار ، بل أظهر القبول والتعظيم لألفاظ الوحي ، ثم اجتهد أَنْ يُجَرِّدَهَا من المدلول المحكم ، فَيَتَّخِذَهَا ، كما يقول بعض من حقق ، لحاء يكسو به ما بطن من تأويلاته ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما نهجت الحداثة في الجيل المتأخر ، فكان من ذلك ما اصطلح أنه التفكيك ، تفكيك النص أن تُبَتَّ العلائق بين اللفظ والمعنى ، فلا يجزم أحد بما أراد المتكلم ، فجيله قد انقرض ، فانقرض معه مراده بما تقدم من تاريخانية تقصر الدلالة على الجيل الأول ، وتصير نصوص الوحي كافة : وقائع أعيان لا عموم لها يجاوز ، إلا ما نُقِلَ من لفظها المجرد ، فكل جيل يقترح لها من المعنى ما يواطئ حاله ! ، وهو ما يفضي إلى اضطراب في الدلالة وتناسخ لا يَنْتَهِي ، فكل جيل تال ينسخ ما أَحْكَمَ الجيل الأول ، وهو ما يفضي إلى التلاعب بالمدلول الشرعي المحكم ، فلا تنفك الحداثة تصدر عن تاريخانية تنسخ المدلول الأول إذ تَقْصُرُهُ على جيله الذي انْقَرَضَ ، ثم ذاتية في التأويل لا تصدر عن مرجع موضوعي من خارج ، فيكون منها التفكيك الذي يجرد الألفاظ من مدلولاتها التي تواطئ عرف لسانها الأعم ، وآخر من الاصطلاح أخص ، كما اصطلاح الشرع آنف الذكر ، ثم تقترح لها معان جديدة تواطئ جيلها بما تُحْدِثُ من قواعدِ دلالةٍ ونطقٍ ، فمرجعها ما حدث بعد انقضاء الوحي ، أو زَمَنِ النطق أو الكتب ، فيكون من اللسان المحدَث بعد النص ، يكون منه معيار حادث يَنْسَخُ الأول ، ومرجعه ذاتي لا يجاوز جيله المحدَث ، فلا يكون ثم مرجع موضوعي من خارج يجاوز بما استقر أولا من المدلول اللساني والاصطلاحي ، فيقترح من معيار الدلالة الحادث ، وهو ما اصطلح أنه درس البنيوية ، وهو آخر في الباطنية ، بعد تاريخانية تقصر المعنى على الجيل الأول ، فهو واقعة عين لا تتكرر ! ، ثم تفكيك يُسَوِّغُ إذ يَبُتُّ الصلة بين اللفظ والمعنى ، ثم بنيوية تقترح من المعنى ما يشغل اللفظ الذي صار وعاء شاغرا يطلب من المدلول شَاغِلًا ، فيشغله كُلٌّ بما يُوَاطِئُ جيلَه المحدَث الذي يَنْقُضُ ما أُحْكِمَ من الدلالة لدى المبدإِ .

والله أعلى وأعلم .

توقيع :


التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر أحمد ; 02-15-2024 الساعة 04:49 PM
رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
المدير العام
رقم العضوية : 37
تاريخ التسجيل : Sep 2011
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 3,604
عدد النقاط : 10

عبد الله زيد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 02-12-2024 - 06:27 AM ]


جزاك الله خير الجزاء

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 02-15-2024 - 04:47 PM ]


وجزاك أستاذ عبد الله ونفعك ونفع بك .

فكان من ذلك المذهب الذي يُبْطِلُ دلالة النص ، وإن تَلَطَّفَ في النطق ، كان منه ما تَقَدَّمَ من قَصْرِ الخطابِ الشرعيِّ على المدلول اللفظي ، كما خطاب المواجهة الأول في قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فإن من الأمر ما أضمر فيه الفاعل وجوبا ، وهو ما يضاهي في الدلالة ضميرَ المخاطب المفرد المذكر ، فذلك أَوَّلُ مَنْ إِلَيْهِ خطاب الوحي قد تَوَجَّهَ ، صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الناظر على ذلك وصيره واقعة عين لا تتكرر ، فقد أبطل دلالة الشرع المنزل ، إذ لا يجاوز إلى بقية الجنس المكلَّف ، فَرَدَّ خطاب التشريع الأعم بما كان من خطاب المواجهة الأخص ، وهو كالسبب الذي نَزَلَ عليه العام فلا يخصصه إلا أن يكون ثم قرينة تخصيص تقصر الدلالة على واحد وهو سبب النزول ، كما في خصائص الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى»" ، فَثَمَّ من وصال الصوم ما يجري مجرى واقعة العين فلا يشرع فيه التأسي ، كما غَيْرٌ من أحكام الشريعة ، فذلك أصل يستصحب ، فـ : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) ، وهو ما دخله التوكيد القياسي ، فَثَمَّ لام ابتداء أخص ، وهي لام الجواب لقسم قد قُدِّرَ صدرَ الكلامِ ، فَلَهَا اسم أعم ، وهو الجنس العام الذي يجرده الذهن ، جنس الابتداء ، وتحته أنواعٌ تَتَمَايَزُ ، ومنها لام الجواب ، جواب القسم المقدَّر ، ومنها ما يتأخر إذا اشتغل المحل بمؤكد أقوى ، كما الناسخ ، وله المثل يضرب بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) ، فلو سِيرَ بالكلام المسيرَ القياسي المطرد ، لكان من النطق ما يثقل ، إذ اجتمع اثنان من جنس دلالة واحد ، اجتمعا في موضع واحد ، فقيل : لإنه حق اليقين ، فكان من إصلاح المنطق أن يتأخر واحد منهما ، وهو الأضعف ، وذلك ما يواطئ القياس المصرح ، إذ يقدم ما حقه التقديم وهو الأقوى ، فقدم الناسخ ، وَأُخِّرَ ما حقه التأخير وهو الأضعف ، فتلك لام الابتداء التي تأخرت ، فدخلت على الخبرِ ، واصطلح أنها المزحلقة .
فَلَامُ الابتداءِ قد تَتَجَرَّدُ في دلالتها ، فلا تجاوز وضع اللسان الأول ، ولا يكون من القرينة ما يقيد ، فيكسبها من الاسم تاليا يزيد ، كما لام الابتداء في جواب القسم المقدر ، فهي دليل على محذوف أول ، وهو القسم المقدَّر ، وثم قرينة أخص ، فإن لام الابتداء لا تدل على قسم مقدَّر في كل موضع ، إذن لصارت لام الجواب في كل سياق ، وليس ذلك بمتحقق ، بل لا تحمل اسم الجواب إلا في مواضع مخصوصة ، كما هذا الموضع ، إذ ثم من القرينة ما رفد وهو دخول اللام على "قد" التحقيقية التي دخلت على العامل الماضي "كان" ، فحصل من ذلك قرينة مركبة ، إذ ثَمَّ لام ابتداء قد اتصلت بالحرف "قَدْ" ، وهو ما احتمل أضدادا من الدلالة ، فاحتمل ، كما يقول أهل الشأن ، التحقيق إذا دخلت "قَدْ" على الماضي ، والتشكيك إذا دخلت على المضارع ، وإن لم يطرد ذلك في كل موضع ، فذلك مما يجري مجرى الغالب الذي يستصحب حتى يكون ثم من القرينة ما يصرف ، كما في قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، فالله ، جل وعلا ، يعلم ، بداهة ، ما الخلق عليه ، إن علم التقدير الأول الذي أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، فيكون من المضارعة في هذا الموضع ما به استحضار صورة لِمَا قَدُمَ في الأزل من علم إحاطة يستغرق المقدورات كافة ، الأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، وما تُبَاشِرُ من الأسباب ، وقد يُحْمَلُ العلم في الآية على ما يكون بَعْدًا من علم ظهور وانكشاف تَالٍ فَهُوَ يُصَدِّقُ ما كان أَزَلًا في علم التقدير الأول ، وهو ما له ثالث يؤكد ، فذلك علم الإحصاء الذي يُكْتَبُ في صحف الْمَلَكِ ، فالله ، جل وعلا ، يأمره بالكتب ، وهو يُبَاشِرُ الفعل ، فِعْلَ العلم الذي يُصَدِّقُ ما كان أولا من علم التقدير المحكم ، فَيَكُونُ من ذلك وَصْفُ فِعْلٍ يُنَاطُ بالمشيئة ، فَحُدَّ "يَعْلَمُ" حَدَّ المضارع الذي تحدث آحاد منه في الخارج ، وله نوع أول يقدم ، فإن الله ، جل وعلا ، قد علم العلم الأول ، ثم كان من آحاده تال يصدق إذا وَقَعَ المقدور ، فَيَتَنَاوَلُهُ العلمُ من هذا الوجه ، فذلك الإحصاء والعد ، خلاف أول يتناول التقدير ، فذلك علم محيط يجمع ، وهو ما تناول المحال والأسباب كافة ، وما سُنَّ لها من السنن المحكم الذي عليه تجري بما رُكِزَ في كُلٍّ من القوى ، فقوى السبب تُؤَثِّرُ ، وقوى المحل تَقْبَلُ ، وكل قد قُدِّرَ في الأزل على ماهية مخصوصة ، فذلك أول قد استغرق المقدورات كافة ، وَثَمَّ تال يصدق ، إذ استغرق الموجودات المصوَّرات المدبَّرات كافة ، فذلك تأويل لَمْ يَزَلْ يحدث ، وهو لعلم أول يُصَدِّقُ ، وبه يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، وكان ثم من مناط العلم تال ، وهو علم الإحصاء الجامع ، وذلك مما تحدث آحاده في الخارج ، وإن كان ثم نوع أول يقدم ، فذلك علم الإحاطة المستغرق ، فتأويله في الخارج : علم إحاطة يستغرق ، أيضا ، فالأول يستغرق المقدورات ، والثاني يصدق إذ يَسْتَغْرِقُ بَعْدًا موجودات في الخارج تحدث ، فيكون من المرجِّح من خارج ما به وجوبها بعد جواز أول ، فذلك العدم الذي يستصحب إذ استوى طرفاه في الاحتمال ، الوجود والعدم ، فلا ينفك يطلب مرجِّحًا من خارج يوجِب ويوجِد ، فيصير من الوجود في الخارج تال يصدق ، ولا يكون ذلك بمحض التحكم ، وهو مما يجافي القياس المصرَّح ، أن الترجيح لا يكون إلا بمرجِّح من خارج ، فكان من ذلك كلم تكوين يحدث ، وهو عن المشيئة النافذة يَصْدُرُ ، وهو تأويل لما كان في الأزل من وصف الكلام الذي قدم نوعه ، فَثَمَّ من آحاد الفعل ما يصدق ، وهو ، أيضا ، تأويل لما قدم من العلم الأول المحيط ، فثم من آحاد المعلومات في الخارج ما يحدث ، إذ ثم من آحاد المقدورات ما يحدث ، ولها وجود تال يصدق ، وهي ، كما يقول أهل الشأن ، مما له في المدلول أخص ، فالمعلوم أعم إذ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ ، ولو الفرضَ المحال الممتنع لذاته ، فَيُفْرَضُ ويكون من العلم ما يُبِينُ عن عاقبته لو حَدَثَ ، ولو الفرضَ المحضَ في الجدل ، كما آي من الذكر المحكم ، فـ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، فلم يكن ثم آلهة إلا الله ، جل وعلا ، ولم يكن ثَمَّ فساد في الكون ، بل قد جرى على السنن المحكم ، وهو ما يُجْرِي ما تَقَدَّم من الآية مجرى الفرض المحض ، تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وذلك دليل أن الحاكم الذي يأمر واحد لا يَتَعَدَّدُ ، فَلَهُ من واحدية الذات وأحدية الوصف الذي به يحكم ، له من ذلك ما به قد انفرد ، فاستوجب التوحيد في التكوين والتشريع كافة ، توحيد ربوبية بأفعاله وتوحيد ألوهية بأفعال عباده ، وذلك التوحيد الذي بشرت به النبوات كافة ، فـ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، فالحكومات الكونية التي تُدَبِّرُ والحكومات الدينية التي تُشَرِّعُ ، كُلُّ أولئك مما به امتاز مِنْ غَيْرٍ ، وإن كان ثم آلهة فيهما فهي باطلة ، فلا حكم لها يستقل بالنفاذ ، وإنما هي من جملة الأسباب التي بها تأويل المقدور الأول ، كما الْمَلِكُ من الخلق ، فهو يأمر وينهى ويتصرف في ملكه ، وهو ، مع ذلك ، لا يستقل بذلك ، بل لا ينفك يفتقر إلى أسباب بها يُجْرِي حكوماته ، وهي ما استوجب شرطا يُسْتَوْفَى ومانعا يُنْفَى من منازعة ملك آخر أو عصيان وخروج عن حكمه قد يُفْضِي إلى زَوَالِهِ كما قد تَكَرَّرَ فِي كُلِّ جِيلٍ ، فذلك تأويل الإيتاءِ والنَّزْعِ في محكم الذكر أَنْ : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فَرُدَّ الملك المحدَث إلى مالك الملك ، جل وعلا ، فَلَهُ من ذلك وصف أعم ، وهو ما استغرق الملوك كافة ، إذ يَتَصَرَّفُ فيهم تَصَرُّفَ المدبِّر المطلق فلا يفتقر إلى سبب من خارج به إنفاذ حكومته ، ولا يكون ثم مانع من نَفَاذِهِ ، إذ ليس أحدٌ ينازعه ملكه ، كما ملوك الأرض إذ يَتَنَازَعُوَن ، فَيَبْغِي بعضهم على بعض ، وتلك سنة في الخلق تطرد بما جبلوا عليه من الفقر والأثرة والشح ، فـ : (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، فيأكل القوي الضعيف ، وهو ما حد له أهل السياسة المحدثة معيارا لا يَذُمُّ ، بل تلك قاعدة التطور الذي يَرُدُّ الخلق إلى أصل مجرد ، فَيَنْزِعُ عن البشر خاصة التشريف بالعقل ، وما ضُمِّنَ من معيار الحسن والقبح الذي يميز الإنسان من سَائِرِ النَّوْعِ ، فَجُرِّدَ من ذلك أَنْ سُوِّيَ بِغَيْرٍ ، فلا تفضيل ولا تكريم ، وإنما أصل مادي حقير ، قد وجد بلا موجِد ! ، ثم خبط في الحركة فأفضى إلى هذا الخلق المجرد من القيمة والمبدإ ! فقانونه قانون الطبيعة التي لا ترحم ، إذ البقاء فيها للأقوى ، فمن قَدَرَ فَلْيَظْلِمْ ، وإلا كان عاجزا لا يقدر ! ، فإن تجد ذا عفة فَلِعِلَّةٍ لا يظلم ، كما قال أبو الطيب ، فصار الظلم من شيم الملوك ، وهو ما لا يقبح إذ يحكي حكومة الطبيعة الصارمة التي تصدر عن قاعدة تطور يَنْتَخِبُ ، فلا بقاء إلا للأقوى ، وإن بَغَى وَظَلَمَ ، وذلك ما يحكي آخَرَ من التعصب لِعِرْقٍ أو عنصر ، فلا ينفك يستعبد غَيْرًا من البشر ، إن رِقًّا يُصَرِّحُ أو آخر يُكَنِّي ! ، فلا يرى في الإنسان إلا مادة تُسْتَعْمَلُ فلا تجاوز الحس المحدث ، إذ لا تقر بحقيقة منه إلا ما يرصد بالتجريب والبحث ، لا جرم كان من علوم الاجتماع في الجيل المتأخر ما صدر عن وضعية لا تقر إلا بالمحسوس ، فصار المثال في حد القاعدة الاجتماعية : الكلب أو القرد ..... إلخ ، إذ لا يصدر الاجتماع الحديث إلا عن معيار المادة التي يتناولها الحس المحدث ، فذلك الجسد الذي استوى فيه الإنسان والكلب والقرد ! ، فليس ثم حقيقة تَلْطُفُ ، وبها امتاز الإنسان المكلَّف أن كان له من ذلك روح تكمل ، فآثارها تجاوز حياة الحس والحركة ، فَثَمَّ أُخْرَى من الفكرة والشرعة ، وليست تقوم بداهة إلا بعقل تام يدرك من المعاني ما جاوز الحس ، لا جرم كان له من المنطق ما يبين ، وهو حكاية عقل أول يميز ، وذلك تأويل لروح لطيف ، فروح الإنسان المكلَّف محل تكليف أول بما وَقَرَ في الجنان من التصور والإرادة ، وهما باعثا الحركة في الخارج ، إن قولا أو عملا ، إن فعلا أو كَفًّا ، فكان من قواعد الاجتماع المحدَث ما أهدر الخاصة الإنسانية الأشرف ، فكان من ذلك مثال الوضع المحدَث الذي يسلك بالإنسان مسلك المادة المجردة ، فَلَيْسَ إلا شَيْئًا من جملةِ أشياء تُسْتَعْمَلُ ، وقيمته لا تجاوز ما يُنْتِجُ وَيَسْتَهْلِكُ ، فلا يمتاز من الحيوان الأعجم الذي لا يجاوز تصوره مدارك حسه من لذة وألم يباشر ، وقد صار المرجع في باب التحسين والتقبيح دون آخر يجاوز ، فيحكي من القيم والمبادئ ما يَمِيزُ الإنسان ذَا العقل والمنطق من الحيوان الأعجم ، فكان من قواعد الاجتماع المحدَث ما يتبجح أنه يسلك بالإنسان مسلك الحيوان أو المادة الاستعمالية المجردة من الأخلاق والأحكام ، فانحط الاجتماع المحدَث بالإنسان إذ قصره على الجسد فلا يَتَنَاوَلُ من بحثه إلا ما يدرك بالحس ، فأهدر منه الحقيقة المركبة من الروح والجسد ، وله من بواعث الفكرة والشرعة ما يلطف ، فذلك مما يجاوز معيار الحس المحدث ، فليس منه إلا صورة اللحم والدم لا آخر يجاوز مما لطف من مادة الروح وهي مناط الأديان والأخلاق التي تميز الإنسان من سائر الأجناس ، فوحده ذو المنطق الذي يحكي من العقل ما ينصح ، ووحده من له من الأديان والأخلاق ما يأطر على جادة الحكمة ، فَثَمَّ من العقل حَكَمَةٌ تُلْجِمُ النَّفْسَ ، وليست تكمل إلا أن تُرْفَدَ بآخر من حَكَمَةِ الوحي التي تأطر النفس على جادة العبودية الحقة ، وبها تحرير الإنسان من رق المادة التي لا تجاوز مدارك الحس ، فلا غاية من الإنسان إلا أن يُتَّخَذَ آلةً بها تثمير الربح وحصول اللذة ، وهو ما يصدر عنه كُلُّ مثال أرضي يغلو في حقيقة الإنسان ، فهو الإله الذي حلت فيه الروح العليا ، وهو ما يَتَحَكَّمُ بعدا أن يقصر ذلك على جنس أو شعب قد اختير ، فصار له من الْبُنُوَّةِ ما يُسَوِّغُ ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، وذلك أصل عام قد استغرق المقالات المحدثة ، وإن لم يكن لها نسبة إلى الرسالات تثبت ، ولو المبدَّلة ، فكان من ذلك مثال محدث في الجيل المتأخر ، وهو باعث احتلالٍ وانْتِهَابٍ على قاعدة تطور تَرَى في غير أنه لَمَّا يَسْتَكْمِلْ بعد وصف الإنسان الذي تَحَكَّمَ الأقوى فَحَدَّ من ماهيته ما لا يجاوز ذاته ، فغيره ليس بِبَشَرٍ يَكْمُلُ ، فَنَزَعَتْ عنه خاصة التكريم والتفضيل ، فليس إلا المادة التي يستعملها الأقوى في مثال أرضي محدَث ، مع إسراف في القتل والسفك ، فالصالح من الآخر هو الميت ، كما طلائع احتلال أولى قد جازت إلى العالم الجديد فلم تَرَ صالحا من أهله إلا المقتول ، وكذا آخر في الأرض المقدسة ، وله تأويل في الحال يُشْهَدُ ، فَثَمَّ الإسراف في القتل والتبجح بالسفك والهدم فلا يُكَنِّي بل يُصَرِّحُ ، وَيَرَى ذلك ما لا يُعَابُ ولا يَقْبُحُ ، فقد نَزَعَ عن الخصم خاصة الإنسان فاستحل منه ما استحل ، فصدر عن مثال التحكم في الاختيار الذي غلا في الحقيقة الإنسانية لدى المبدإِ ، فقد حَلَّتْ فيها روح إلهية عليا ، ثم كان آخر قد قصر هذه المادة الحلولية على عرق أو عنصر ، قد تحكم في الدعوى أنه الأفضل ، ولو لم يُقِمْ على ذلك دليلا ينصح ، بل دليل الوحي المحكم بضد يشهد ، فـ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وذلك المعيار الذي به صلاح الأرض ، لا آخر من حال الخلق إذ يَبْغِي بعضهم على بعض إذا لم يكن ثم مرجع من خارج يجاوز قد سلم من الأهواء والحظوظ كافة ، وتلك مادة فساد في الأرض ، إذ كُلٌّ إلى مُلْكِ غيره يفتقر ، فيكون من ذلك تخاصم وتقاتل ، وليس ثم معيار من خارج يأطر ، وليس ثم مرجع يجاوز من حكومة وحي ناصح يحكم مَا نَفَذَ من سَنَنِ التدافع ، فَثَمَّ من حال الملوك في الأرض ما يدل ضرورة على ضِدٍّ من حال مالك الملك ، جل وعلا ، إذ بِضِدِّهَا تتمايز الأشياء ، فَلَهُ ، عز وجل ، من الغنى ما أُطْلِقَ ، ولهم من ضده : فَقْرٌ ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وهو باعث الشح والأثرة وما يكون من البغي والعدوان بغير حق ، وأولئك لا استقلال لهم بالحكم ، بل لا ينفك كُلٌّ يَفْتَقِرُ إلى أدوات إنفاذ ، بل الملك من ملوك الأرض ، هو في نفسه سبب به إنفاذُ قَدَرٍ أول ، ولو في وجودهم لدى المبدإِ ، وهو ما استوجب قَيْدًا يميز في قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، على تأويل : لو كان فيهما آلهة تَسْتَقِلُّ بالفعل والتأثير سوى الرب الحميد المجيد ، جل وعلا ، لو كان ذلك لفسدت السماوات والأرض ، ولكنه لم يكن ، فدل ذلك على انْفِرَادِ واحد بالخلق والحكم .
والشاهد أَنَّ ثم من آحاد المقدورات ما يحدث ، فَلَهَا من العلم مَنَاطٌ أول وهو التقدير في الأزل ، ولها منه مناط ثان ، وهو عِلْمُ الإحصاءِ الذي يستغرق الموجودات كَافَّةً ، فذلك تصديق ما كان أولا من المقدورات في علم محيط في الأزل ، فَلَهُ من وصف القدم ما يضاهي قِدَمَ الذات ، فقد قام بها في الأزل ، فَلَهُ من الأولية المطلقة ما يعدل أولية الذات المطلقة ، وذلك أصل قد استصحب في الإلهيات كافة ، فإن من القدم والأولية ما عم فاستغرق الذات القدسية وما يقوم بها من الوصف ، ومنه وصف الفعل ، وهو ما ينصرف إلى النَّوْعِ ، فإن من الآحاد ما يصدق فيه أنه المحدَث ، لا أنه المخلوق من العدم ، بل له من النوع ما قَدُمَ ، وهو ما حصل في الأزل على حَدِّ الكمال المطلق ، فكان له من ذلك وجود أول ، وذلك أصل في الباب يُسْتَصْحَبُ ، فَإِنَّ قِدَمَ الذات وما يقوم بها من الوصف ، إن وصفَ الذات أو آخر من الفعل بما انصرف ، كما تقدم ، إلى نوع الفعل دون آحاد منه تحدث ، فإن كل أولئك مما ثبت في الأزل على حد الكمال المطلق ، فتلك الأولية في النصوص الإلهية ، وهي ما نَصَّ عليه الوحي نَصَّ الخبرِ المحقق ، فكان من ذلك قصر بتعريف الجزأين يُؤَكِّدُ وهو ما يجري مجرى الحقيقة بالنظر في دلالة الأولية المطلقة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ) ، وهو ما رَفَدَ "أل" إذ تحكي لدى المبدإ : بَيَانَ الجنس المطلق ، وآخر في الدلالة يستغرق وجوه المعنى ، فتلك الأولية المطلقة ، وآحاده ، وهو ما يَرْفِدُ دلالة "أل" أنها عهد خاص يَنْصَرِفُ إلى واحد في الخارج لا نِدَّ له ولا نظير يُضَاهيِ ، وهو أصل يَطَّرِدُ في الأسماء والصفات كافة ، فإن دلالة "أل" في الأسماء الحسنى مما يحكي معنى لا تجوز فيه الشَّرِكَةُ ، وهو الكمال المطلق الذي لا يَتَطَرَّقُ إليه النقص ، من وجه ، فلئن جازت الشركة في الأجناس الدلالية المطلقة كما الأولية والعلم والحكمة .... إلخ ، فلا تجوز في الحقائق الخارجية إذ لكلٍّ منها ما يواطئ ذاته ، فَلَا تُطْلَقُ الأسماء في باب الإلهيات مُحَلَّاةً بالأداة "أل" ، إلا وهي تَنْصَرِفُ إلى كمال مطلق ، وذلك ما لا يصدق إلا في واحد في الخارج ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، فدلالة "أل" في "الأول" و "العليم" و "الحكيم" ...... إلخ ، تلك دلالة العهد الخاص الذي ينصرف إلى الكمال المطلق ، فلا يكون إلا لواحد في الخارج ، له من المعنى كمال مطلق ، وَأَزَلِيَّةٌ فَهُوَ الثابت لَدَى المبدإِ ، فعنه تصدر المخلوقات المحدثات كافة ، صدور المخلوق عن الخالق الأول بما يكون من كلم تكوين ينفذ ، وذلك مما عم الأشياء كافة ، فهو أصل قد اطرد في المخلوقات المحدثات كلها ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
وتلك ، كما تقدم ، أولية مطلقة قد تَنَاوَلَتِ الذات والاسم والوصف ، إِنْ وَصْفَ الذات أو وصفَ الفعل ، على التفصيل آنف الذكر ، إِنْ وَصْفَ المعنى أو وصفَ الخبر الذي لا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ ، فالعقل ، بادي النظر ، لا يُثْبِتُ ولا يَنْفِي ، بل غايته في الصفات الخبرية أن يُجَوِّزَ ، وذلك مما استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا اسْتُصْحِبَ فيه العدم ، عدم العلم فليس دليلا على العلم بالعدم من وجه ، وليس ، من باب أولى ، دليلا على الوجود ، بل العقل يَتَوَقَّفُ في الباب ، فَلَا يُثْبِتُ ولا يَنْفِي ، إذ الجائز يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، فيجري ذلك مجرى التأويل إذ يَفْتَقِرُ إلى قرينة الترجيح من خارج ، فلا تكون الدعوى المطلقة هي الدليل ، بل ذلك مما يفسد في الاستدلال إذ يصادر على المطلوب ، فصاحبه يستدل بصورة الخلاف التي لا يُسَلِّمُ بها خصمه ، فكيف يصيرها مقدمة في الاستدلال تَثْبُتُ ، ويصدر عنها في تَرْكِيبٍ وَتَصْنِيفٍ يُفْضِي إلى نَتِيجَةٍ نظرية تُسْتَنْبَطُ ، فَشَرْطُ النظري أن يصدر عن أول هو الضروري ، فيكون من مقدمات الضرورة في الخارج ما يَتَرَاكَبُ في الاستدلال الناصح إذ يُوَاطِئُ مِعْيَارَ العقلِ السالمِ من الآفة ، فلا يسفسط ، المسدَّدِ في القول والعمل ، فلا يجحد ، مع ظهور أدلة تُورِثُ اليقين الجازم ، فمبدأ الاستدلال النظري : مقدمات ضرورية يَنْتَظِمُهَا القياس المصرح ، فهو المنهاج الذي يسلك الباحث لِيَتَوَصَّلَ إلى معلوم نظري يُسْتَنْبَطُ ، فشرطه ، كما تقدم ، أن يصدر عن مقدمات ضرورة تَنْصَحُ ، ولا يكون ذلك إلا أن يسلم بها الخصوم كافة ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بدعوى مطلقة هي في نَفْسِهَا تَفْتَقِرُ إلى دليل يُثْبِتُ ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، فقد جاوز المستدل ، فَرَجَّحَ في الجائز بلا مرجِّح ، وَأَثْبَتَ من الوجود ما يَزِيدُ ، وليس ثم دليل إلا عين الدعوى ، فحصل من ذلك دور يَبْطُلُ ، وكان منه فساد في الاستدلال يَعْظُمُ ، إذ استدل بصورة الخلاف ، فكان دليل الدعوى هي عين الدعوى دون آخر من خارج يجاوز فهو يُرَجِّحُ فيها ، وهو ما أبان عنه صاحب الإحياء رحمه الله ، إذ لو سَاغَ لِكُلِّ أحدٍ أن يَهْذِي بدعوى الضرورة التي تُوجِبُ ما يَهْوَى ، لَسَاغَ لمخالِف أَنْ يَنْقُضَ دعوى الأول بدعوى ضرورة تُثْبِتُ ضِدًّا ، وليس يفتقر إلى دليل في الباب أخص ، فإن الأول لم يُقِمْ على دعواه دليلا يجاوز ، لِيَتَكَلَّفَ المخالِف نَقْضَهُ ، بل لم يكن منه إلا دعوى تطلق ، وهي مما أَجْزَأَ فِي رَدِّهِ أخرى تُطْلَقُ ، إِذِ اسْتَوَيَا فِي القدرِ وَاخْتَلَفَا في الوجه ، فكان من ذلك تكافؤ فَتَسَاقُطٌ ، وذلك أصل في الجدال يُسْتَصْحَبُ ، كما أبان عنه في موضع آخر ، في باب التقليد ، فَإِنَّ مَنْ تَعَصَّبَ لإمامٍ بلا دليل ، فخصمه يحاجه أن ساغ لآخر أن يُقَلِّدَ إماما يخالفه دونَ دليلٍ في الباب ثابت إلا الدعوى المطلقة أَنَّ الإمام على حق ، ولو لم يُقِمْ صاحبها الدليل ، فيكون من ذلك ، أيضا ، تَكَافُؤٌ فَتَسَاقُطٌ ، فليست دعوى إمامك بأولى بالقبول من دعوى إمامه ، وليس لأحدكما دليل أخص إلا دعوى مطلقة أن الإمام على حق ، وهو ما افْتَقَرَ إلى دليلٍ من خارج يَثْبُتُ ، فلم يكن إلا دعوى في الباب تُطْلَقُ ، وَبَاعِثُهَا ما ذُمَّ من التعصب ، تقليدا بلا دليل يُرَجِّحُ ، فَلَوْ ساغ لِعَجْزِ الناظرِ أن يستدل ، فتلك الضرورة التي تُقَدَّرُ بِالْقَدْرِ ، وشرطها ألا يَتَعَصَّبَ لإمامه في كلِّ قولٍ ، فيزعم له الحق المطلق ، فتلك دعوى عصمة ، والأصل امتناعها في الخلق كافة ، إلا من عُصِمَ من أصحاب الرسالات ، فذلك الاستثناء لا الأصل ، احْتِرَازًا في موضعِ ضرورة تقدر بالقدر ، فلا يَتَوَجَّهُ التكذيب لهم أو الرَّدُّ أنهم قد أَخْطَئُوا في البلاغِ أو البيانِ ، فكان من العصمة ما تَنَاوَلَ كُلًّا ، البلاغ والبيان ، لمكانِ الرسالة في إقامة الحجة ، وإلا ما نصحت في الباب ، ولجاز لمنكِر النبوات أن يحتج باحتمال الخطإ ، وهو ، في هذا الموضع ، وإن استدل بالاحتمال المطلق دون أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا في الباب يُثْبِتُ ، إلا أنه ، من وجه آخر ، قد استدل بأصلٍ في الباب يُسْتَصْحَبُ ، وهو خطأُ البشرِ فلا أحد يعصم ، بِمَا جُبِلَ عليه الإنسان من النسيان والخطإ ..... إلخ من عوارض تطرأ ، فذلك الأصل في المخلوق المحدَث ، وبه استبان القدر الفارق بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، إذ بضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، فامتاز الخالق ، جل وعلا ، بما تَقَدَّمَ من وصفِ العلمِ المحيطِ الذي اسْتَغْرَقَ ، وهو ما تناول الكليات والجزئيات كافة ، فكان من ذلك تقدير في الأزل هو المحكم ، وكان من تَالٍ ما به تأويل المقدور أن يحدث ، فيكون له من الوجود في الخارج ما يُصَدِّقُ ، فذلك ما يكون بمشيئة تَنْفُذُ ، وَكَلِمِ تكوينٍ عنها يصدر ، وهو ، كما تقدم ، من العلم الذي يُصَدِّقُ بما يكون من إيجاد وتدبير ، فهو التأويل لأول من التقدير ، فَثَمَّ من العلم تال قد استغرق الجليل والدقيق ، كما العلم الأول قد استغرق الكليات والجزئيات في التقدير ، فحصل من ذلك وصف أول يقدم ، مع آحاد له في الخارج تحدث ، وهي تعلق العلم بالموجود المعلوم إذ يصدق أولا من تعلق العلم في الأزل بالمعدوم المقدور ، فإنه مبدأ التقدير ، وإن كان له وصف الثبوت ، فذلك ما تناول العلم الأول المحيط ، فليس له تال من الوجود ، إذ لما يَزَلْ في العدم ، فهو الجائز الذي لمرجح يفتقر ، أن يتأوله فيرجح فيه الوجوب بعد الجواز ، والوجود بعد العدم ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بمرجِّح من خارج الجائز ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الدعوى التي لا يجزئ إطلاقها في إثباتها ، بل ذلك التحكم المحض أَنْ يُسْتَدَلَّ على الشيء بنفسه فيكون من الدور ما يَبْطُلُ ، فلا يستدل بدعوى مطلقة لا يسلم بها الخصم فهي صورة الخلاف فلا يُسْتَدَلُّ بها ، وإنما يُطْلَبُ لها الدليل من خارج ، وكذا الجائز آنف الذكر ، فالدليل يُطْلَبُ له من خارج ، وإلا كان التحكم ، كما التحكم في الدعوى آنفة الذكر ، دعوى الصحة المطلقة في كل قول للإمام المتبوع في الفقه ، فإنها مِمَّا يَفْتَقِرُ إلى الدليل المرجِّح من خارج ، فلا تكون هي الدليل على نَفْسِهَا ، فليس ثم إلا تعصب صاحبها أن غلا في إمامه فاعتقد فيه عصمة ليست لأحد من الخلق إلا من اختصه الله ، جل وعلا ، بالنبوة والوحي ، فَصَنَعَهُ على عينه ، وجعل فيه الرسالة ، فذلك استثناء من أصل ، فَلَا يُقَاسُ عليه ، بل تلك ، أيضا ، ضرورة تقدر بالقدر ، إذ اختص بها آحاد من الخلق ، فليست أصلا في الباب يَعُمُّ ، بل هي الاستثناء وهو ما يَفْتَقِرُ إلى دليل إثبات من خارج ، بل هو في هذا الموضع ، آكد من دليل الترجيح في الجائز ، فإن الجائز مما استوى طرفاه في الحد ، فيطلب المرجِّح من خارج ، وأما دعوى العصمة فهي خلاف أصل أول يستصحب ، فلم يكن منها طرفان قد استويا ، بل ثم راجح مستصحب أن الأصل في الخلق الخطأ وعدم العصمة ، فإذا رام المستدل إثباتَ ضِدٍّ ، فهو يُثْبِتُ الاستثناء الذي يخالف عن الأصل ، فيطلب المرجِّح ، من باب أولى ، بل قَدْ وَجَبَ في هذا الموضع أن يكون الأقوى ، إذ يُقَابِلُ أصلا هو الأرجح ، لا آخر يعدله في الحد ، كما طَرَفَا الجائز مبدأَ النظرِ ، لا جرم كان من رحمة الله ، جل وعلا ، بالخلق ، أَنْ أَقَامَ من أدلة الإثبات والصدق في باب النبوات ما قد بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ إذ الحاجة إليها أعظم حاجة ، فهي ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أعظم من حاجة البدن أن يأكل ويشرب وينكح ، وإن كان من تلك حاجات ضرورة تعظم ، فحاجة الروح إلى الوحي أعظم ، بل وحاجة البدن إليه تعظم إذ يبين له عن حكومات في الفقه تَنْصَحُ ، فحاجة الروح أعظم إذ هي المحل الأشرف ، فكان من حاجتها ما رَجَحَ حاجة البدن ، وهو ، مع ذلك ، يفتقر إلى الوحي ، إذ له من حكومات الفقه ما يُحْمَدُ ، فامتثاله مما يُصْلِحُ الشأن كافة ، إن في المأكل أو في المشرب أو في المنكح ...... إلخ من أفعال الجبلة ، فحاجة الخلق إلى النبوة أعظم حاجة ، لا جرم كان من أدلتها ما كَثُرَ ما لم يكثر في غيرها ، فأفاد من التواتر ما يَقْطَعُ ، إذ يفيد من اليقين ما يجزم ، وذلك ما تَنَاوَلَ النَّوْعَ والشَّخْصَ ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، وعمدتهم في ذلك حديث هرقل ، فقد سأل عن مسائل تَتَنَاوَلُ الدعوى ، وذلك مسلك النوع في الاستدلال ، وسأل عن أخرى تَتَنَاوَلُ المدَّعي ، وذلك مسلك الشخص في الاستدلال ، فَحَصَلَ من ذلك ما ينصح في النبوات ، وكان من أولئك ما يُثْبِتُ العصمةَ ، عصمة البلاغ والبيان ، فلا يقول النبي فيهما إلا الحق ، كما في حديث ابن عمرو رضي الله عنهما ، وفيه : "كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: تَكْتُبُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ، حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ»" ، وذلك أمر إرشاد ونصح ، ولا يخلو من دلالة الإيجاب ، ولو في الجملة ، فهو مما تَوَجَّهَ إلى المجموع لا الجميع حتى تحصل منه الكفاية التي تجزئ في حفظ الدين المنزل ، وذلك تأويل الخبر في الآي المحكم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وذلك وَعْدٌ يَصْدُقُ ، وهو مما عَظُمَ في الحد ، فَحَسُنَ لأجلِ ذلك الإسناد إلى ضميرِ الجمعِ ، فَثَمَّ مِنَّةُ تَعْظُمُ من التَّنْزِيلِ ، وهو مما ضُعِّفَتْ عَيْنُهُ من العامل "نَزَّلَ" مَئِنَّةَ التكرارِ الذي يَتَنَاوَلُ الآحاد التي تَنَزَّلَتْ منجَّمة ، وثم أخرى قد أطنب بها من الحفظ ، حفظ الذكر المنزل في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان من التوكيد في الشطر الأول : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، كان منه توكيد بالناسخ المؤكد "إِنَّ" ، وآخر باسمية الجملة ، فهي تحكي الديمومة والثبوت ، وثم من الضمير "نحن" ما احتمل ، كما يقول بعض من أعرب ، إذ حَدُّهُ في الاصطلاح أنه ضمير رفع ، وهو ما اسْتُعِيرَ في هذا الموضع تَوْكِيدًا لضميرِ نصبٍ "نَا" الدالة على الفاعلين في "نَزَّلْنَا" ومحلها النصب إذ هي اسم الناسخ ، والقياس أن يُؤَكِّدَ الناصبَ ناصبٌ مثله ، فاستعير المرفوع من الضمير "نحن" ، فهو مما يواطئ "نَا" في الدلالة ، مع آخر يَلْطُفُ ، فإن "نا" مما يتناوله الاحتمال : الرفع والنصب والجر ، فاغتفر لأجل ذلك ورود "نحن" مؤكدا له ، فإن من "نَا" ما احتمل الرفع ، ولو لم يُرْفَعْ في هذا الموضع ، مع آخر يزيد ، فإنه قَبْلَ دخول الناسخ ، مما يقدر بالضمير "نحن" ، فَيَجْرِي مجرى المبتدإ ، وهو فاعل المعنى ، فَجَازَ أن يُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ يُضَاهِي ، وثم من أجرى "نحن" مجرى الابتداء لجملة هي الخبر ، فيكون من ذلك إطناب يؤكد ، وثم آخر من حَدِّ خبر الجملة : (نَحْنُ نَزَّلْنَا) ، وهو "نَزَّلْنَا" ، من حَدِّهِ جملة أخرى هي الفعلية ، وثم من تكرار الإسناد ما زاد في الدلالة ، فجرى مجرى التوكيد ، إذ كان منه أول وهو فاعل المعنى ، وذلك المبتدأ "نَحْنُ" الذي أسند إليه الخبر "نَزَّلْنَا" ، وذلك من جنس آخر قد تلا ، وهو فاعل اللفظ ، فتلك دلالة "نَا" التي أُسْنِدَ إليها فعل التَّنْزِيلِ ، وثم إطناب آخر يؤكد ، تكرار الناسخ "إِنَّ" في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان الإطناب في الوعد ، وهو ما حُدَّ ، أيضا ، اسمية تحكي الثبوت والديمومة ، وثم توكيد آخر في اللفظ بما كان من لام الايتداء التي تأخرت فَزُحْلِقَتْ في "لَحَافِظُونَ" ، فمحلها الابتداء وإنما تأخرت في اللفظ وَالْكَتْبِ كراهةَ أَنْ تُزَاحِمَ الناسخ محل الصدارة ، فيجتمع اثنان من جنس واحد في موضع واحد من الكلام ، فتأخر الأضعف وهو اللام إذ "إن" أم الباب فَلَهَا منه الصدارة مطلقا ، وثم من تقديم الظرف "لَهُ" وحقه أن يتأخر ، ثم منه دليل حصر وتوكيد .
ولا ينفك ، ولو من وجه يلطف ، يحكي إنشاء يأمر بحفظ الذكر ، وذلك الاسم الأعم الذي تَنَاوَلَ ما يجاوز المتبادر من ذكر التَّنْزِيلِ المتواتر ، فَثَمَّ ذكر الشريعة ، وهو ما عم الآحاد والمتواتر ، فكان من ذلك خبر يُرَادُ به الإنشاء ، وذلك ما اصطلح في البيان أنه الاستعارة ، وهو مما به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فمنه الاستعارة آنفة الذكر ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل أول يطرده في مواضع الخلاف كافة ، أن ذلك مما اشتهر في عرف اللسان المتداول ، فتلك الحقيقة العرفية الأخص التي تَقْضِي في أخرى أعم .
فَثَمَّ أمر بحفظ التَّنْزِيلِ كَافَّةً ، وهو ما تناول الآي والأخبار ، بل لو قُصِرَ عَلَى الآي فلا يتم حفظها إلا بحفظ الأخبار ، وهو مما يرجح في دلالة الأمر في الخبر آنف الذكر أَنِ : "اكْتُبْ" ، ما يرجح فيه دلالة الإيجاب ، ولو بالنظر في المجموع فيجري مجرى الفرض الكفائي الذي يسقط إذا حصل المراد بِفِعْلٍ بعضٍ لا كُلٍّ ، وهو من جملة أدلة قد تَنَاوَلَهَا مَنْ يُثْبِتُ كتابةَ السنة لدى المبدإ ، وهو سابق التدوين الذي جَمَعَ ، فكان من الْكَتْبِ مَبْدَأَ الأمرِ : صحفٌ كما الصادقة ، صحيفة ابن عمرو ، وكما صحف أخرى قد ثَبَتَتْ ، وَثَمَّ من المصنِّفِينَ من رواها كاملة ، أو انْتَقَى منها ما يُوَاطِئُ شَرْطَهُ ، لا أن بَقِيَّتَهَا خطأٌ أو كَذِبٌ ، بل لم تُوَاطِئْ شرطَه الذي اشترط ، إذ كان منه ما عَلَا في الدرجة ، كما الصحيحان .
فكان من الدليل الذي به يَسْتَأْنِسُ مَنِ اسْتَقْرَأَ نصوصًا من الأثر تَثْبُتُ ، وفيها دليل لِلْكَتْبِ يُجَوِّزُ ، كان منها ما تَقَدَّمَ في حديث ابن عمرو إذ أمره صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ يَكْتُبَ ، فكان من ذلك إرشاد ونصح ، ولا يخلو من لمحِ زجرٍ يُبْطِلُ مَا كَانَ من دعوى القوم إذ نهوا ابن عمرو ، فظنوا من كلام صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يُعْصَمُ إذ يَتَكَلَّمُ في الرِّضَا والغضب ، فكان من الأمر ما يُنْكِرُ وَيُبْطِلُ ظَنَّهُمْ ، فذلك لمح الزجر في الأمر آنف الذكر ، فقد نهته قريش ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، ذلك مما يجري مجرى المجاز عند من يجوزه في اللسان والوحي ، فذلك من إطلاق كُلٍّ وهو قريش وإرادة بَعْضٍ ، وهم آحاد منها ، فأولئك من آمن من المهاجرين ومن تبع من الطلقاء ، فلم ينهوه جميعا في آن واحد في صعيد واحد ! ، فذلك ، بداهة ، مما لا يُتَصَوَّرُ في العقل الناصح ، وإنما نهاه آحاد منها ، وذلك نهي يُحْمَلُ ، أيضا ، على النصح لا التحريم ، وإن لم يخل من زجر وإنكار ، فإنهم استنكروا ما كان من حاله إذ يَكْتُبُ كُلَّ شيءٍ ، وهو ما صَدَّرَهُ بالكينونةِ الماضيةِ في "كُنْتُ" ، وهي مئنة الديمومة والاستمرار ، وذلك آكد في البيان والإثبات ، وثم من المضارعة في الخبر ما به استحضار صورة قد انْقَضَتْ ، مع آخر يحكي ديمومة واستمرارا بالنظر في حاله الماضية ، فتلك سنته الجارية ، ولا يخلو ذلك ، من إطناب في الخبر ، إذ حُدَّ جملةً ، وهي المضارع "أَكْتُبُ" ، وما اسْتَتَرَ فيه من الضمير وجوبا ، فذلك ضمير المتكلم المستتر ، وتقديره ما يعدله من الضمير البارز ، وهو ضمير المتكلم "أَنَا" ، وثم من أَلِفِ المضارعة صَدْرَ الفعلِ "أَكْتُبُ" ، ثَمَّ مِنْهَا ما يدل على الضمير المستتر ، فهو يُعَيِّنُ جهةَ الكلامِ ، وهي ما يصدر عن المتكلم ، كما التاء في "تَكْتُبُ" تُعَيِّنُ جهة المخاطَب في قولك : تَكْتُبُ الكتابَ ، فالضمير المستتر فيها وجوبا يقدر بضمير المخاطب "أنت" ، فتلك حروف المضارعة وهي ذات مدلول أخص ، وإن لم تبلغ في الحد أن تكون من حروف المعنى الخالصة ، إِنِ العاملةَ أو غيرَ العاملة ، فالألف في "أَكْتُبُ" ، والنون في "نَكْتُبُ" وهي دليل ضمير قد اسْتَتَرَ وتقديره ما يحكي الجمع فَيُقَابِلُ في المظهر "نحن" ، والتاء في "تَكْتُبُ" ، كل أولئك من حروف المبنى ، وإن كان لها وجه من المعنى إذ تحكي عين الضمير المستَتِر في العامل ، فهي القرينة التي تُعَيِّنُ ، وهي مما تقدم في النطق وَالْكَتْبِ ، كَتْبِ العامل فَمَبْدَؤُهُ حرفُ المضارعةِ الذي يحكي دلالة أخص ، وَإِنْ لم يَبْلُغْ بها أن يكون من حروف المعنى التي تخلص لها الدلالة .
وذلك الأصل في القرينة التي تُبِينُ عن المجمل ، فالأصل أَنْ تَتَقَدَّمَ ، فيثبت منها في الذهن مرجع ، وإليه يرجع الناظر في بَيَانِ المجملِ المتأخِّر ، فكان من تقدم هذه الحروف ما أبان عن الضمير المستور ، فدل المذكور المتقدم على المحذوف المتأخر ، وكان من ذلك في "أَكْتُبُ" ما يعدل في النطق ضمير المتكلم "أَنَا" ، فَثَمَّ إطناب في الإخبار بالجملة "أَكْتُبُ" ، فهي الفعل والفاعل المستتر ، وثم مِنَ التَّوْكِيدِ آخر قد اصْطُلِحَ أَنَّهُ تكرار الإسناد ، فَثَمَّ أول وهو تاء الفاعل في "كُنْتُ" ، وصورتها صورة المتكلم ، وذلك فاعل المعنى ، إذ هو المسند إليه مَا تَلَا من الخبر ، فأشبه الفاعل الذي يسند إليه ما يسبق من الفعل ، وثم ما استتر وجوبا في العامل "أَكْتُبُ" ، وذلك فاعل اللفظ ، فحصل من ذلك تكرار في الإسناد ، وهو مما به التوكيد يَزِيدُ ، وثم من العموم ما استغرق كل مكتوب ، فتلك دلالة "كُلَّ" ، وهي نص في الباب ، وهو ما احتمل ، أيضا ، أن يكتب ابن عمرو كل شَيْءٍ يصدر عن صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن في دين أو في دنيا ، واحتمل آخر ، وهو الأرجح ، أن يكتب ما له في الشريعة معنى ينصح ، إن في الخبر أو في الحكم ، فلا يتصور أنه كان يكتب كل شيء يصدر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وَإِنْ أَمْرَ دنيا فَلَيْسَ بمناط تشريع ، لا في الجملة ولا في التفصيل ، فيجري مجرى أفعال من الجبلة لم يشرع فيها الاقتداء الأخص ، فلا أسوة فيها من هذا الوجه ، وإن كان ثم أخرى تلطف ، فهي أسوة المحبة أن يقلد المحِب من يجب ، فتدخل ، من هذا الوجه ، في عموم الأسوة في قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 02-24-2024 - 04:31 PM ]


فكان من الأسوة الحسنة ما أُطْلِقَ ، وهو ما عَمَّ في المدلول ، وَإِنْ تَوَجَّهَ ، بادي الاستدلال إلى أفعال التعبد ، ولها في الشرع معنى أخص ، فَثَمَّ ، أيضا ، أفعال في الجبلة قد شُرِعَ فِيهَا الاقتداء على قاعدة من المحبة فهي باعث التقليد في الخارج ، فالنفس قد جُبِلَتْ أَنْ تُقَلِّدَ من تحب ، فيكون من الظاهر ما يحكي آخر من الباطن هو الباعث والمنشأ ، فالمغلوب قد جُبِلَ على تَقْلِيدِ الغالب ، وهو ما يكون عن استحسان لحال القوي ، فيغتر الناظر بما له من قوة ، وإن لم تُشْفَعْ بالحق ، فليس لها من خارج مرجع يأطر ، بل قد صارت هي المرجع ، فليس إلا المادة التي لا تجاوز مدارك الحس ، وليت المغلوب يحسن يقلدها أن يتناول أسبابها بحثا وتجريبا ، وإنما هي الجعجعة بلا طحين ، والانهزام أمام القوي الغالب ، فيكون من فساد النظر أن لم يجاوز الحس ، وهو ، مع ذلك ، يحكي أصلا في الباب يطرد ، فقد أَحَبَّ المغلوبُ الغالبَ ، أو أحب ما له من رياسة وسيادة ، وإن لم تكن عن ناصح من الأخلاق والديانة ، فاغتر بما ظهر ، وَأَحَبَّ حُبَّ التقليد لا التحقيق ، وإن خالف عن التشريع العادل والخلق التام ، وذلك مناط التقليد الذي يحمد ، لا آخر يصدر عن انهزام وهوان ، لم يكن لصاحبه من الاستعلاء بالإيمان ما يحمد ، فمعيار صاحبه محكم لا يشتبه ، فيكون من ذلك آثار في الخارج تظهر ، ومنها حكاية المحبة ، لا على سبيل التعبد بماهية مخصوصة ، فذلك ما لا يثبت إلا بالنص ، فـ : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، وهو ، كما تقدم ، مما تناوله التوكيد بلام الجواب لقسم أول قد قُدِّرَ صَدْرَ الكلامِ ، فكان من ذلك خلاف الراجح في الباب ، إذ دَلَّ المذكور المتأخر على المحذوف المتقدم ، والأصل أن يكون من المذكور أول يَثْبُتُ ، وبه المرجع في الذهن يحصل ، ثم يكون منه دليل على تال هو المحذوف المتأخر ، فذلك الأصل في باب الذكر والحذف ، وإن جاز ضد ، كما في هذا الموضع ، إذ دل المذكور المتأخر على المحذوف المتقدم ، وكان من اللام وما دخلت عليه من "قد" التحقيقية إذ دخلت على العامل الماضي "كَانَ" ، كان منهما دليل على أول من القسم تقدم ، وكلهم في باب التوكيد ينصح ، فَثَمَّ التوكيد بالإنشاء غير الطلبي ، وذلك التوكيد القسمي ، وثم توكيد لفظي بما زِيدَ في الحد من لام الجواب في "لَقَدْ" ، فزيادتها ، بادي النظر ، زيادة في المبنى تعدل أخرى تضاهي في المعنى ، وهي ، من وجه آخر ، ذات مدلول أخص ، فهي لام الجواب لِقَسَمٍ يَتَقَدَّمُ في الرتبة ، ذُكِرَ أو قُدِّرَ ، كما في هذا الموضع ، وثم ، أيضا ، "قَدْ" ودلالتها دلالة التحقيق إذا دخلت على الماضي ، وقد تُفِيدُ من ذلك ما يَلْطُفُ ، كَمَا قَرَّرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَتُفِيدُ التَّقْرِيبَ الذي يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التحقيقِ ، كما في لفظ الإقامة : قد قامت الصلاة ، فَلَمَّا يَشْرَعِ المصلون فِيهَا بَعْدُ ، وإنما قُرِّبَ ذلك فُنِزَّلَ منزلة الواقع في نفس الأمر ، وقد تُفِيدُ ثالثا من التشكيك إذا دخلت على المضارع ، وإن أفادت التحقيق في مواضع ، كما في قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، فكان من ذلك علم قد أُطْلِقَ ، وهو ما قد عَمَّ فَتَنَاوَلَ علم التقدير الأول في الأزل ، وهو العلم المحيط الذي استغرق الكليات والجزئيات كافة ، فَلَهَا مِنْ ذَلِكَ ما اصطلح أنه القدم النوعي ، لا قِدَمُ أعيانِ المقدورات ، فالمبدأ منها عدم ، وإن كان ثم إثبات لعلم محيط يستغرقها ، فذلك علم التقدير الأول ، فلا يخرجها من العدم إلى الوجود ، بل هي الجائزة التي تَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، فهي ثابتة في العلم المحيط الأول ، ثبوت المقدور لا الموجود في خَارِجٍ يُصَدِّقُ ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، ثبوت عدمي ، وهو مما قد يوهم التناقض بالجمع بين نقيضين ، الثبوت والعدم ، وليس ذلك مما يُوهِمُ إِذِ الجهة قد انْفَكَّتْ ، فجهة الثبوت هي العلم المحيط الأول ، إذ قد عَمَّ المقدورات كَافَّةً ، وجهة العدم هي الوجود في الخارج ، فَلَمَّا توجد الأعيان والأحوال بَعْدُ بما يصدق ما كان من تقدير أول في الأزل ، بل هي ، كما تقدم ، الجائزة التي استوى طرفاها في الاحتمال ، فلا تنفك تطلب المرجِّح من خارج ، كما تقدم من المشيئة وعنها كلم التكوين النافذ يصدر ، فهو المرجح في الجائز أن يكون له من ذلك وجوب في الخارج يصدق ، فليس الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، فذلك ما اخْتُصَّ به الرب الخالق ، جل وعلا ، فهو واجب الوجود لذاته ، فوجوده الوجود الأول ، وذلك مما في الوصف قد أُطْلِقَ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج يَسْبِقُ ، بل المحال والأسباب كافة إليه تَفْتَقِرُ أن يوجدها ويدبرها بما سَنَّ من السنن المحكم ، وذلك الفعل الذي لا ينفك يطلب فاعلا هو الأول ، إذ يَقُومُ به ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى فاعل أول لا فاعل قبله ، فعنه يصدر الفعل لدى المبدإ إذ يُرَجِّحُ في غَيْرٍ من المخلوقات المحدثة ، فَيُخْرِجُهَا من العدم الأول إلى وجودٍ تالٍ في الخارج يُصَدِّقُ ما كان من تقدير في علم إحاطة يَسْتَغْرِقُ ، وفيه قد ثَبَتَتِ المقدورات كافة ، لا الأعيان فَلَيْسَتْ تقدم بل هي مما يحدث بعدا بما يكون من مشيئة فيها ترجح ، وإنما ثبت في العلم الأول ما كان من تقدير في الأزل يثبت ، فذلك وصف أول يقدم ، وله من ذلك إطلاق يَعْدِلُ قدم الذات القدسية الأولى ، فَثَمَّ قِدَمٌ يَتَنَاوَلُ ما قَامَ بها من الوصف ، ومنه وصف التقدير الأول الذي استغرق ، ووصف المشيئة التي تُرَجِّحُ ، وإن لم يَقَعْ بَعْدُ من آحادها ما يُصَدِّقُ ، وبه الجائز من المقدور لَدَى المبدإ يصير موجودا بالفعل في الخارج ، فَثَمَّ من المشيئة والقدرة ما ثبت أزلا ، فلم يكن الخالق ، جل وعلا ، عن الفعل بمعطل ، وإن لم يكن ثم من آحاده في الخارج ما يحصل ، فَلَهُ ، جل وعلا ، من ذلك نَوْعٌ أَوَّلُ يَقْدُمُ ، وذلك ما يعدل في اصطلاح الحكمة الأولى : القوة ، وله آحاد في الخارج تحدث بما يكون بعدا من مشيئة ترجح ، وهو ما يعدل في اصطلاح الحكمة آنف الذكر : الفعل ، فَيُصَدِّقُ أولا من القوة إذ به تَأْوِيلُهَا في الخارج ، فيكون من المفعول ما تحدث آحاد منه تُصَدِّقُ مَا كَانَ من نوعٍ أول يَقْدُمُ ، إِنْ نَوْعَ الفعل الذي يُرَجِّحُ في المقدور ، أو نَوْعَ المقدور لا آحاده ، فنوعه مما ثَبَتَ أولا بما كان من علم تقدير يستغرق ، وهو بعدا يطلب مرجِّحا من خارج يوجب فيه فهو الجائز ، ويوجده في الخارج إذ المبدأ منه عدم أول ، فلم يكن من أعيان المقدورات شيء في الأزل ، بل كان الله ، جل وعلا ، ولم يكن معه أحد ، ومن وجوده الأول في الأزل ما تَنَاوَلَ علم التقدير الذي يستغرق أنواع المقدورات ، فهي مما يقدم العلم به ، لا أعيانها فهي المحدَثة ، فالعالم المحدَث ليس بقديم ، ونوعه مبدأ التقدير مما يصدق فيه أنه قديم ، فذلك قدم العلم الذي أحاط به واستغرق ، علم التقدير الأول ، وهو مما قام بذات الخالق ، جل وعلا ، لدى المبدإ ، إذ كان من أَوَّلِيَّتِهِ المطلقة ما عَمَّ الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، ومنه وصف العلم ، علم التقدير المستغرق لآحادِ المقدوراتِ كَافَّةً ، ومنه فعل الترجيح بالمشيئة والقدرة ، فلم يكن ، جل وعلا ، بمعطَّل عن وصفِ الكمالِ المطلقِ ، لا وصفَ الذات ولا آخرَ من الفعل ، وإن كان من الأخير ما قَدُمَ في النوع ، فآحاده بعدا تحدث وبها تأويل المقدور الأول أن يخرج من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فانفكت الجهة في هذا الباب : جهة القدم التي تَتَنَاوَلُ الأنواع ، وجهة الحدوث التي تَتَنَاوَلُ الآحاد ، وبه إبطال الشبهة في مسألة قِدَمِ العالم ، وهي مما عمت به البلوى في كل جيل ، ولها في الجيل المتأخر مناط خصومة تستحكم بين الحداثة التي تَنْفِي الخلق الأول ، بل وتجحد الخالق ، جل وعلا ، وإن تكلفت لذلك من الأدلة ما يصدق فيه أنه عين السفسطة ، إذ تُنْكِرُ المعلوم الضروري من بدائه الاستدلال ، فالفعل لا بد له من فاعل أول ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى فاعل أول لا فاعل قَبْلَهُ ، وله من وصف الفعل ما قَدُمَ ، فلم يكن عاجزا عن الفعل ثم قَدَرَ ، بل له من ذلك أول قد ثَبَتَ ، وَإِنْ ثبوتَ القوَّةِ ، فَلَمَّا تَأْتِ بَعْدُ أفعالٌ له تصدق في الخارج ، بما يكون من مشيئة ترجح ، فكانت الخصومة آنفة الذكر بين الحداثة والرسالة ، فجاء الوحي من ذلك بما يواطئ القياس المصرح ، وأبان عن إجمال في الباب يجاوز العقل والحس من قصة أولى من الخلق ، فَلَا يَنْفَكُّ الناظر فيها يَفْتَقِرُ إلى مرجع من خارج يجاوز العقل والحس ، وإن لم يخالف عن بدائه الضرورة في القياس والنظر ، فلا يخبر بمحال ذاتي يمتنع ، وإنما يخبر بجائز في العقل لدى المبدإ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، والإخبار عنه يطلب ، أيضا ، المرجع المجاوز من خارج العقل والحس ، فيأتي الوحي ، كما يقول بعض من حقق ، يأتي بالمحار في كَيْفِهِ لا المحال الذي يمتنع في العقل الصريح مبدأَ النظرِ ، فذلك الوحي الذي أُمِرَ الخلقُ بِاتِّبَاعِهِ ، وهو ما أُطْلِقَ الأمر فيه أَنِ : (اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، وذلك ما عَمَّ الاتباع في آحاد الأمور المخبر بها أن تُصَدَّقَ ، والأوامر المكلَّف بها أَنْ تمتثل ، فَعَمَّ في الباب : القول والعمل ، مع آخر من الإطلاق قد استفيد ، إذ تناول وجوه المعنى ، فذلك الاتباع التام في مسائل الشريعة كافة ، الخبر والإنشاء ، فكان من ذلك عموم في التأسي والاقتداء ، كما تقدم من حال ابن عمرو ، رضي الله عنهما ، فإنه كان يكتب كُلَّ شيءٍ ، فَلَئِنْ كان من القرينة ما يُقَيِّدُ ، فذلك كَتْبُ ما له وجهٌ في الشريعة يَثْبُتُ ، إلا أن ثم آخر أعم بما يكون من اقتداء المحب ، ولو في أفعالِ الجبلة ، فيكون من ذلك مناط تعبد يُثَابُ فيه الفاعل ، لا أنه للفعل قد بَاشَرَ ، فهو فعل جبلة يستوي فيه الخلق كافة ، وإنما لمناطٍ أخص ، وهو الحب ، فذلك باعثه في الفعل ، فعل التأسي والاقتداء ، فالنفس مولعة بتقليد من تحب ، وهو ما يحمل العموم في حديث ابن عمرو على الحفظ ، فَهُوَ العام المحفوظ ، مِنْ هَذَا الوجهِ ، لا المخصوص الذي لا يُجَاوِزُ الشرع المنقول ، وهو ، أيضا ، كما في أول قد تَقَدَّمَ من نهي قريش ، فكلاهما مما يصدق فيه أنه العام الذي يراد به خاص ، فلم يكتب كل شيء ، على التفصيل آنف الذكر ، وإنما كتب خاصا وهو ما تناول مسائل الشرع إرادةَ حفظِها ، كما قَدْ نَصَّ في الخبر : "أُرِيدُ حِفْظَهُ" ، وهو في تأويل المفعول لأجله ، على تقدير : إرادةَ حِفْظِهِ ، والمضارعة ، كما تقدم في موضع ، مما به الصورة تُسْتَحْضَرُ ، فابن عمرو يحكي حاله التي اتصلت زَمَنَ التكلم ، وهو ما رُوِيَ مضارعا وقد انْقَضَى ، فكان من ذلك استحضار له بعد حدوثه ، فَثَمَّ مقام التكلم الذي يصدر عنه ابن عمرو ، وثم مقام الحكاية وهو ما يقصه غيره ، فهو يُخْبِرُ عنه وقد غاب ، فكان ابن عمرو يكتب فهو يريد حفظ ما كتب ، فحصل من المقام ما يميز المتكلم من الغائب ، والمتكلم من المخاطَب ، فلكلٍّ في اللسان وضع أول ، إِنِ البارزَ أو المستترَ في باب الضمير ، وَالْبَارِزُ هو الأصل ، وبه يُقَدَّرُ المستتر فهو فَرْعٌ عنه ، وقد يَنُوبُ بَعْضٌ عن بعض ، كما بَعْضُ من بحث هذه الظاهرة ، نِيَابَةَ الضمائرِ ، كما بعض من بحث هذه الظاهرة يضرب المثل بِنِيَابَةِ ضميرِ الجر عن ضميرِ الرفع في "لولاي" و "لولاه" ، فالقياس أن يقال : لولا أنا ، ولولا هو ، فتلك نيابة أولى في الباب ، نيابة المتصل عن المنفصل ، وعكسه نيابة المنفصل عن المتصل في نحو قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فالقياس أن يتأخر الضمير ويتصل ، فيكون من ذلك خطاب يتوجه إلى الرب المهيمن ، جل وعلا ، أن : نعبدك ، وهو ما يصح لفظا ومعنى ، ولكنه في باب التوحيد لا يجزئ ، إذ يقبل الشريك ، ولو احتمالا ، على تقدير : نعبدك ونعبد غيرك ، فكان الاحتراز أَنْ قُدِّمَ المفعول المتصل ، وَحَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ ، إذ المفعول تال في الرتبة واللفظ لما كان أولا من الفاعل والفعل ، فحصل من ذلك توكيد وحصر ، كما اطرد لدى أهل الشأن ، فذلك أصل يطرد في كُلِّ متأخِّرٍ إذا قُدِّمَ في الذكر ، سواء أكان الظرف أم غيره ، كما المفعول وهو ما يَتَأَخَّرُ ، فإذا قُدِّمَ فلا يكون ذلك إلا وثم ما يُسَوِّغُ من معنى يزيد أو آخر به اللفظ يَحْسُنُ ، كما فاصلة الآي المنزل في قوله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) ، فقدم الظرف "فِي نَفْسِهِ" وحقه أَنْ يَتَأَخَّرَ ، فهو ، من وجه ، يفيد التوكيد والحصر ، مع تعيين المحل الذي حصل فيه الخوف ، وذلك آكد في الدلالة ، فالخوف قد حصل في نفسه ، وهي محل العلوم والإرادات ، وعنها يصدر الظاهر من الحركات ، وذلك مما يتلازم في الحد ، فإن التصور الباطن أول وعنه حركات الظاهر تصدر ، وبينهما من الحركة الباطنة ما يجاوز التصور ، وهو ما يعدل في الإيمان حد التصديق الأول ، وهو المسبوق بالعرفان المجرد الذي يحصل في وجدان المخاطَب ، آمن أو كفر ، فَثَمَّ تَصَوُّرٌ أول لِمَا يُؤْمِنُ به أو يَكْفُرُ ، وثم تال من حركة الباطن ، وهي ما يكون من التصديق الجازم ، فذلك معنى أخص من أول يقوم بالجنان من مطلق التصور ، وهو الأعم ، فَثَمَّ أخص في الباب يَقْضِي في الأعم ، فالتصديق تَصَوُّرٌ وزيادةٌ ، إذ يكون من حركة الجنان ما يُرَجِّحُ في المعلوم الأول ، وهو ما لِلْجَائِزِ عند النظار يَعْدِلُ ، فالجائز مما استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فكان من حركة الجنان أخص من التصديق ، وهو ما يَقْضِي في أَعَمَّ من التصور ، فَثَمَّ دليلُ قبولٍ وإذعانٍ وانقيادٍ واستسلامٍ ، وتلك معان أخص تحصل في القلب ، فَتُرَجِّحُ الإثباتَ ، وثم أخرى تُرَجِّحُ ضِدًّا من النفي ، فيكون التكذيب ، وهو ، أيضا ، المرجِّح من خارج ، وله أمارات في الظاهر بما يكون من العداوة والبغضاء ، فإن المصدِّق يُحِبُّ وَيُوَالِي ، والمكذِّب يَكْرَهُ وَيُعَادِي ، وذلك مما اطرد في الحكم وانعكس ، فالجنان محل التصورات ومعدن البواعث الأولى التي عَنْهَا تصدر الإرادات ومن وَرَائِهَا تَالٍ من حركات الظاهر ، قَوْلًا وَعَمَلًا ، فَثَمَّ عرفان مجرَّد ، وهو في الوجود أول ، وهو الأعم الذي استوى فيه الخلق ، من آمن ومن كفر ، من صدَّق ومن كذَّب ، وثم تال أخص بما يكون من حركة في القلب تُرَجِّحُ ، فالعرفان المجرد جائز قد استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فيكون من المرجِّح : تصديقٌ أو تكذيبٌ ، ولكلٍّ : لازم عنه يصدر ، صدور المسبَّب عن سبب هو الأول ، فيكون من التسليم والانقياد والإذعان والاستسلام ، يكون من ذلك لازم لِمَا حَصَلَ من التصديقِ ، وثم آخر من إرادةٍ في الجنان تحدث ، وهي عمل يَبْطُنُ ، كما التصديقُ : حركةٌ في الوجدان تجاوز المجرَّد من العرفان ، فكل أولئك مما يَصْدُقُ فيه اسم العمل ، وَإِنْ خَفِيَ وَلَطُفَ ، فَلَمْ يُدْرَكْ بالحسِّ الظاهرِ ، كما القول والعمل في الخارج ، فَثَمَّ آخر من قولِ الجنانِ ، وذلك التصديق ، وثم عمل فيه يَثْبُتُ بما يكون من إرادةٍ تَحْدُثُ ، وهي عَنِ التَّصَوُّرِ فَرْعٌ أول ، فهي الحكم الباطن الذي يصدر عنه القول والعمل الظاهر ، إِنْ فِعْلًا أو كَفًّا ، فَثَمَّ من جنس الإرادة ما انْقَسَمَ في الخارج ، فمنه إرادة الفعل وهي لازم الرغبة بما يكون من وعد يصدق وَحُسْنٍ في الماهية يَجْمُلُ ، فَمِنَ الحسن باعث مباشرة وفعل لما يحسن ، وذلك قياس العقل المصرَّح ، فالحسن مما تَرْضَاهُ النفوس كَافَّةً ، بل من سلك ضِدًّا من القبيح ، فلا ينفك يَلْتَمِسُ له التأويل أنه الحسن الجميل ، ولو كان ظاهرَ الْقُبْحِ في الماهية والحد ، فلا ينفك يطلب من الجمل الرئيسة في الباب لحاءً يكسو به ما قَبُحَ من القول والعمل ، ولا ينفك يجد من المجمل ما به يَتَذَرَّعُ ، ولو في موضع جزئي يطلب التفصيل ، لا جرم كان من منهاج المحدِثة في الملة : الاستدلال بالعمومات المجملة في مواضع أخص لا تثبت إلا بالنص ، فَمَحِلُّهَا التَّوْقِيفُ ، وَذَلِكَ ما يطلب زِيَادَةً في الدليل ، فَمَا شُرِعَ عَلَى حَدِّ الإطلاق لا يلزم منه آخر حالَ التَّقْيِيدِ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، وهو يَتَنَاوَلُ الذِّكْرَ المحدَث ، فإن من حُجَجِ أصحابِه ، أدلة عامة في موضع أخص فهو يَفْتَقِرُ إلى دليل يَزِيدُ ، فكان من ذلك استدلالهم بإطلاق الأمر في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) ، فذلك الأمر الذي أُطْلِقَ ، وهو ما انْصَرَفَ ، بادي النظر ، إلى الإيجاب الملزِم ، وهو مما يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يكون ثم دليل يَصْرِفُ ، فَثَمَّ من جنسِ الذِّكْرِ وما وجب في الجملة ، ولا ينفك الإطلاق يجاوز المنصوص من الواجب كما ذِكْرٌ في الصلاة وهي الفرض ، فكان من حَدِّهَا في الاصطلاح أنها أقوال وأفعال مخصوصة تُفْتَتَحُ بالتكبير وهو ركن ، والتسليم وهو ، أيضا ، مِنَ الْأَرْكَانِ الَّتِي بِهَا تحصل ماهية الفعل في الخارج ، وهما من الذكر الواجب ، بل لهما من المنزلة ما يجاوز فهما الفرض اللازم ، وإلا ما حصلت الحقيقة في الخارج ، ولو أدنى ما تصدق فيه ، كركعة الوتر ، وهي أدنى ما يصدق فيه الاسم ، اسم الصلاة ، فَثَمَّ من الذكر ما فُرِضَ ، فهو ركن رَئِيسٌ من أركان الحقيقة في الخارج ، كما التكبير وكما التسليم ، وكما فاتحة الكتاب ، فلا تجزئ صلاة إلا بها ، على تفصيل في الباب يطلب من كتب الفروع ، إذ ثم نَفْيٌ قد تَوَجَّهَ في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»" ، وهو ما يحمل ، كما يقول أهل الشأن ، على نفي الحقيقة وذلك أول يستصحب حتى يكون ثم من القرينة ما يصرف ، فإذا تَعَذَّرَ حِمْلَانُ النَّفْيِ على الحقيقة وَجَبَ صَرْفُهُ إلى آخر وهو المجاز ، على قول من يُثْبِتُهُ في اللسان والوحي ، وهو ما تَفَاوَتَ فمنه القريب الذي يَتَبَادَرُ ، وذلك نَفْيُ الصِّحَّةِ ، فلا صلاة تصح لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب والذكر ، ومنه بعيد لا يظهر ، بادي النظر ، وذلك نَفْيُ الكمالِ ، فلا صلاة تكمل لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب المنزل ، فَإِذْ تَعَذَّرَ حملان النفي على الحقيقة ، فَثَمَّ وجود لها في الخارج قد ثَبَتَ ، وَإِنْ غَيْرَ مجزِئٍ في الخروج من عهدة الحكم ، فإن من الوجود ما يصدق فيه أنه الحسي ، وقد يواطئ آخر هو الشرعي وقد لا يواطئ ، فَمَنْ صَلَّى وهو محدث ، فَثَمَّ من حقيقة الحس ما ثَبَتَ في الخارج ، وليست تجزئ في ثُبُوتِ أخرى أخص من حقيقة الشرع إذ قد فات الشرط ، وهو الطهارة من الحدث .
فَإِذْ تَعَذَّرَ حملان النفي على الحقيقة ، فَثَمَّ وجود لها في الخارج قد ثَبَتَ ، فالواجب صَرْفُهُ إلى آخر من نَفْيِ المجاز ، فَنُفِيَ منه القريب الذي يَتَبَادَرُ ، وذلك نفي الصحة ، وهو ما يُسْتَصْحَبُ في النفي إِذْ تَعَذَّرَ استصحابُ أول ، وهو الأصل ، فذلك نفي الحقيقة في الخارج ، فَإِذْ تَعَذَّرَ ، فَثَمَّ نفي المجاز القريب من الصحة ، وهو ما حمل عليه النفي في الخبر آنف الذكر : "«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»" ، وثم نفي المجاز البعيد من الكمال ، وهو ما حَمَلَ بَعْضٌ النَّفْيَ في الخبر عليه ، فَقَدْ فَاتَ ما يصدق فيه أنه الواجب ، فالكمال ، أيضا ، جنس عام يَتَنَاوَلُ آحادا في الخارج ، فَثَمَّ نفي الكمال الواجب ، وثم آخر من نَفْيِ الكمال المستحب ، ونفي الكمال الواجب هو ما يَتَبَادَرُ حَتَّى يكون ثم قرينة تصرف إلى آخر من المستحب ، فهو مما لا يظهر ، بادي الرأي ، فَثَمَّ مَنْ نفى الصحة وهم الجمهور ، وثم من نفى الكمال الواجب ، وهو مذهب الحنفية رحمهم الله ، فالفاتحة عندهم من الواجب الذي ثَبَتَ بدليل ظني وهو خبر الآحاد ، فلا يقضي في عام متواتر من آيٍ قد أَطْلَقَ في الذكر ، فـ : (اقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، فذلك مما يجزئ في الخروج من عهدته : تلاوةُ أَيِّ آيٍ سوى الفاتحة ، وذلك المتواتر القطعي في ثبوته ، ولهم من الأصول ما يمنع قضاء الآحاد في المتواتر ، ولو بالتخصيص لا بالنسخ ، فلا يخصص العام المتواتر عندهم بالآحاد ، فالخبر آحاد قد أوجب فاتحة الكتاب ، والآي متواتر ، وإن كان عاما في دلالته ، فلا يقضي فيه الخاص من الخبر ، بل كلاهما مما يستصحب في الباب ، فيكون ذلك من إعمال الأدلة فهو أولى من الإهمال ، فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ ، أَنَّ مَا تَيَسَّرَ سوى الفاتحة يُجْزِئُ في الخروج من عهدة الصحة ، وإن لم يَخْرُجْ به القارئ من عهدة الواجب ، فَتَرْكُهُ مِمَّا يَقْدَحُ في الكمال الواجب لا في أصلِ الصحة ، فليس بالفرض ، إذ الفرض عندهم جنس أخص من الواجب ، فلا يثبت الفرض إلا بدليل قاطع ، خلاف الواجب الذي يثبت بدليل ظني ، كما خبر الآحاد آنف الذكر أَنْ : "«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»" ، فَفَاتَ تاركَ الفاتحة ، فَاتَهُ الواجبُ فصلاته صحيحة ولو أَثِمَ بِتَرْكِ الواجب ، إذ تَرْكُهُ لا يأتي على أصل الصحة بالإبطال ، ولم يَفُتْهُ الفرض ، فحصل له من ذلك ما يصدق فيه الحد ، حد الصلاة الصحيحة ، ولو ناقصةً ، لا جرم تأولوا النفي في الخبر أنه نفي الكمال الواجب لا الفرض اللازم ، وكان لهم من ذلك إعمال الدليلين فهو خير من الإهمال ، فالدليل المتواتر : (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، ذلك مما يجزئ في حصول أول من الصحة دون تال من الكمال الواجب ، فذلك مما لا يحصل إلا بفاتحة الكتاب النازل ، فجمعوا بين الاثنين ، إذ العام عِنْدَهُمْ قطعي الدلالة كما الخاص ، فكيف والعام في هذا الموضع قطعي الثبوت فهو من المتواتر ، فلا يَقْضِي فيه آخر دونه من ظني الثبوت من الآحاد ، ولو كان قطعيَّ الثبوتِ ، فَلَا يَقْضِي فيه ظَنِّيُّ الثبوتِ إلا أن يكون من دليل التخصيص للمتواتر : متواتر مثله ، فهو يُضْعِفُ دلالته ، وَيُصَيِّرُهُ بَعْدًا قابلا للتخصيص بما هو أَضْعَفُ من خبرِ الآحاد ، فلا يَقْوَى الأخير أن يخصصه حال الابتداء ، والجمهور على ضِدٍّ ، فإن العام ظني الدلالة ، وهو ما يعدل في الحد : الجائز لدى النظار ، وذلك مما استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وهو الدليل الصارف إلى ضِدٍّ من المؤول ، وهو الخاص الذي يقطع في الدلالة ، فالخاص لدى الجمهور قَاضٍ في العام ، ولو كان الأول ظني الثبوت والثاني قطعي الثبوت ، إذ الأول قطعي الدلالة والثاني ظني الدلالة ، والعبرة في المعاني بالدلالة لا بالثبوت ، فيجزئ من الأخير ما به الصحة تَثْبُتُ ، ولو ظنا يَرْجُحُ ، كما خبر الآحاد إذا صَحَّ أو حَسُنَ ، فكلاهما يجزئ في الاستدلال وبه المعنى يثبت ، وإن تَفَاوَتَا في الدرجة ، فَثَمَّ أول من الخبر يوجب التَّوَقُّفَ احترازا في الرواية الدينية وهي مما به الْبَلْوَى تَعْظُمُ ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ ، كما آي من الذكر يَنْصَحُ ، فـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، فَثَمَّ تَوَقُّفٌ حتى يكون ثم تال من التَّبَيُّنِ ، إلا أن يكون من حال الناقل ما يكمل ، فهو العدل الضابط ، وذلك من شرط الصحيح واحد ، كما حده أهل الشأن ، فَلَهُ من الشرط : الاتصال ، وعدالة الناقل ، وضبطه ، مع سلامة من اثنين : الشذوذ والعلة القادحة ، وهو ما يصدق فيه ، من وجه ، أنه اشتراط إيجاب وسلب ، فإيجاب في شرط الاتصال والعدالة والضبط ، وسلب في نفي الشذوذ والعلة القادحة ، مع آخر يصدق فيه أنه عطف العام على الخاص ، فإن الشذوذ خاص ، والعلة القادحة عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ سَبَبٍ يَقْدَحُ في صحة الحديث ، ظهر أو خفي ، وإن خصت العلة لدى أهل الشأن بوصف الخفي لا الظاهر ، وكذا يقال في الشذوذ والنكارة ، فَثَمَّ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَهِيَ مخالفة الراوي لمن هو أوثق ، وثم من خص الشاذ بمخالفة الثقة ، والمنكر بمخالفة الضعيف ، فَإِذَا ثَبَتَ الخبر وَصَحَّ فاستوفى الحد آنف الذكر ، إن في الإيجابِ أو في السلبِ ، فإذا كان ذلك فهو مما يُسْتَصْحَبُ ، فالخبر في الاحتجاج يجزئ ، ولو ظَنِّيًّا يَرْجُحُ ، فليس يجزم الناظر بِصِحَّتِهِ في نَفْسِ الأمرِ ، إذ ليس من المتواتر الذي يحصل به القطع ، وإن كان من الآحاد ما يجاوز الظن إلى العلم ، لا علم الضرورة الذي يفيده المتواتر بادي النظر ، فهو مما استوى فيه الخلق كافة ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى نَظَرٍ زَائِدٍ ، وإنما الآحاد قد يجاوز أولا من الظن الراجح ، فَيُفِيدُ العلم لا تحكما وإنما بما احْتَفَّ به من القرائن ، وذلك عمل في العقل زائد ، لا جرم اخْتُصَّ به أهل الشأن ، فذلك العلم النظري الذي لا يحصل لكلِّ أحدٍ ، فلا يحصل إلا بِنَظَرٍ يَزِيدُ لا يحسنه إلا أهل الفن ، وذلك ما اطرد في العلوم والفنون كافة ، إذ ثم فِيهَا تَوَاتُرٌ أخص لا يحصل إلا لأهل الشأن ، إذ يثبت عندهم ويتواتر ما لا يحصل نظيره لدى غيرٍ ، والآحاد ، مع ذلك ، مما يجزئ في الاستدلال ، ولو ظَنِّيًّا يرجح ، فذلك ما يعدل في الاستدلال : الظاهر الذي يُسْتَصْحَبُ مع احتمال ضِدٍّ من المؤول ، فلا يصار إليه ، بادي النظر ، إلا أن يكون ثَمَّ من القرينة ما يصرف ، وإلا كان التحكم في الباب : ترجيحا بلا مرجح ، بل ترجيحًا لما هو ابتداء المرجوح ، فالترجيح في الجائز وقد استوى طرفاه مما لا يسلم لصاحبه إذ ثم من الدعوى ما يفتقر إلى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ ، وهي من خارج تُرَجِّحُ ، فكيف بالمرجوح في مقابل الراجح ، فالمصير إلى الأول يفتقر إلى البينة من باب أولى ، وإلا كان تحكم آخر ، وهو في النظر أفسد ، فيرجح الناظر المرجوحَ بلا دليل يَصْرِفُ عن أصل أول يُسْتَصْحَبُ من ظاهر يَرْجُحُ ، فذلك تحكم بدعوى مجردة من الدليل ، بل قد صَيَّرَهَا صاحبُها الدليلَ ، فكان من ذلك فساد آخر إذ يصادر على المطلوب ، فيحتج للدعوى بعينها ، وهي صورة الخلاف التي يُسْتَدَلُّ لها لا بها ، فلا يكون من دعوى التضعيف بعد ثبوت الصحة المعتبرة أو الحسن ، لا يكون منها ما يجزئ في الاستدلال حتى يقيم صاحبها البينة التي تشهد بفوات شرطٍ من الصحيح ، فالتوقف أولا مما به الاحتراز في نَقْلِ الأخبار الدينية ، ثم الإثبات تاليا لا تحكما في الدعوى أَنْ تَصِيرَ هي الدليل على نَفْسِهَا ، وإنما بما كان من بَيِّنَةٍ من خارج تَشْهَدُ ، وهي شرط صحة تَنْصَحُ ، وبها زِيدَ في وصف الخبر أنه الصحيح أو الحسن ، فاستصحب من ذلك أصل تال ، وإن ظاهرا يَرْجُحُ ، فصاحبه في الحكم لا يَقْطَعُ ، وإنما أَجْزَأَ ظَاهِرًا في الباب يُسْتَصْحَبُ حتى يكون ثم من الدليل ما يُرَجِّحُ ضِدًّا من المؤَوَّل ، فَيُقِيمُ المخالِف بَيِّنَةً تَقْدَحُ فِي الصحة أو الحسنِ المستصحَبِ ، وإلا فهما في الاستدلال يجزئان ، وإن تَفَاوَتَا في الدرجة ، فذلك مما يصار إليه حال الترجيح بَيْنَهُمَا إِذَا تَعَذَّرَ الجمع ، وهو ، كما تقدم ، الأولى ، فالإعمال أولى من الإهمال ، فإذا تَعَذَّرَ الجمع بين صحيح وحسن ، فالصحيح يَرْجُحُ الحسنَ ، وإن كان كلاهما في الباب يجزئ ، باب الثبوت ، وكذا إذا تعذر الجمع بين عام وخاص ، فالخاص يرجح إذ يقضي في العام بالتخصيص ، وإن كان كلاهما في الباب يجزئ ، باب الدلالة ، وهو ما سلك الجمهور في هذا الموضع ، موضع الفاتحة ، فالخاص من خبر الآحاد : "«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»" ، يقضي في العام المتواتر من آي الذكر المحكم أَنِ : (اقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، وهو ما يصدق فيه ، أيضا ، إعمال كِلَا الدليلين ، بل ليس ثم تعارض ، بادي النظر ، فلا تعارض بين عام وخاص في الدلالة ، إذ الخاص في الباب أقوى فهو قاض في العام ، وإنما يكون التعارض بين اثنين قد استويا في الدرجة ، فيكون التعارض بين عام وعام ، أو خاص وخاص ، لا جرم لم يصير الحنفية المسألة من هذا الوجه ، وإلا لزمهم التخصيص آنف الذكر ، وإنما صيروا العام قطعيا كما الخاص ، فصار ذلك تعارضا في الباب ، وإن قالوا بعد ذلك بالجمع إعمالا فهو أولى من الإهمال ، فأعملوا المتواتر في الخروج من عهدة الصحة الأولى ، وأعملوا الآحاد في الخروج من عهدة الكمال الواجب وهو تال بعد حصول الصحة مبدأَ النظر ، كما يُقَالُ في باب الإيمان ، فإن منه أولا وبه حصول أدنى ما يصدق فيه اسم الإيمان في الخارج ، ومنه تال يزيد ، فذلك مما يحصل به الكمال الواجب ، فالأول يَخْرُجُ بِهِ صاحبُه من عهدة الكفر الناقض لأصل الملة ، والثاني يخرج به صاحبُه من عهدة القادح في الكمال الواجب لا الأصل الجامع ، كما لا يكون تعارض بين المتواتر والآحاد في الثبوت ، وإنما يكون بَيْنَ متواترٍ ومثلِه ، أو خاص ومثله ، فَشَرْطُ التَّعَارُضِ بَيْنَ دليلين أَنْ يَسْتَوِيَا في الدرجة ، إن في الثبوت أو في الاستدلال ، وهو ما يرد عجز كلام إلى صدر تقدم ، فإن الأمر بالذكر المطلق كما في آي من الذكر المحكم أَنْ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) ، ذلك مما لا يجزئ في مواضع أخص ، إذ كان فيها النص على ذكر مخصوص ، كما ذكر الصلاة ، وهو ، لو تدبر الناظر ، جنس عام يتناول آحادا في الخارج ، فمنه الفرض ، كما تكبيرة الإحرام والتسليم والفاتحة ، على تفصيل تقدم ، ومنه الواجب كما التسبيح في الركوع والسجود ، ومنه المستحب كما الزيادة في الحد ، حد التسبيح ، فالواجب منه مرة وبه يخرج المصلي من العهدة ، إذ يجري مجرى المطلق الذي يخرج المكلَّف من عهدته أن يأتي منه في الخارج بأدنى ما يصدق فيه الاسم ، وهو المرة ، فهي أدنى ما تحصل به الحقيقة في الخارج ، فالواجب مرة ، وأدنى الكمال ثلاث ، وأعلاه عشر ، فما زاد عن المرة فهو المستحب ، وكذا يقال في دعاء بخير ، إِنْ في دين أو في دنيا ، فذلك ما اسْتُحِبَّ ، ولو استحبابًا أَعَمَّ ، إذ ليس ثم فيه نَصٌّ أخص ، وذلك محل الشاهد في بابِ الذِّكْرِ ، فإن ما شُرِعَ عاما ، فليس يزيد فيه المكلَّف هَيْئَةً خاصة من القول والعمل إلا أن يكون ثم نص يُبَيِّنُ ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بالعام في موضع خاص ، فيزيد المكلف من ألفاظ الذكر وهيئاته المخصوصة ما يَفْتَقِرُ إلى الدليل ، كأن يخصص زَمَنًا بعينه ، فيجعل له من الذكر لفظًا بِعَيْنِهِ ، فتلك زيادات في بابِ تَوْقِيفٍ ، فلا تثبت إلا بدليل ، وإلا كان التحكم آنف الذكر ، تخصيصا بلا مخصِّص ، فهو من جنس الترجيح بلا مرجِّح ، وليس ذلك مما في الاستدلال يَنْصَحُ ، فَلَئِنْ شُرِعَ الذكر مطلقًا في كل وقت ، فإن التقييد بِزَمَنٍ أو هيئةٍ مما يَفْتَقِرُ إلى دليلٍ بِعَيْنِهِ ، فلا يُحْتَجُّ بالعام أو المطلق في موضعِ تخصيصٍ أو تقييدٍ ، كما لا يستدل الناظر بما شُرِعَ من نافلة الصلاة ، أن يزيد فيها صلاة مخصوصة بزمن أو هيئة ، فذلك مما يفتقر إلى دليل أخص ، فلا يحتج بذلك في نافلة في وقت نهي ، فإن الدليل النادب إلى النافلة : دليل عام ، ودليل النهي عن الصلاة في أوقات : دليل خاص ، فلا يستصحب الأول فيكون منه ما يسوغ النافلة في وقت النهي ، إذ ثم منه دليل أخص يَنْهَى عن الصلاة في هذا الوقت ، وإن كان ثم آخر يَقْضِي في عموم النهي ، فالنافلة التي تحرم في وقت النهي هي المطلقة بلا سبب ، لا المقيدة من ذوات الأسباب ، على تفصيل في الباب يطلب من كتب الفروع ، ومحل الشاهد أن الاستدلال العام لا يجزئ في مواضع التخصيص إذ تَفْتَقِرُ إلى دليل في الباب يزيد ، فلا يحتج بالأمر المطلق أَنْ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) ، وهو ما يوجب ، بادي النظر في دلالة الأمر في لسان العرب ، وهو مما استصحب في أصول الاستدلال الشرعي ، إذ يعالج منه النص العربي الذي نَزَلَ بِلِسَانِ القوم ليبين لهم الخبر والحكم ، فذلك أصل عام يستصحب في الرسالات كافة ، فـ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ، لا جرم كان لسان الجيل الأول في كلِّ رسالةٍ هو معيار الاستدلال ، إذ نَزَلَ به الوحي ، وهم أعلم به من غَيْرٍ ، إن العلم بِلِسَانِهِ فهو لسانهم الذي حصل لهم ضرورة لا تفتقر إلى نظر يزيد من التجريد ، تجريد قواعد النطق من المعجم والنحو والصرف والبيان ، فتلك علوم قد حدثت في الجيل المتأخر ، إذ قد فَسَدَ منه النطق بما كان من عجمة ولحن ، فَصَارَ الضروري الذي يباشره الجيل الأول بلا كُلْفَةٍ ، صار نظريا يتناوله المتأخر بالنظر والدرس ، لا جرم كان للأول على الثاني درجة ، مع آخر يزيد فالجيل الأول قد شهد التنزيل ، ولم يشهده المتأخر ، وإن كان من النقل ما يَصْدُقُ ، فليس كمن عاين وباشر بنفسه ، إذ أَفَادَهُ ذلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، عقل المعنى ، فإن الكلام مجموع يأتلف من كلمات لها مدلول أول ، وهو ما يجرد المعجم المفرد إذ يجتهد في استقراء المواد المتداولة من الألفاظ ، فَيَمِيزُ المستعمل من المهمل ، وهو بحث احتمال في تأليف الألفاظ من الحروف ، كما صنع الخليل ، رحمه الله ، في "العين" ، فاستقرأ وجوه الاحتمال في تأليف الألفاظ من الحروف المقطعة ، فَثَمَّ ماد من النطق أولى ، وهي أصوات مقطعة ، لها من المخارج ما يميز ، وهي مما يصدر من العاقل وغيره ، وإن كان للعاقل منها ضبط أدق ، إذ ثم من صوته ما يصدر بالإرادة والقصد ، وذلك ما يميز المكلف من غير ، فَثَمَّ من درس الصوت ما تناول المخارج والصفات لحروفٍ هي المقطَّعات التي تُنْطَقُ مُفْرَدَةً ، فيكون من تَتَبُّعِ المجرى ، مجرى الهواء في جهاز النطق ، وما يَنْتَهِي إليه في كل حرفٍ ، يكون من ذلك ما يميز المخارج ، من الحلق إلى الشفة ، وبينهما تجويفُ الفمِ ، واللثةُ ، وذلك أول ما يتناول الباحث في ظاهرة الكلام التي اختص بها العاقل ، فهي ، كما تقدم في مواضع ، مما يجاوز المنطق الظاهر ، حرفا مقطعا أو كَلِمًا مُتَّصِلًا أو سياقا مُرَكَّبًا ، مذكورا أو مقدرا ، فكل أولئك مما يظهر ، وله أول في الوجدان يبطن ، فذلك منطق العقل الذي رُكِزَ في الجنان فهو يحكي خاصة الروح التي تلطف ، فثم من المعنى ما جاوز المادة المدركة بالحس من الجسد وآلاته ، ومنها آلة الصوت التي تحكي ما يقوم بالنفس من المعنى ، فالمعنى هو مراد المتكلم ، ولا يكون ذلك إلا أن يكمل العقل ، فيجاوز غَرَائِزَ الحس ، فلا يكون منه استجابة لمؤثر من خارج تتناوله المدارك الظاهرة ، فذلك ما استوى فيه الإنسان وسائر الأنواع ، وإنما امتاز الأول بما كان من عَقْلٍ قد اكتمل ، وهو مناط تكليف من الدين والأخلاق ، من الأمر والنهي ، وما يكون من أوصاف الحسن والقبح التي رُكِزَتْ فِي الوجدانِ مجملةً ، ولها الشريعة قد جاءت مُبَيِّنَةً ، فَثَمَّ من الشرع المصحَّح ما واطأ المركوز في النفس من العقل المصرَّح ، فلا ينفك إجمال الأحكام العقلية في باب الحسن والقبح ، لا ينفك يطلب تاليا يبين ، ولا يكون إلا من مرجعٍ من خارج يجاوز العقل والحس ، وهو ما احتالت الحداثة أن تجحده ، فاقترحت آخر من المرجع المجاوز ، وهو عقل الجمع ، فيصدق فيه أنه الموضوعي المجاوز لعقل الفرد ، ولكنه لا ينفك يطلب آخر يجاوز ، فإنه لا يسلم ، كما عقل الفرد ، من العوارض ، فَثَمَّ نقص قد ثبت ضرورة ، وجهل بالمآلات وما كان من البدايات ، وإن ثبت من ذلك شيء فهو المجملات ، كما قصة الخلق الأولى ، فالمبدأ في إثباتها مجمل ضروري في الوجدان أن المحدَث لا بد له من محدِث يسبق ، وأن ذلك مما يتسلسل فيجاوز المشهود من الأسباب إلى المغيَّب ، وهو ، أبدا ، يطلب الأول الذي لا أول قبله ، فذلك مما وجب ضرورة في النظر حسما لمادة في الوجدان تمتنع ، وهي التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلو سُلِّمَ بها جدلا ، لأفضى ذلك إلى العدم ، إذ ليس ثم أول عنه تصدر العلة التامة التي لا تفتقر إلى سبب من خارج ، بل المحَالُّ والأسباب كافة إليها تَفْتَقِرُ ، فذلك مما ثَبَتَ ضرورةً في العقل ، وتلك مقدمة أولى في النظر المصرح إذ يتناول قصة الخلق المحدث ، فكان من ذلك ضرورة لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط ، وهي ، مع ذلك ، مما افتقر إلى المبيِّن ، مرجعا من خارج يجاوز هذا العالم ، فمن خلقه فهو غيره ، إذ لم يخلق نفسه بداهة ، ولم يخلق من غير شيء ، فيكون هذا العالم ، ولو مطلق الحدوث الأول ، يكون بلا محدِث له يسبق ، فذلك مما يجافي المعيار الناصح لدى كل عاقل ، إذ المحدَث لا بد له من محدِث ، والمحدِث ، بداهة ، غير المحدَث ، فخالق هذا العالم غيره ، فليس هو ، كما آخر قد اقترحت الحداثة ، من مادة حلول واتحاد تروم إنكار الغيبيات ، فثم اتحاد المادة بالمعنى ، وصيروة الأولى هي الحقيقة التي يباشرها الناظر ، فلا حقيقة لها من المعنى تجاوز ، بل الحس قد تناول المادة فصار من ذلك مرجع أوحد به المعارف تثبت ، وكان من ذلك تحجير لواسع من المصدر والمرجع ، فإن من مصادر المعرفة ، كما يقول أهل الشأن ، ما تَنَوَّعَ ، فالحس مصدر لا يجحد ، ولكنه ليس في الباب الأول ، وليس ، من باب أولى ، الأوحدَ ، فَثَمَّ من العلم ما يجاوزه ، إذ له من الحد ما يأطره ، فإذا جاوز البحث مداركه وَجَبَ عليه التوقف ، فلا ينفي ولا يثبت ، ولا يتحكم في الباب أن يجعل عدم العلم دليلا على العلم بالعدم ، فذلك الغرور والفرح بما كان له من ظاهرِ علمٍ لا يجاوز الحياة الدنيا ، فلا يجاوز مدارك الحس الدنيا ، وتلك حكايةُ مَذْهَبٍ قَدْ تَنَاوَلَ من الإنسان الجسدَ ، وهو جزء من الماهية لا يُجْحَدُ ، ولكنه ، أيضا ، ليس الأول ، وليس الأوحد من باب أولى ، بل ثم من الحقيقة الإنسانية ما ائْتَلَفَ فَتَرَاكَبَ من روح هي محل المعنى ، وجسد هو المادة ، فَثَمَّ قسمة في الباب تستغرق : المعنى الذي يلطف في حد ، والمادة التي تَكْثُفُ في آخر ، فَلَيْسَا يتحدان ، فيضمحل المعنى في المادة ، وتصير هي الحقيقة الثابتة في الخارج ، فلا حقيقة لها تجاوز ، فيكون من الحس مرجع واحد في الإثبات ، فما جاوزه فهو المعدوم ، والصحيح أنه المجهول ، إذ ثم من الغيوب ما جاوز مدارك الحس ، فهو يجهلها ، وليس جهله بها حجة على من علم ، إذ قد تَنَاوَلَ الغيوبَ من مصادر أخرى للمعرفة ، وهي ما جاوز الحس ، فثم آخر قد وسع ما لم تسع الحداثة إذ تحكمت فحجرت الواسع ، فثم مقدمات العقل المصرح ، وثم فطرة أولى تنصح ، وهي جمل من العلوم الضرورية التي لا تفتقر إلى نظر أو استدلال ، لا جرم ضاهت من هذا الوجه : مقدمات العقل فهي مبادئ ضرورة في النظر ، وبها حصول النَّتَائِجِ إِذْ تَأْتَلِفُ ، فالعقل يَنْظِمُ المقدمات الأولى في سلك جامع ، فيكون من ذلك علم نظري تال ، فالمبدأ : ضروري أول ، وذلك مما يحصل بالاستقراء ، استقراء الأدلة من خارج ، والحس واحد منها ، فَثَمَّ آخر يجاوز في باب غيب لا تدركه الحواس ، وجهلها ، كما تقدم ، ليس بحجة على من يعلم ، فقد يكون من العلم ما يثبت بآخر يجاوزها ، وذلك الخبر ، فذلك مرجع من خارج العقل والفطرة والحس ، وهو رابعها في القسمة ، قسمة المصادر التي بها تنال العلوم والمعارف ، لا كما حجرت الحداثة الواسع ، فَقَصَرَتِ المصادرَ والمراجعَ على الحس ، إذ حجدت آخر من القسمة ، وهو المعنى ، فقد حَلَّ واتَّحدَ بالمادة ، وكانت تلك ذريعة بها جحدت الوحي ، وهو مرجع المعنى المجاوز من خارج .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 5 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 02-28-2024 - 04:56 PM ]


فقال بعض بالاتحاد إذ أَنْزَلَ المعنى من السماء إلى الأرض ، فكان من اتحاد المطلق الأعلى بالمادة ، مادة هذا العالم المحدَث ، فَلَيْسَ ثم من خارج المرجع الذي يجاوز وهو ما يمتاز من الأدنى حكايةَ ضرورةٍ في القياس تَثْبُتُ إذ بها امتياز المعنى الأعلى من المادة الأدنى ، وكذا امتياز ما لطف من روح تسري في الجسد الكثيف ، وبهما حقيقة الإنسان في الخارج تحصل ، وهما ، مع ذلك ، مما امتاز في الحقيقة والحد ، فلم تَفْنَ الروح في الجسد ، ويكون من الحقيقة في الخارج مادة جسد هي الوجود حصرا ، وإن كان مآلها تاليا أن تَفْنَى ويضمحل ، فإذا فارقته الروح فهو يفسد ، وإن كان من الروح آخر قد حدث ، فهو المخلوق من العدم ، تصديقا لما كان أولا من التقدير المحكم ، فذلك ما استغرق أجزاء القسمة في الخارج : الروح والجسد ، وكلاهما مما كُرِّمَ به الإنسان المكلَّف ، وإن جسدا هو المادة ، فثم من الخلقة ما امتاز من غير ، فكان له منها تقويم هو الأحسن ، وذلك ، أيضا ، ما عم الروح والجسد ، فالأولى لها من التقويم الأحسن أن صارت محل التكليف المنزل بما يكون من تصور واعتقاد أول ، ودرك لمعان تلطف فهي تجاوز مدارك الحس المحدَث ، فثم من العقل حكاية لها تنصح ، وهو الغريزة معنًى لا الجوهر مادة ، فالعقل غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، فَلَيْسَ الدماغ الذي يحكي مادة في الخارج يعالجها الحس ، فيكون من ذلك ما يرصد من إفراز ونبض ، فالعقل اللطيف طور يجاوز الدماغ الكثيف ، كما الروح اللطيف طور يجاوز الجسد الكثيف ، وإن كَانَا جميعا من الخلق المحدَث ، وبه حد آخر لكلام العاقل يثبت ، فإن منه المعنى الذي يقوم بالعقل ، واللفظ الذي يحصل بآلة نطق تدرك بالحس ، ومبدؤها الدماغ فهو واسطة بها تأويل المعاني القائمة بالعقل ، وهو ما يحدث في الخارج فَيُدْرَكُ بالحسِّ الحادث ، ومنه كلام يصدر من آلة نطق بما أُتْقِنَ من خِلْقَتِهَا وَأُحْكِمَ من سُنَّتِهَا ، وهو مما يدرك بالحس ، فيكون منه ما يسمع ، وإن افتقر إلى تال من المرجع يلطف ، فهو يميز من الصوت : المستعملَ في الكلام المفهِم من المهمل فلا يجاوز في الحد صوتا يصدر ، فحصل من ذلك فرقان يميز : المعنى القائم بالنفس من اللفظ الحاصل بالنطق ، وإن كان منهما قسيمان لحقيقة من الكلام تثبت ، فهي : المعنى المعقول واللفظ المحسوس ، فهو المنطوق المسموع ، وكل مما يدرك بالحس ، لا المعنى فهو مما يَلْطُفُ ويخفى إذ يقوم بالنفس ، فلا يدرك إلا بدليل من خارج يشهد ، وهو ما جاوز في حَدِّ الكلام ما يُنْطَقُ وَيُسْمَعُ ، فصدق في المكتوب الذي يُسْطَرُ أنه كلام ، فهو يُقْرَأُ ، وصدق في إشارة العين وحركة الجسد أنها لسان يفصح ، وإن خَفِي نطقه ، فكل أولئك من دليل الخارج الذي يحكي أولا في النفس يحصل ، وهو المعنى الذي يلطف ، فكان من ذلك قسمة تميز المعقول من المحسوس ، وإن تَقَاسَمَا حقيقة الكلام في الخارج ، كما الروح اللطيف والجسد الكثيف فهما يتقاسمان حقيقة الإنسان في الخارج ، وإن امْتَازَا ، كما تقدم ، وإلا ما فارقت الروح الجسد ، فحصل بذلك موت به الجسد يفسد ، فإن سبب حياته ما لطف من الروح وخفي ، فالمعنى أبدا يخالف المادة ، فلكلٍّ من الحد في الخارج ما يميز ، فلم يَتَّحِدِ المعنى بالمادة ، فيفنى فيها ويضمحل ، فيكون من الحقيقة في الخارج مادة تدرك بالحس ، فليس ثم ما يجاوزه في المرجع ، كما اقْتَرَحَتِ الحداثة إذ لا تجاوز في التصور والحكم والغاية ما يدرك بالحس من عالم الشهادة ، فلا تُقِرُّ بغيب يجاوز ، فذلك مما افتقر ضرورةً إلى مرجع من خارج يجاوز ، فكان من الخبر من خارج ما يجاوز الحس ، فالمعنى يجاوز المادة ، ولكلٍّ من المرجع ما يميز ، ولكلٍّ من المحل ما يعالج ، فالمادة يعالجها الجسد بالحس ، والمعنى تعالجه الروح بالعقل ، فَامْتَازَا من هذا الوجه ، فالروح تخالف الجسد ، فَلَمْ تَفْنَ الأولى في الثاني وتضمحل ، فيكون من الحقيقة في الخارج جسد هو الأصل ، فلا حقيقة تجاوز الحس ! ، بل ثم من الروح ما جاوز وله من المرجع ما يجاوز ، فذلك الوحي بما صَدَقَ من أخباره وعدل من أحكامه ، فَبَطَلَ ، من هذا الوجه ، اتحاد ووحدة بها المعنى يفنى في المادة ، أو الروح في الجسد ، وهو ما عَمَّ به بَعْضٌ الخلقَ كلَّه ، فكان من الوجود واحد بالعين ، فَقَدِ اتحد الخالق ، جل وعلا ، بالخلق ! ، فليس منها إلا مظاهر لحقيقة واحدة لا تَتَعَدَّدُ ! ، كما مقال من الحلول والاتحاد ماضٍ ، وله في دين الرسالة الخاتم رجالات إليه قَدِ انْتَسَبُوا ، وإن خرجوا بذلك ومرقوا إذ خالفوا عن معلوم ديني ضروري ، يميز ، بداهةً ، الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، وهو ما يواطئ قسمة العقل الناصح ، فإن الوجود ، وهو الجنس الدلالي المجرد في الذهن ، ذلك مما يَنْقَسِمُ ضرورة في الخارج ، إذ لا وجود لمطلق كلي في الخارج فلا يوجد إلا مقيدا بحقيقة تستقل ، فيكون من إضافته إليها ما يعدل في درس اللسان : إضافة الوصف إلى الموصوف ، فهو المعنى الذي يقوم بالذات ، فَدَرْسُ اللسان ، لو تدبر الناظر ، يحكي منطقَ باطنٍ يَنْصَحُ في وجوه الاستدلال كافة ، فليس الكلام ظاهرة تقتصر على النطق ، بل ثم من المعنى ما لطف في الحد ، فهو يقوم بالعقل الذي يحكي ماهية الروح ، وهي شطر أول في حقيقة الإنسان المكلَّف ، فالجسد لها قسيم ، كما المادة قسيم المعنى ، فكان من ذلك ما ثَبَتَ ضرورةً في الجنان ، أن ثم كليات جامعة في الدلالة ، وهي المجردات في الذهن ، وما يحكيه اللسان بَعْدًا من إضافة هذه المجردات إلى ذوات في الخارج تقوم بها ، فيكون من ذلك إضافة الوصف إلى الموصوف ، فلا وصف يقوم بذاته في الخارج ، بل ثم من الذات ما يُقَيِّدُ ، وهو إليها يَرْجِعُ ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، كما يقول بعض من حقق ، فَدَرَكُ الماهيةِ في الخارج وهو ما يجاوز التجريد في الذهن إذ يقتصر في الإثبات على المعنى المطلق ، دَرَكُ الماهية في الخارج ، ماهيَّةِ الوصفِ ، فَرْعٌ عن دَرَكٍ أَوَّلَ لِلذَّاتِ الَّتِي يَقُومُ بها المعنى ، فإذا لم يُدْرِكِ الحسُّ حقيقةَ الذات في الخارج ، فهو لُزُومًا في النَّظَرِ المصرح ، لا يُدْرِكُ حقيقةَ المعنى الذي يقوم بها ، وإن كان ثم إثبات في الباب ، باب الغيب ، فلا يجاوز المعاني المجردة في الذهن ، إِنْ فِي الذَّاتِ أو فِي الوصفِ ، وهو ما عَمَّ مسائلَ الغيبِ كَافَّةً ، وَإِنِ الواجبَ لدى المبدإ في قياس العقل المصرح ، كما إثبات الأول الذي إليه تَنْتَهِي المحالُّ والأسباب كَافَّةً حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا فلا بد من انْتِهَائِهَا إلى أَوَّلٍ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فهي عنه تصدر صدور المفتقِر إلى الغني الذي يُغْنِيهَا فَيَمْنَحُهَا من ذلك وصف الغنى لا الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وإنما هو الغنى بإغناءٍ لَهُ من السبب ما يجاوز من خارج إذ ليس ثم من يُوصَفُ بالغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ليس ثم من ذلك وصفه إلا الرب المهيمن ، جل وعلا ، فالجائز يفتقر إلى موجِب من خارج ، وثم من ذلك ما جَاوَزَ مُطْلَقَ الوجودِ الأول ، فَثَمَّ الترجيح الذي يوجِب ، وبه يصير الجائز المحتمل واجبا لا لِذَاتِهِ ، وإنما لِغَيْرٍ إذ كان ثم مرجِّح من خارج ، وإلا كان التَّحَكُّمُ الَّذِي يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ ، وهو مما يخالف ، أيضا ، عن العقل المصرح ، والجائز بَعْدًا يَفْتَقِرُ إلى المقدِّر الأول ، فلا يكون من ذلك عشواء تخبط ، أو عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ بالطبع ، فَلَا إِرَادَةَ وَلَا عِلْمَ ، وإنما إلجاء في التأثير والفعل ، فذلك مما به تَعْطِيلُ الْأَوَّلِ عَنْ صفاتِ كمالٍ ، الحسُّ بِهَا يَشْهَدُ ، وهو عمدة الحداثة في الاستدلال ، فَشَهِدَ الحس بِضِدِّ مَقَالِهَا إذ عالج من وجوه الإتقان والإحكام في المحالِّ والأسبابِ وَالسُّنَنِ التي يجري عليها كلٌّ ، عالج من ذلك ما يدل ضرورةً على الأول ، وهو ما جَاوَزَ المطلقَ بشرط الإطلاق الذي لا وجود له في الخارج يجاوز الأذهان ، فَلَيْسَ فِي أحسن الأحوال إلا جَائِزًا يَفْتَقِرُ هو ، أيضا ، إلى موجِب موجِد يُخْرِجُهُ مِنَ العدمِ إلى الوجودِ ، فيكون من ذلك تَسَلْسُلٌ في المؤثِّرين قد امتنع في الأزل ، فلا بد من أَوَّلٍ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وله من الحقيقة ما جاوز المعنى المجرد في الذهن ، فَثَمَّ حقيقة في الذات والوصف ، فالأول قد جَاوَزَ المطلَق بشرطِ الإطلاقِ ، وجاوز العلة التي اقْتَرَحَتْهَا الحكمة الأولى ، فهي الفاعلة بالطبع المجرَّدة من الوصف ، فلا إرادةَ ولا علمَ ، وإنما إيجابٌ بِذَاتٍ مجرَّدة لا بِوَصْفٍ يقوم بها وَفِعْلٍ ، فهو ما عنه المفعول المحدَث في الخارج يحصل ، وهو ما يُصَدِّقُ أولا من العلم يُقَدِّرُ ، وذلك ما جاوز الكلي المجمل إلى آخر يُفَصِّلُ ، فيكون من دقائق الخلق ما يحكي الإتقان ، ويكون من السَّنَنِ الجاري الذي اطَّرَدَ ، يكون منه ما يحكي الإحكام ، وذلك ما يدل ضرورةً ، ولو لم يكن ثم خبر من خارج يَرْفِدُ ، ما يدل على أول له من الوصف ما جاوز المطلق الذهني بشرط الإطلاق ، فَلَهُ من العلم ما فَصَّلَ ، وله من القدرة والمشيئة ما رَجَّحَ ، وبه المقدور الأول يحصل في الخارج ، فيكون من ذلك تأويل به يَقَعُ ، ومنه ما يعالج الحس إذ يدرك الأثرَ ، أَثَرَ التقديرِ ، وما يكون بَعْدًا من فعلِ التَّكْوِينِ ، فَثَمَّ حقيقة في الخارج تُصَدِّقُ ، وثم من الإتقان والإحكام ما يشهد ، وهو ما يعالجه الحس ، فما استدلت به الحداثة في الإثبات قد أتى على مقالها بالإبطال بما عالج الحس من وجود أول ، ولو المجرَّد ، فهو شاهد بأول يَتَقَدَّمُ ، فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وإلا كان المحال الممتنِع لذاته من التسلسل آنف الذكر ، التسلسلِ في المؤثِّرين أزلا ، فَلَا بُدَّ من رجوعِ كُلٍّ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وكذا أَتَى دليل الحس على مقالِ الحداثةِ بالإبطال إذ فَرَضَتِ التَّطَوُّرَ على قاعدة عشواء تخبط ، فليس إلا العبث ! ، فكان من دليل الحس إذ يعالج ما أُتْقِنَ من الخلقة وَأُحْكِمَ من السنة ، كان منه ما يدل ضرورة على علم أول يُقَدِّرُ ، قَدْ جَاوَزَ مَا أَثْبَتَتِ الحكمة الأولى من العلم الكلِّيِّ المجمَلِ ، فَثَمَّ تَالٍ قَدْ تَنَاوَلَ الجزئيَّ المفصَّل ، وبه الإتقان والإحكام ، فلا يكون ذلك إلا بآخر أخص ، فَثَمَّ من الاسم والوصف : حكيم وخبير ، فخبير قد علم الدقائق ، فذلك في المدلول أخص من أول به يَثْبُتُ مَعْنَى العلمِ ، فهو ، جل وعلا ، العليم الخبير ، وهو ، مع ذلك ، الحكيم في إجراء السنن أَنْ قَدَّرَ من الماهيات ما تَنَاوَلَ المحالَّ بِمَا رُكِزَ فِيهَا مِنْ قوى تَقْبَلُ ، والأسباب بما رُكِزَ فِيهَا من أخرى تُؤَثِّرُ ، فكلٌّ قَدْ سَلَكَ جَادَّةً من الحكمة البالغة ، وهي ما افْتَقَرَ إلى شَرْطٍ يُسْتَوْفَى ومانع يُنْفَى ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، ما اصْطُلِحَ أَنَّهُ العلة ، فهي المجموع المركب من المحل الذي يعالج ، والسبب الذي يباشر ، والشرط الذي يُسْتَوْفَى ، والمانع الذي يُنْفَى ، وهو ما يَفْتَقِرُ إلى سببٍ أول يَسْبِقُ ، وذلك ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إِلَى الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصفِ الجمالِ : علمٌ وخبرةٌ وحكمةٌ ، فكلُّ أولئك مما به التقدير الأول ، والحس به يَشْهَدُ إذ يُعَالِجُ من آثارِه في الخارج : إتقانًا وإحكامًا ، فذلك مما تَوَاتَرَ في آيٍ من الآفاق والأنفس ، فتلك آيات في الكون تصدق ما جاء به الشرع ، فَتَتَأَوَّلُ منه الأمر الذي يرشد أَنِ : (انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) ، وهي بَعْدًا تَدُلُّ عَلَى شَطْرٍ من القسمةِ ، قسمةِ المعني الديني المجزئ في حصول حقيقة منه في الخارج تَنْفَعُ ، فَثَمَّ توحيدُ الخالقِ الأوَّلِ الذي لا أول قَبْلَهُ ، فَإِلَيْهِ تَنْتَهِي المحالُّ والأسبابُ كَافَّةً ، فذلك توحيد الخالق بأفعاله في الخارج ، تقديرا وتكوينا وتصويرا وتدبيرا ، فقد عالج الحس من آثارها في الخارج ما يشهد بها ضرورة لدى العاقل المسدَّد الذي هُدِيَ سبيل الهدى المحقَّق ، فاستدل بِالْأَثَرِ على المسيرِ ، وعالج من آي التكوين المحكم ما يدل ضرورة على خالق أول له من العلم ما جاوز المجرد في الذهن ، فلا حقيقة له في الخارج تَثْبُتُ ، وجاوز الكلي المجملَ الَّذِي اقترحته الحكمة الأولى ، فَثَمَّ من وصفِه عِلْمٌ يُفَصِّلُ قَدْ تَنَاوَلَ دقائِقَ الخلقِ المحكَمِ ، وذلك وصف الجمال ، وهو بَعْدًا يَطْلُبُ التأويلَ في الخارج أَنْ يكونَ من آثاره دليلٌ شاهدٌ ، فَثَمَّ من المشيئة والقدرة ما يَنْفُذُ ، وذلك وصفُ جلالٍ به القسمة تَكْمُلُ ، قسمةُ الكمالِ المطلقِ الذي ثَبَتَ ضرورةً للخالق الأول ، جل وعلا ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا دَلَّ عليه الحس إذ عالج آيا من الآفاق والأنفس ، وذلك من إبطالِ المقال بِعَيْنِ ما استدل به ، ولو تحكم لدى المبدإِ فَقَصَرَ مدارك العلم على الحس المحدَث ، فَلَوْ سُلِّمَ له بذلك ، فهو شاهدٌ بِضِدِّ ما اقْتَرَحَ من نَفْيِ الخالقِ الأول ، ولو خالف به عن ضروري في العقل يَنْصَحُ ، إذ المحدَث لا يَنْفَكُّ يطلب المحدِث ، وشاهد بِضِدِّ ما اقترح من عشواء تخبط فلا يكون منها بداهة ، هذا الخلق المتقن المحكم ، لا جرم اجتهد ما اجتهد ، ولو لَفَّقَ من الدليل وتكلف من الاستدلال ما لا يَسْلَمُ فِي القياس المصرَّح ، فاجتهد ما اجتهد أن يُثْبِتَ في الخلقِ عَيْبًا أو زِيَادَةً لا تنفع ، فكان من ذلك ما نقضه البحث والتجريب ، وهو مستنده في الإثبات والنفي ، إن في دقائق الخلق أو أخرى من النفس تحكي أخلاق الفرد والجمع ، فقد تكلف أخرى في قوانين الاجتماع البشري أَنْ رَامَ قَصْرَهَا على الدليل الحسي ، فهو يجزئ في تفسير الباعث النفساني لدى الفرد والجمع ، فلا يجاوز في بحثه الجسد البشري إذ المادة قَدْ صارت في بحثِه الأصلَ ، فلا حقيقة في الخارج تجاوزها إذ حَلَّ فيها المعنى وبها قد اتحد ، فكان من قصة الخلق لدى الحداثة ما خالف عن العقل المصرَّح إذ تَكَلَّفَ الجاحدُ مَا تَكَلَّفَ مِنْ نَفْيِ الأول ، وهو ما يَنْقُضُ مقدِّمَةً أولى في العقل المصرَّح أن المحدَث لا يكون إلا بمحدِث ، وتكلف آخر أن يَرُدَّ هذا الخلق المتقن المحكم إلى أول بسيط في الأزل قد وُجِدَ بلا موجِد ، فَلَيْسَ إلا الصدفة ، ثم كان تالٍ من الحركة بلا محرِّك ، فكان منه ، أيضا ، الترجيح بلا مرجِّح ، وهو ما يخبط عشواء وَيَعْبَثُ ، فكان من ذلك خلقٌ مُتْقَنٌ وَسَنَنٌ محكَم ! ، وكان منه فِعْلٌ فِي الخارجِ يُؤَثِّرُ ، ولا فاعل له إذ يخبط ! ، فالحس الذي استدلت به الحداثة شاهدٌ بِضِدٍّ ، إذ عالج ، كما تقدم ، آيا من الآفاق والأنفس قد أُتْقِنَتْ مِنْهَا الخلقَةُ ، وَأُحْكِمَتْ مِنْهَا السنة ، ولا يكون ذلك إلا بعلمٍ وحكمةٍ ، وذلك الجمال ، ومشيئةٍ وقدرةٍ ، وذلك الجلال ، وبهما كمال أول قد أُطْلِقَ ، وذلك شطر من الدين المجزِئ ، فَثَمَّ توحيدُ الخالقِ المكوِّن بما كان من تقدير أول ، وإيجادٍ تال له يُصَدِّقُ ، وتصوير لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك فعل البديع الذي عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، وَإِنْ خُصَّ في آي من الذكر المنزَّل ، فهو : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فكان من الإضافة في هذا الموضع ما يجري مجرى التنبيه بالأعلى على الأدنى ، فمن بدع الأعلى من السماوات والأرض ، فهو يبدع الأدنى من الخلق ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، فَثَمَّ هذا التوحيد في الخلق والتدبير ، وهو شطرٌ من معنى يجزئ في حصول اسم ديني يجزئ ، ولا ينفك يطلب شطرا آخر به اكتمال القسمة في العقل الناصح ، فمن له توحيد الخلق والتدبير ، فَلَهُ ، بداهة ، آخر من الحكم والتشريع ، إذ من خَلَقَ فَهُوَ أعلم بما خلق ، وما يُصْلِحُ حالَه وَيُفْسِدُ ، وما يَنْفَعُ وما يَضُرُّ ، فكان من حكمه ما يَنْصَحُ ، وهو ، مع ذلك ، يَسْلَمُ مما لا تَسْلَمْ منه المراجع المحدثة في الأرض ، ولو صدق في بَعْضٍ أنه موضوعي يجاوز من خارج ، كما عقل الجمع الذي اقترحه بحث الاجتماع المتأخر ، فذلك موضوعي من خارج العقل المفرد ، وهو ، مع ذلك ، لا يسلم من العوارض والآفات ، فهو حكاية عقول مفردة لم تسلم من الأهواء والحظوظ المحدثة ، فَيُزَيِّنُ لَهَا ما تَتَوَهَّمُ أنه حق ، وَتُؤْطَرُ على معان يقترحها الملأ ، وهم في كل جيلٍ مَنْ يُفْسِدُ ، فـ : (كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ، فلهم في أطر الجمع على جادة تواطئ أهواءهم وحظوظهم ، لهم في ذلك ما ضَنَّ به السادة في كلِّ أُمَّةٍ ، فَهُمْ ، أبدا ، خصوم الوحي والنبوة ، إذ جاء يبطل رياساتهم التي تحملوها عن الآباء أُمَّةً تُقَلَّدُ ، فلا دليل من العقل المصرَّح ، فكان من ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، خصومة السيادة ، أتكون للوحي المنزل وهو عن السيد المطلق يصدر ، كما في الأثر المحقق إذ : "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّيِّدُ اللَّهُ» ، فَقَالَ: أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلًا، وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلَا يَسْتَجِرَّنَّهُ الشَّيْطَانُ أَوِ الشَّيَاطِينُ»" ، أم تكون للوضع المحدث بما اقترح الملأ ، وإن مكروا بالخلق ، فأطروا عقل الجمع على طريقة تواطئ أهواءهم وحظوظهم ، فَزَيَّنُوا وزخرفوا القول بما احتكروا من أداة السحر الذي يُخَيِّلُ للجمع ما لا حقيقة له تَنْصَحُ ، فكان من ذلك ما أفسد الفكرة بالشبهة ، وأفسد الحركة بالشهوة ، وكل أولئك مما أُسْنِدَ لعقلِ الجمع الذي بَلَغَ الرشد فهو الموضوعي الذي يحكم من خارج ، وإن أجمعَ على باطل ، لا جرم لم يكن الإجماع ، بادي النظر ، بحجة في أصول الشريعة ، بل لا بد له من مستند من الوحي الذي يجاوز من خارج ، أو قياسٍ على نَصٍّ ، فهو ، يرجع ، أيضا ، إلى الوحي ، على خلافٍ في الإجماع الذي يستند إلى القياس .

فكان من مكر الملإِ أَنْ أَفْسَدُوا عقل الجمع فاختارَ ما يواطئ أهواءهم وحظوظهم ، فَبِهِ تُقْضَى الأمور وَتَنْفُذُ الحكومات ، ولو بِضِدِّ مَا يَنْفَعُهُ ، إذ أطره الملأ على ما استحسن ، ولو كان عين القبيح المفحِش ، بل قد خالفوا به في الجيل المتأخر عن بدائه الضرورة في الاعتقاد والأخلاق ، فهي من فطرة الخلق الأولى ، فكان منهم مكر يُبَدِّلُ ، وَيُحَسِّنُ ما قد عُلِمَ قبحه ضرورة لدى كل ذي عقل يَنْصَحُ ، ولو عقلَ الضرورة الأولى ، فليس يسلم عقل الجمع من الخطإ ، وإن جاوز عقل الفرد ، وهو ، لو تدبر الناظر ، يصدر عن فَرْدٍ حاكم ، فَثَمَّ قليل قد احتكر أسباب القوة والثروة والفكرة ، فصنع عقل الجمع على عينه بما يواطئ هواه وحظه ، فَمَرَدُّ العقل المجموع الذي اقترحته الحداثة في بحث الاجتماع ، مَرَدُّهُ إِلَى عقلِ فَرْدٍ قد تَحَكَّمَ ، مع آخر من الجبر يبطل خاصة الإنسان الذي يُبْدِعُ وَيُفَكِّرُ ، فكان من ذلك العقل ما يبطل خاصة الفرد الذي يَصْلُحُ وَإِنْ فَسَدَ الجمع ، وَيُصْلِحُ وإن أَفَسْدَ الخلق ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، ما ينقضه تاريخ النبوات وما سلك جادتها من الإصلاح ، ولو امتازت منه أن ثم من المرجع ما جاوز فَسَلِمَ من الخطإ والنقص ، فكل شاهد بإبطال دعوى الجبر في عقل الجمع ، وإلا ما كان آحادٌ في كلِّ جيلٍ قد خالفوا عن جمع كثير ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يعم الخير والشر كافة ، فكم من واحد قد أصلح الله ، جل وعلا ، به أمة ، وكم من آخر قد أفسد به أخرى ، فذلك مما اطرد وانعكس ، ومحل الشاهد منه إبطال دعوى الجبر الذي يبطل خاصة التكليف ، فهو يصدر عن إرادةٍ واختيارٍ بهما يباشر المكلَّف الفعل في الخارج ، فَثَمَّ من إرادته ما يُؤَثِّرُ في حصول المقدور في الخارج ، وهو عن علم أول يصدر ، فيكون من تصوره في باب الحسن والقبح ما يكون ثَمَّ بَعْدَهُ فِعْلٌ أو تَرْكٌ ، فَيَخْتَارُ بإرادةٍ تُؤَثِّرُ ، يختار بها ما يُوَاطِئُ تصورا في الذهن هو الأول وإن لم يخرج عن أول من التقدير المحكم ، وثان من مشيئة الخالق ، جل وعلا ، فهي أولى تنفذ ، وعنها مشيئة العبد تصدر ، فـ : (مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ، وذلك العدل وسطا بين جبرية تُعَطِّلُ إرادةَ العبد ، وقدرية تُعَطِّلُ إرادة الرب جل وعلا .

فَثَمَّ من دعوى الجبر في عقل الجمع ما يبطل الأمر والنهي ، وهو ما لا يطلق في الحكم ، فيصدر عنه الأفراد على جهة اليقين والجزم أنه حكمه هو الحق في نفس الأمر ، إذ خاصته كما خاصة العقل المفرد ، فكلاهما المخلوق المحدَث ، والعقل أبدا يَفْتَقِرُ إلى مرجع من خارج يجاوز ، قد سَلِمَ مِمَّا لم يَسْلَمْ مِنْهُ كُلٌّ ، إنْ عقلَ الفرد أو عقلَ الجمع ، وذلك شطر آخر من المعنى الديني المجزئ ، شطر الحكم والتشريع ، ولازمٌ لملزومٍ أول قد تَقَدَّمَ ، فذلك شطر الخلق والتكوين ، وكل أولئك مما ثَبَتَ ضرورة بأدلة العقل والفطرة ، بل والحس الذي تحكمت الحداثة فَصَيَّرَتْهُ دليلَ الإثباتِ والنفيِ الأول إذ صدرت عن مقال حلول واتحاد قد خالف عن الضرورات والبدائه ، فكان من ذلك ما غلا في الحس ، فصارت المادة في الخارج هي الأصل ، بل هي الحقيقة فَمَا جاوزها فَلَيْسَ يَثْبُتُ ، وإن كان من الدليل غَيْرٌ يُثْبِتُ ، من الخبر المصدَّق ، بل الحس ، كما تقدم ، شاهد بضد إذ يعالج من وجوه الإتقان والإحكام ما يدل على أول له من التقدير ما قد عَمَّ الكليات والجزئيات كافة ، وله من التكوين ما يُصَدِّقُ ، فحصل بذلك من قسمة العقل في باب الوجود ما ينصح ، إذ ثم تجريد لمعنى أول في الذهن ، وهو الوجود المطلق ، فليس يكون منه شيء في الخارج إلا أن يُقَيَّدَ بذاتٍ تَسْتَقِلُّ ، فيكون من الأعيان في الخارج ما يتمايز ، ولو المخلوقاتِ المحدثاتِ ، فوجود زيد يُغَايِرُ بداهةً وجود عمرو ، فكيف بوجود الخالق ، جل وعلا ، في حد ، ووجود المخلوق الحادث في آخر ، وهو مَا يُبْطِلُ مقال الحلول والاتحاد ، وقد عَمَّ به بَعْضُ من تَأَخَّرَ : الأعيانَ المخلوقةَ كافةً ، وهو ما قال به فئام لهم نسبة إلى الدين الخاتم تثبت ، وإن الاسم المجرد فقد خالفوا عن المسمَّى ، وجحدوا منه المعلوم الضروري الأول ، أن يميز الناظر الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، لا جرم حد بعض العارفين التوحيدَ أنه إفراد المحدث من القديم ، وبه امتاز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، وذلك ، وإن لم يكن حد التوحيد الذي جاءت به النبوات ، إلا أنه مما يجري مجرى النص على موضع الخلاف إذ به قد عمت البلوى فأجاب بِخَاصٍّ ولم يذكر الحد الجامع المانع الذي يستغرق حقيقة التوحيد المجزئ ، توحيد الخالق المدبِّر والحاكم المشرِّع ، وإنما نَبَّهَ على خلافٍ قد وقع في عصره ، فكان منه بلوى قد عظمت ، ولها بعدا في من الآثار ما يفدح ، وذلك ، كما تقدم ، الحلول والاتحاد العام ، وَثَمَّ قَبْلًا من خَصَّهُ بواحدٍ بالعين ، كما غلت المثلثة في المسيح ، عليه السلام ، وثم من خصه بواحد بالنوع ، كما الشعب المختار ، فهم الأبناء والأحبة ، كما مثال في الوحي قد ذُكِرَ ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما اطرد في كل مذهبٍ يُعَظِّمُ الْعِرْقَ والعنصرَ ، فلا ينفك يَزْدَرِي غيرا ، ويكون ذلك ذريعة تُبَرِّرُ استرقاقه واستغلاله على قاعدة من الحس معيارها الكسب ، فليس ، كما يقول بعض من حقق ، إلا مادة تُسْتَعْمَلُ ، على قاعدة من التعاقد ذي المعيار المادي الصارم ، وإن انْتَحَلَ جملة من الأخلاق والمبادئ ، فلا تخرج عن حد الكسب العاجل بما يحصل من الرِّبْحِ ، وهو ما يدرك بالحس ويقاس في الخارج بمعيار اللذة والألم المباشر ، وذلك أصل يصدر عن المادة ، فلا معنى يجاوزها ، فهي معيار الحسن والقبح ، وبها التعاقد الصارم لا التراحم الذي يجاوز مدارك الحس ، فَثَمَّ من عقد العبودية والسخرة في الحقل والمعمل والمصنع على قاعدة : من لا يعمل لا يأكل ، وإن كان عاجزا لا يقدر ، فَثَمَّ قاعدة من المادة قد انحطت بالإنسان فلم تعتبر منه إلا الجسد الذي يتحرك في الخارج إنتاجا واستهلاكا لا يجاوز الأشياء ، فهو مادة كما الحجر والشجر فلا امتياز له منها بِتَكْلِيفٍ ورسالة ، أن يكون منه في الأرض خلافة تحكم بالحق ولا تتبع الهوى والحظ ..... إلخ ، فكل أولئك من المعاني التي جحدتها الحداثة بما تقدم من حلول واتحاد قد صير المادة هي المرجع والمعيار ، فانحط بالحقيقة البشرية المكرَّمة التي فُضِّلَتْ على الكائنات بما رُكِزَ فِيهَا مِنَ العقلِ ، وهو ، كما تقدم ، منطق أول يَبْطُنُ ، وعنه منطق الكلام في الخارج يُفْصِحُ ، فلا ينفك يطلب قسيما أول في الوجدان يَثْبُتُ ، فالكلام ، كما حَدَّهُ أهلُ الشأنِ : معنى يقوم بالنفس ولفظ يُنْطَقُ فَيُدْرَكُ بالسمعِ ، فكان من الحداثة جناية تَعْظُمُ إذ جَحَدَتْ مَا اخْتُصَّ به الإنسان من العقل ، مناطِ التكليفِ بالأمر والنهي ، وهو ما آثاره تجاوز فَلَهُ من الأخلاق مرجع ناصح ، فلا يقتصر على أخلاق النفع المباشر وهي ما يعالج الحقيقة الإنسانية في الخارج كما المادة المجردة من القيمة والمبدإ ، فلا حرمة لها في الخارج تثبت ، فما الظن بمذهب يعالج الأخلاق معالجته للأشياء ، فلا مرجع لها من خارج يجاوز ، وهو ما يُفَسِّرُ هذا التوحش في القتل والسفك والسعي في إفناء النوع بالمجاعات والحروب والأوبئة التي صارت فضائل تهبها الطبيعة إذ تَنْتَخِبُ الأقوى على قاعدة من المادة لا تجاوز مدارك الحس ، فلا صحن فيها لضعيف لا يصمد ، كما يقول بَعْضٌ لا يَرْحَمُ ! ، وإنما هو لمن غلب ، فهو القوي ، وَإِنْ ظَلَمَ ، فوحده من استحق البقاء ، وإن لم يكن الأصلح ، بل إفساده في الخلق يعظم ، فكان من ذلك ازْدِرَاءٌ لحقيقة الإنسان أَنْ صَارَ مَادَّةً تُسْتَعْمَلُ ، وصار إفناؤه فَضِيلَةً تُحْمَدُ ، وهو ما استوجب دعاية تُبَرِّرُ هذه الجناية أن يَنْزِعَ عن الآخر معنى الإنسان ، وهو ما يعالج الناظر لَهُ في الأرض المقدسة المثالَ الشاهد ، فقد نُزِعَ معنى الإنسان عن الخصم ، وذلك ما يُبَرِّرُ القتل والسفك ، فَلَيْسَ الجنسَ الأعلى الذي بَلَغَ الغاية في الوصف على قاعدة تَتَحَكَّمُ في حد الحضارة أنها المادة ، وهي ، بعدا تَخُصُّ الجنس الأعلى بالفضائل ، فهو الشعب المختار في الخارج ، وما سواه فلا يجاوز الخادم والحارس ..... إلخ من وظائف الرَّقِيقِ المستخدَم على قاعدة الاستعمال آنف الذكر ، وهو ما انحط بالإنسان فجرده من فضيلة الروح والمعنى ، فليس إلا الجسد والمادة ، وإن كان من المقال الحداثي ما يُعَظِّمُ النوع الإنساني ، وإنما عَظَّمَ منه الجسد والمادة لا الروح والمعنى ، فلا ينفك يَقْرِنُ ذلك بِفَرْضٍ من التطور ، فلا يَعُمُّ بهذا التعظيم آحاد النوع كافة ، بل ثم تحكم بعد آخر ، فقد تحكم أُولَى أَنْ قَصَرَ الحقيقة في هذا الوجود على الموجود المحسوس ، وَرَدَّ جَفَاءَ الدين المبدَّل الذي ازْدَرَى مادة الجسد انْتِصَارًا للروح زَعَمَ ! ، فَانْتَصَرَ للمعنى من المادة ، وَجَفَا المحسوس من الجسد ، بل وَصَيَّرَ إهانتَه وتقذيرَه وتعذيبَه بأجناس من الرياضة المحدَثة ، رهبانية قد ابْتَدَعَ ، صَيَّرَ ذلك سبيلَ الخلاصِ الروحيِّ ، خلاص المعنى فلا يكون إلا بإهدار المادة ، فكان آخر على ضِدٍّ قد سلكتِ الحداثة ، إذ غَلَتْ في الحس ، فانتصرت للجسد من الروح ، للمادَّةِ من المعنى ، فَصَارَتِ المادة هي الحقيقة في الخارج ، فلا حقيقة لها تجاوز ، فَثَمَّ ، كما تقدم في موضع ، حلول واتحاد : حلول المطلق الأعلى واتحاده بمثال محدَثٍ في الأرض ، سواء أكان ذا شخص في الخارج يثبت حقيقة ، كما حلوله في ذات المسيح عليه السلام ، أو ذات الإمام أو الشيخ أو الكاهن في الأديان الأرضية المحدَثة إذ يعالج من أجناس الرياضة والزهد ما قد جَاوَزَ الحد ، وبه يخلص من الحقيقة الجسدية السفلى فَيَصِيرُ أهلا أن تَحِلَّ فيه الحقيقة الروحانية العليا ، فسواء في ذلك أكان المثال المحدَث في الأرض ذَا شخص في الخارج يثبت حقيقة أم آخر يعتبر ، كما مثال الدولة التي صارت الإله الذي حَلَّ فيه المطلق الأعلى ، وبه حركة التاريخ تُفَسَّرُ إذ سرى فيها هذا المطلق ، وذلك ما اخْتُزِلَ بَعْدًا في شخصِ حقيقةٍ في الخارج ، شخصِ الحاكم أو الملك ذِي الحق الإلهي المطلق ، فتلك الحقيقة التي وجدها الشعب المختار تحكما آخر في الإثبات ، فكان التفاضل على قاعدة الحس الذي يَتَنَاوَلُ العرق والعنصر ، وكان من المادة أصل في الخارج هو الواحد إذ المعنى قد اتحد بها فاضمحل ، ولم يَبْقَ سوى المادة في الخارج وهي المدركة بالحس الظاهر ، فليس بِسِوَاهُ تثبت الحقائق ، تَحَكُّمًا قد تَقَدَّمَ ، إذ صير الجهل حجة على العلم ، فإذ جهل الحس فذلك دليل العدم ، وإن لم يجاوز في الحد عدم الدليل ، وقد يثبت الشيء بأكثر من مرجع ، فَلَيْسَ فَوَاتُ واحدٍ منها يَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ كُلٍّ ، فقد يفوت في الباب دليل الحس ، ويكون آخر من العقل والفطرة ، أو الخبر الذي يجاوز المدارك كافة ، فهو يَرْفِدُهَا بما لا تطيق دَرَكَهُ ، وهو ، مع ذلك ، لا يتحكم ، فَيَضطَّرَ العقل أن يؤمن بمحال ذاتي يمتنع إذ يخالف عن بدائه الضرورة الأولى في الوجدان ، فَلَا يُلْجِئُهُ بِمَا يُخَالِفُ عن المقدمات الأولى في الاستدلال ، فلا يُكْرِهُهُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الجزء أكبر من كُلِّهِ ، أو أَنَّ الواحد إلى مثله يعدل ثلاثة لا اثنين ، أو أن الثلاثة إذا اجتمعت فالحاصل واحد ..... إلخ من المحالات الذاتية التي تمتنع في العقل المصرح ، وهي بعدا تجافي فطرة أولى تسلم من عوارض الآفة والسفسطة التي تنكر البدائه والضرورات الثابتة لَدَى كُلِّ ذِي عقلٍ ناصح ، وهي ، أيضا ، تجافي الحس ، فما سَلِمَ من آلاته فهو يعالج من المحدَثات في الخارج ما يدل ضرورة على محدِث أول ، وذلك مما يجاوز مَدَارِكَ الحسِّ بما تَقَدَّمَ من تسلسلٍ في الأسباب من المشهودات إلى المغيَّبات التي تَنْتَهِي ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وعنه علة الخلق تصدر ، فكل أولئك من المجمل في أدلة العقل والفطرة والحس ، فلا تنفك تطلب ضرورةً الخبرَ المجاوز من خارج ، فهو يبين عن مجملاتها .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 6 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 03-06-2024 - 05:10 PM ]


وذلك بَيَانٌ لما أُجْمِلَ من الحقائق ، فهي الواجبة أو الجائزة التي تحتمل ، فكان من الخبر ما أَثْبَتَ فحصل بذلك زيادة علم تَنْفَعُ ، وهي ما حُدَّ من كلام يُفْهِمُ ، والمبدأ ، كما تقدم ، صوت يصدر من جهاز النطق ، فَيَتَرَدَّدُ الهواء في المجرى ، ويكون من انقطاعه ما يحد المقطع ، مقطع الحرف المجرد ، وتلك وحدة أولى من الصوت ، وبها الائتلاف بما يواطئ الاحتمال ، التبديل بالتقديم والتأخير ، كما تقدم من صنيع الخليل في "العين" ، فإنه قد استوفى وجوه الاحتمال ، وهي مَا بِهِ استكمال القسمة في الخارج ، فكان من ذلك وحدات مجموعة من حروف المقطع ، ومنها المستعمل ومنها المهمل ، وذلك ما استوجب آخر من البحث ، وهو الاستقراء الذي يَتَنَاوَلُ النَّظْمَ وَالنَّثْرَ ، وبه يدرك الناظر مَا اسْتُعْمِلَ في الكلام المحتج به ، وذلك بحث يجاوز المدلول المعجمي المطلق ، فَثَمَّ آخر يَتَنَاوَلُ التَّرْكِيبَ ، فاللفظ يفيد حال التركيب ما يزيد ، وهو ما يواطئ قانون النحو الذي يَنْظِمُ الألفاظَ في سلك جامع وهو على عُرْفٍ مخصوصٍ جَارٍ ، عُرْفِ اللِّسَانِ ، فَلِكُلٍّ من المعيار ما يميزه من آخر ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مما يتناول في الدرس اثنين : فَثَمَّ أول من التداول ، وهو ما يحسن في تعليم الصغير لدى المبدإ ، أَنْ يُحَاكِي وَيُقَلِّدَ في مخارج الصوت ، وفي طرائقِ النُّطْقِ ، فَيَسْمَعَ الكلامَ من الأبوين ، ومن الجمع المحيط ، وبه يحصل معجم أول في وجدان الطفل ، لا جرم كان من فضائل الدين والدنيا ، أن يسمع الصغير كلام الوحي المنزل مرتلا ، فيستقيم به سمعه قَبْلَ نُطْقِهِ ، ويزيد معجمه من الألفاظ وَالتَّرَاكِيبِ ، وهو ما تَنَاوَلَهُ البحث والتجريب ، فكان من ثَرَاءِ المعجَمِ لَدَى طفلٍ صغيرٍ يسمع الكتاب المنزل ، وَيَتَلَقَّاهُ عَنْ شيخٍ في المكتب مشافهةً ، فَيُحَاكِي ما يسمع ، ويقلد حركات الشيخ في النطق والمخرج ، فيحصل له من ذلك استقامة في لسانه ، وَثَرَاءٌ في استدلاله ، فَثَمَّ حصيلة وافرة من الألفاظ الناصحة ، وهي ما يحكي مدلولات أولى من المعجم المفرد ، وأخرى من سياق التَّنْزِيلِ المعجز ، وهو في الباب الأفصح والأبلغ ، فالطفل الصغير يستكمل معجم النطق المفرد وقانون النحو المركب ، وإن كان لا يحسن النطق ، فهو متكلم بقوة أولى هي ما رُكِزَ في وجدانِ الإنسان لدى المولد ، فَنَوْعُهُ قَدِ امْتَازَ بهذه الخاصة ، وبها يُنَاطُ التكليف بالأمر والنهي ، فإنه ، بداهة ، كلامٌ يُفْهِمُ ، فلا يحسن يميز مدلوله إلا الناطق الذي يَفْهَمُ ، وهو من حصل له العقل لدى المبدإ ، ولو عقل القوة الذي يُولَدُ بِهِ ، فلا يعلم شيئا بالفعل ، وإن كان ثم من قوة التعلم ما رُكِزَ في وجدانِه ، لا جرم حصل له التعلم شَيْئًا فَشَيْئًا ، فـ : (اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، فَثَمَّ من الاسمية صَدْرَ الآيةِ مَا بِهِ التوكيد ، فهي مَئِنَّةُ الديمومةِ والثبوتِ ، وثم آخر من الإطناب في الخبر أَنْ حُدَّ جملةً ، وفعلها ماض قد انْقَضَى ، وذلك ، أيضا ، مما يحكي التوكيد ، فقد حدث وَانْقَضَى ، وهو ما يصدق في المخاطَب زَمَنَ التكلم على جهة الحقيقة ، ويصدق في آخر لما يوجد بعد على جهة المجاز ، عند من يثبته في اللسان والوحي ، إذ استعير الماضي لمستقبل لَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تأويلُه ، والاستعارة من وجوه المجاز ، فاستعير الماضي لمضارع تال ، وبه استحضار الصورة وَتَقْرِيبُهَا إلى الذهن ، فقد أخرج ، جل وعلا ، بعضا ، وآخر لما يخرج بعد ، فهو المقدور في علم أول يحيط ، وتأويله ما يكون بعدا من التكوين ، فَثَمَّ من المشيئة ما يُرَجِّحُ ، وذلك وصف الفعل الذي تحدث آحاد منه تُصَدِّقُ أولا من نَوْعٍ في الأزل يَقْدُمُ ، وهي ، من وجه آخر ، تُصَدِّقُ ما كان من العلم المحيط المستغرق ، وكلمة التكوين النافذة ومنها المخرِجة من العدم إلى الوجود ، وهو ما عَمَّ المحال وما يقوم بها من الأوصاف والأفعال ، والأسباب وما رُكِزَ فِيهَا من القوى وما أُجْرِيَ لها من السَّنَنِ ، تلك الكلمة الكونية النافذة عن المشيئة تَصْدُرُ ، فهي تأويل تَالٍ لها يَنْصَحُ ، وما يصدق في المشيئة وهي الفعل القديم نوعا ، الحادث الآحاد بعدا ، ما يصدق فيها فهو يصدق في الكلمة ، إن الكونية النافذة أو الشرعية الحاكمة ، فالكلام مما قَدُمَ في النوع ، وله من الآحاد بعدا ما يحدث ، فهو وصف الفعل الذي يُنَاطُ بالمشيئة ، وهو تأويل لما قَدُمَ من التقدير الأول ، فذلك من العلم المحيط المستغرق الذي تَنَاوَلَ التكوين والتشريع كَافَّةً ، فَثَمَّ منه إظهارٌ لِمَا كان في الأزل ، فهو المظهِر المصدِّق ، لا المنشِئ المؤسِّس لكمالٍ لم يكن لدى المبدإ ثم كان ، فذلك ، بداهة ، مما تَنَزَّهَ عنه الرب المهيمن ، جل وعلا ، فهو الفاعل بالعلم والإرادة ، فَثَمَّ من التقدير أول قد استغرق المحال والأحوال كافة ، وما رُكِزَ فِيهَا من قوى تَقْبَلُ ، وكذا الأسباب التي تعالج ، وما رُكِزَ فِيهَا من قوى تُؤَثِّرُ ، وما أُجْرِيَ لكلٍّ من السنن المحكم ، فذلك ما لا يكون إلا بالعلم ، وتأويله ما يكون بَعْدًا من الفعل ، فعلِ المشيئة التي تُرَجِّحُ ، وآخر من الخلق والرزق والتدبير ، فآحادها كافة مما يحدث بالمشيئة ، فَثَمَّ أنواع تَقْدُمُ من أوصاف الفعل : الخلق والرزق والتدبير وكلها يحصل في الخارج بالمشيئة ، وهي ، أيضا ، مما يصدق فيه قدم النوع وحدوث آحاد في الخارج تُصَدِّقُ ، فالمشيئة فعل من الأفعال ، وإن كانت الجامعة إذ بها تأويل غَيْرٍ من أفعال التكوين والتدبير ، فَثَمَّ من ربوبية الخلق وألوهية الشرع ، ثم منهما آحاد في الخارج تَحْدُثُ ، بما يكون من تَنَزُّلِ الملَك الموكَّل ، فمنه الموكَّل بالشرعِ ، كما روح القدس ، عليه السلام ، فهو يَتَنَزَّلُ بالوحي ، إن الخبرَ أو الحكمَ ، وهو ما قَدُمَ في الأزلِ ، وله من المحل أول ، فذلك العلم المحيط المستغرق الذي قام أولا بذات الخالق المهيمِن ، جل وعلا ، فذلك من وصف ذاته القدسية ، فَلَا يُعَلَّلُ ، كما وصف الغنى فهو المطلق ، فغنى الخالق ، جل وعلا ، غنى ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج به يَسْتَغْنِي ، فيحصل له من الكمال ما لم يكن ، بل كماله الكمال الذاتي المطلق ، فقد كَمُلَ فِي الأزل والأبد ، وبه ، كما تقدم في موضع ، تأويل اسمي "الأوَّل" و "الآخر" ، فَثَمَّ من دلالة "أل" في كلٍّ ما تَنَاوَلَ وجوهَ المعنى وآحاده ، فَثَمَّ أولية وآخرية مطلقةٌ ، وثم أولية الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فأولية الخلق والرَّزق والتدبير ...... إلخ ، ولو لم يكن ثم مخلوق ولا مرزوق ولا مدبَّر ، فالرب ، جل وعلا ، له من ذلك وصف الأول ، وهو ما لا مبدأ له في الوجود ، فَثَمَّ منه قوة أولى ، كما اصطلح النظار ، ولو لم يكن ثم فعل في الخارج يصدق ، فذلك ما قد شاء الرب المهيمن ، جل وعلا ، بَعْدًا ، فكان من المشيئة ما أَظْهَرَ ، فهو تأويل ما كان ابتداء من الأوصاف الأولى في الأزل ، فليست المشيئة تُنْشِئُ ما لم يكن من الأوصاف ، وإن كان بها حدوث آحاد من الأفعال تصدق ، فالله ، جل وعلا ، خالق في الأزل قبل أن يخلق بالفعل بما كان من مشيئةٍ تُرَجِّحُ ، وكلماتِ خَلْقٍ عَنْهَا تَصْدُرُ ، وهو ، تبارك وتعالى ، المخرِج ، وذلك محل الشاهد في الآي المصدق : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، فهو المخرِج ، وإن لم يكن ثم بَعْدُ من المخرَج ما يُصَدِّقُ بالفعل ، فكان من ذلك وصف أول ، وذلك أصل في الباب يُسْتَصْحَبُ ، فَثَمَّ من الكمال الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ثَمَّ منه ما ثَبَتَ له ، جل وعلا ، في المبدإ والمنتهى ، أولية وآخرية لا يَعْرِضُ لَهَا نَقْصٌ ولا آفة ، ولا يكون منها حدوث بعد عدم ، وإن حدثت آحاد فهي تصدق ما كان أولا من الكمال المطلق ، لا أنها تُنْشِئُ أو تُؤَسِّسُ ما لم يكن قَبْلًا من الوصف ، بل هي تظهر ما كان في الأزل فلم يُسْبَقْ بالعدم ولم يُلْحَقْ بالنقص ، فَثَمَّ كمال في الذات والوصف قد عم فاستغرق الأزل والأبد ، فكان من ذلك أولية وآخرية مطلقة ، فلم يكن ثم تعطيل له ، جل وعلا ، من وصف الكمال ، ولم يكن ثم حدوث منه بعد عدم ، وإنما الحدوث : حدوث آحاد تُصَدِّقُ ، وذلك ما به تأويل لمقدورات أولى في العلم المحيط المستغرِق ، فهي ، أيضا ، مما قَدُمَ نوعه ، لا آحاده في الخارج ، فَقَدُمَ نَوْعُهُ إذ قام بالعلم الأول القديم ، فَالْقِدَمُ ، لو تدبر الناظر ، قِدَمُ العلمِ به ، وَقِدَمُ تقديرهِ الأول ، لا قِدَمُ أعيانٍ منه فهي مما يحدث بعدا بما يكون من مشيئة ترجح ، وبها تأويل ما كان من وصف الفعل الأول ، وهو ما يخرِج المقدور من العدم إلى الوجود ، كما إخراج الأجنة من البطون ، فذلك تال في الوجود يُصَدِّقُ ما كان لدى المبدإ من المقدور ، فتأويله في الخارج ما يكون من الحدوث ، حدوث آحاد من المشيئة تُرَجِّحُ ، وعنها كلم التكوين النافذ يصدر ، وهو حكاية أوصاف من الفعل تَتَنَوَّعُ ، فكلمة خلق بها تأويل الخلق ، وأخرى من الرَّزق وثالثة من التدبير ...... إلخ من كلمات التكوين النافذة ، وكذا أخرى من التشريع حاكمة ، فَنَوْعُهَا ، أيضا ، إن الخبر الذي يصدق أو الإنشاء الذي يمتثل ، نوعها ، أيضا ، مما يصدق فيه أنه أول يقدم ، وثم آحاد منه قد تَنَزَّلَتْ بالمشيئة ، وهي كُتُبُ الوحيِ التي جاءت بالشريعة وأبانت عن الطريقة ، إن الاعتقادَ أو القولَ أو الحكمَ ، فَثَمَّ منها ما تَنَاوَلَ أجزاء القسمة في الخارج ، قسمة الدين المجزئ بما كان من شعب إيمان تَنْصَحُ ، ولكلٍّ من الخبر أو الإنشاء ما يَرْفِدُ ، وَكُلٌّ بالمشيئة يحدث ، آحادا ونجوما في الخارج تُصَدِّقُ مَا ثَبَتَ في العلم الأول المحيط ، وما سُطِرَ بَعْدًا في لوح التقدير ، وهو الجامع للمقاديرِ كَافَّةً ، إِنِ الكونية والشرعية ، فكان من الوحي ما ثَبَتَ أولا في العلم ، وهو وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج يَرْفِدُ ، بل منه كمال أول قد أُطْلِقَ ، وكان من الوحي محل تال يصدق بما سُطِرَ في لوحِ التقديرِ المحكَم ، وَثَمَّ تأويل له بما يَتَحَمَّلُ الملَك الموكَل بالوحي ، فَنَزَلَ به روح القدس ، عليه السلام ، وكان من المحل تال في الأرض ، وهو فؤاد صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وبه قد نطق بلاغا يصدق وبيانا يَنْصَحُ ، فَثَمَّ واسطة من الملَك تثبت ، إذ سمع الوحي من الله ، جل وعلا ، فكان من ذلك آحاد كلام تحدث ، قد سمعها الملك واحتمل ، وذلك أصل آخر في الباب يستغرق ، إذ ثم من جنس الملَك ما عم : ملك الوحي ، وملك القطر ، وملك الموت ، وملك النفخ ، وملك الرياح ، وملك الجبال ..... إلخ ، فكلها المدبِّرات المحكِمات ، وبها كان الإقسام في الآي المحكَمات : (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) ، وذلك ما عم فاستغرق بما كان من دلالة "أل" في "المدبِّرات" ، فهي تحكي بَيَانًا لجنس المدخول ، وهي تاليا تستغرق منه الوجوه ، وإن لم يستقل بالتأثير والفعل ، فَثَمَّ أول عنه يصدر الملَك ، فلا يَسْبِقُهُ بالقول ، وهو بأمره يَفْعَلُ ، كما آي من الذكر المنزل قد أبان عن عبودية الملك ، فـ : (قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، فكان من صاحب الدعوى الباطلة : نسبة الملَك إلى الله ، جل وعلا ، نسبة الولد ، وقد نَسَبَ منه الأدنى كما في آيٍ أخرى من الذكر قد بَيَّنَتْ إِذْ : (جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) ، فكان من ذلك جعل الاعتقاد المبطِل ، وهو ما تحكم صاحبه في الدعوى ، فَرَجَّحَ بلا مُرَجِّحٍ ، ولم يكن ثم مستند إذ لم يشهد الخلق ، ولم يأت خبر عن آخر من الخلق قد شهد ، ولم يكن ثم نظير في الخارج يضاهي ، فَلَيْسَ إلا التحكم في الدعوى أَنْ صارت هي الدليل ! ، وذلك الدور الذي يَبْطُلُ ، أَنْ يُسْتَدَلَّ على الشيء بِنَفْسِهِ ، فلا دليل إلا صورة الخلاف التي لا يُسَلِّمُ بها الخصم ، ولو فُرِضَ جَدَلًا أن الدعوى في نَفْسِهَا جائزةٌ ، فهي المحالة الممتنعة لذاتها ، إذ ثَمَّ مِنْهَا دعوى ما لا يجوز في حق الرب المهيمِن ، جل وعلا ، فالولد ، وإن كان كمالا في حق المخلوق ، فلا ينفك يحكي من النقص وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، بما يكون من مِيْلٍ في الجبلة ، مَيْلِ الذَّكَرِ إلى الأنثى ، والأنثى إلى الذكر ، بما رُكِزَ في كلٍّ من قوى الغريزة والشهوة ، وما يكون من طلب الأب لولدٍ يحمله إذا عجز ، ويديم ذكره في الأرض إذا هلك .... إلخ ، وكل اولئك بداهة من النقص المطلق ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ من وصف المخلوق ، إذ الفقر فيه ، كما يقول بعض من حقق ، وصف ذات لا يعلل ، فلا ينفك يطلب سببا من خارج به يستغني ويكمل ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ في الشهادة والغيب حتى ينتهي ضرورة إلى أول لا أول قبله ، فَلَهُ من ضِدٍّ ، وهو وصف الغنى المطلق ، له منه آخر ذاتي لا يُعَلَّلُ ، مع آخر من الفعل الذي يَتَعَدَّى ، فذلك وصف الإغناء الذي يُنَاطُ بالمشيئة ، وبها إغناءُ غيرٍ من الخلق ، إذ له من الوصف ضد ، فهو يطلب المغني ، بل والموجِب الموجِد بادي الخلق ، فَثَمَّ ترجيح بالمشيئة التي تَنْفُذُ ، فآحادها تحدث ، وعنها كلمات التكوين تَصْدُرُ ، فيكون من الإيجادِ ما يصدق أولا من التقدير ، ويكون من الإغناء ما يَرْفِدُ بِسَبَبٍ ذِي قوة تُؤَثِّرُ ، ومحل بِقُوَّةٍ أخرى يَقْبَلُ ، فَثَمَّ من ذلك تأويل في الخارج يَنْصَحُ ، فهو لِمَا قُدِّرَ في الأزل يُصَدِّقُ ، فكان من الضرورة في النقل والعقل كَافَّةً ، انتهاءُ الموجوداتِ المحدثاتِ وهي ابتداء من الجائِزات المحتمِلات ، انْتِهَاؤُهَا جميعا إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فهو واجب الوجود لذاته إذ استغنى عن موجِد موجِب له يسبق ، بل الموجودات كَافَّةً إِلَيْهِ تَفْتَقِرُ ، أَنْ يُقَدِّرَ في الأزل ، وَأَنْ يُوجِدَ بَعْدًا فذلك تصديق ما كان لدى المبدإِ من العلمِ المحيطِ المستغرقِ الذي قام بذات الخالق المهيمن ، جل وعلا ، في الأزل ، فتلك الأولية آنفة الذكر ، التي استغرقت الذات وما يقوم بها من الاسم ، ومنه اسم العليم ، والوصف ومنه العلم ، وهو وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، وإن كان من آحاد المقدورات فيه ما يحدث بعدا فَيَصْدُقُ فيه اسم الحدوث ، فذلك حدوث آحاد تُصَدِّقُ ، لا أخرى تُنْشِئُ وَتُؤَسِّسُ من الكمال ما لم يكن ، بل ثم منه أول قد أطلق ، فاستغرق ، كما تقدم ، الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم .
فَثَبَتَ في العقل ضرورة : انتهاء المخلوقات المفتقرات فَقْرَ الذَّاتِ الذي لا يُعَلَّلُ ، انتهاؤها إلى أول له من الوصف ضِدٌّ ، فغناه الغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فهو واجب الوجود لذاته ، وهي الجائزات المحتملات التي تَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج يُوجِبُ وَيُوجِدُ وَيُكْمِلُ مِنَ الوصفِ مَا نَقَصَ لدى المبدإ ، وإن ثَبَتَتْ منه قوة أولى بما رُكِزَ في الجبلة ، كما تقدم من وصف النطق ، فهو مما ثبت مبدأ التقدير والخلق ، فكان من ذلك قوة قد رُكِزَتْ في وجدان الوليد ، فهو الناطق بالقوة ، وإن لم يكن الناطق بالفعل ، فذلك ما يحدث شيئا بعد شيء ، فيكون من ذلك كمالٌ بعد نقص ، فلا ينفك يَفْتَقِرُ إلى سبب به يكمل ، بما يكون من التعلم ..... إلخ ، وكلها أسباب لا تكمل ، فليست بالعلة التَّامَّةِ التي لا تفتقر إلى آخر من خارج ، بل لا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ مِنَ المانع ما يُنْفَى ، أن تصح آلة السمع والنطق ، وأن يكون ثم أولا ما نَصَحَ من العقل فلا آفة في الدماغ وهو واسطة بها تأويل ما يقوم بالعقل من المعنى ، فالدماغ يعالجه بما يكون من إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ محكم ، فلا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ ، وإلا كان الاعتلال والمرض إذ يخرج المحلُّ عن حال الاعتدال إلى آخر يختل ، فيكون من ذلك ما آثاره تظهر في القول والفعل ، إما لِعِلَّةٍ أولى تَثْبُتُ ، فتكون تلك حاله ابتداء من المولِد ، أو لعلة أخرى تَطْرَأُ بِمَا يُصِيبُ العقلَ من الذهول لحزن يهجم أو فَرَحٍ يجاوز الحد .... إلخ ، أو يصيب الدماغ من العطب ، بما يكون من الهرم ، أو آخر يحدث بما يكون من طارئ يصدم ، كضرب آلة أو نحوه ، فكل أولئك موانع يجب انْتِفَاؤُهَا ، وثم آخر من الشرط يجب استيفاؤه ، فشرطها حصول التعليم بما يكون من التَّلْقِينِ تَارَةً ، وهو أقل ، والسمع أخرى ، فالطفل يعالج من المسموعات ما به مُعْجَمُ دلالاته يزيد ، فَكُلَّمَا زَادَ المسموع ، زَادَ المنطوق بَعْدًا فهو تأويلٌ لِمَا ثَبَتَ لدى المبدإ من المعاني التي عالجها وجدان الطفل بعد سماع أول من الأب والأم ومن أحاط ، فَثَمَّ المعلَّم وثم الملقَّن ..... إلخ ، فكل أولئك مما يرفد المحل يما يُخْرِجُ الوصفَ ، وصف النطق ، من القوة إلى فِعْلٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فهو ، كما تقدم ، الجائز لدى المبدإ ، وإن كان ثم تقدير أول يثبت ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ السَّبَبَ المرجِّح من خارج ، فكان من ذلك ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى سببٍ أول لا سَبَبَ لَهُ يَسْبِقُ ، فَثَمَّ افتقارُ المخلوق الذاتي ، فهو الوصف الذي لا يُعَلَّلُ ، فالمخلوق يفتقر إلى سبب أول يَقْدُمُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى الخالق الأول ، جل وعلا ، فَلَهُ من الوصف أولية تُطْلَقُ ، فَلَا تَفْتَقِرُ كَمَا أولية المخلوق ، لا تَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ من خارج ، بل المحال والأسباب كافة إليها تَفْتَقِرُ ، فَكَانَ من ذلك أوليةُ تَقْدِيرٍ في الأزل ، وأولية إيجاد تال يُرَجِّحُ ، فذلك وصف المخلوق المحدَث ، إذ الفقر وصف ذات له لا يُعَلَّلُ ، فَافْتَقَرَ إلى موجِد من العدم ، ومعلِّم من الجهل ، فالمبدأ جهل إذ أُخْرِجَ من الرَّحِمِ وهو لا يعلم شيئا ، وإن كان ثَمَّ رِكْزٌ أول من قُوَّةِ التَّعَلُّمِ والنطق ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ سَبَبًا به حصولُ تَالٍ من الفعل فهو يُصَدِّقُ ما كان أولا من تقدير القوة في العلمِ المحيطِ المستغرِق ، فيكون من ذلك ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى الخالق الأول ، إذ عنه تصدر المحال والأسباب كَافَّةً ، فهو الغني الغنى المطلق في الأزل ، فَلَا يُعَلَّلُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ يَسْبِقُ ، وهو المغنِي بَعْدًا بما يكون من وصفِ فعلٍ يَتَعَدَّى ، فَثَمَّ منه نَوْعٌ أول يَقْدُمُ ، وثم تال من الآحاد في الخارج يُصَدِّقُ ، وبه تأويل أول من المقدور قَدْ عَمَّ المحال والأحوال ، وما تُبَاشِرُ من أسباب ، ومن ذلك ما تَقَدَّمَ من قوة الغريزة التي رُكِزَتْ في الذكر والأنثى ، وبها حصول المباضعة طلبا للولد ، فلا ينفك الوصف ، وإن كان كمالا من وجه ، لا ينفك يحكي فَقْرًا ذاتيا لا يُعَلَّلُ ، وذلك ، بداهة ، ما تَنَزَّهَ عنه الرب المهيمِن ، جل وعلا ، لا جرم حكى الوحي المقال : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) ، فَأَضْمَرَ فلم يظهر ، إذ أَهْمَلَ شأنهم فهم أدنى أَنْ يُذْكَرُوا ، بل قد فَحُشَ مقالهم فكان إضمارهم أولى من الإظهار ، وهو تال يحكي من العموم ما يستغرق ، فلا يقتصر على الناطق الأول ، وإن كان أَوَّلَ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ العام يدخل ، فهو كالسبب الذي نَزَلَ عليه العام المستغرق ، فكان من ذلك ضمير الجمع المتكلم في "قَالُوا" ، وهو ما حُدَّ للجمع المذكر ابتداء بما كان من وضعٍ أَوَّلَ في اللسان المفهِم ، وثم من دلالة التغليب ما جاوز ، فذلك اعتقاد ، ولو باطلا ، وهو ما تستوي فيه المحال المكلفة جميعا ، المذكَّرَةُ والمؤنثة ، وثم من الإضمار ما يحكي آخر من الإطلاق فهو يستغرق كُلَّ مَنْ قَالَ ذلك ، سواء أَقَصَدَ الحقيقة أم المجاز ، فَثَمَّ من قال بالبنوة الحقيقية ، وثم آخر قد تأولها بالمعنوية ، فَقَالَ بالأقنومِ ، أقنوم المعنى ، ولو تَكَلَّفَ له من التأويل ما تَكَلَّفَ ، أَنْ يَحِلَّ اللطيف في ناسوت كثيف لا يَنْفَكُّ يعرض له من النقص ما رُكِزَ في جبلة الخلق ، وهو ما تَنَزَّهَ عنه ، بداهة ، وصف الرب ، جل وعلا ، ومنه الكلمة ، مع آخر يخالف عن ضرورات العقل المصرَّح ، أَنْ تُفَارِقَ الصفة الموصوف ، وتحل في آخر أو تَتَّحِدَ ، وَنِسْبَتُهَا إلى الأول لم تَنْقَطِعْ ، وهي للثاني لم تَتَّصِلْ ! ، فكل أولئك مما يخالف عن العقل المصرَّح ، وكلٌّ يدخل في عموم الولد ، فمنه المحسوس ومنه آخر يُعْقَلُ ، وذلك ما اطرد في مذاهب قد غَلَتْ فِي العرقِ والعنصرِ ، فَكُلٌّ يَزْعُمُ أنه الولد والحِبُّ ، كما كان من أهل الكتاب الأول ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، فَثَمَّ من ذلك بُنُوَّةُ المحبةِ والاصطفاء ، لا على قاعدة الإيمان والتقوى ، وبها الاصطفاء الذي اطرد في الأمم كافة ، فكان من ذلك اختيار لهم قد ثبت ، فـ : (لَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، وذلك اصطفاء به تعظم المنة ، ومناطه ، لو تدبر الناظر ، الوحي والنبوة ، فقد نصرهم الله ، جل وعلا ، على خصم قد بَغَى وعلا في الأرض ، وهو ما نص عليه الوحي في موضع آخر من الذكر المحكم ، فـ : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، فَثَمَّ التوكيد بالناسخ "إِنَّ" ، وهو نص في الباب ، فذلك المؤكد نصا ، لا جرم كان من حده في الإعراب أنه حرف التوكيد والنصب ، فَنَصَّ على المدلول المعنوي أولا ثم العمل النحوي تاليا ، وقد يَتَبَادَرُ منه أنه مؤكد اللفظ ، إذ حُدَّ منطوقا ومكتوبا ذا صوت وخط ، فذلك اللفظ الذي يُنْطَقُ ، وَثَمَّ ، كما يقول أهل الشأن في مراتب الوجود ، ثَمَّ وجود في الخارج ، وثم آخر في الذهن إذ يُعَالِجُ الحسُّ الحقيقةَ في الخارج ، فيكون ثم وجود في العين أو غَيْرٍ من الْحَوَاسِّ ، وثم ثالث يصدق بما يكون من وجود في الذهن يَثْبُتُ ، وثم رابع من وجودِ النطق الذي يُسْمَعْ ، وآخرها ما يكون من الْكَتْبِ الَّذِي يُسْطَرُ ، فَثَمَّ من معنى التوكيد ما يَقُومُ بِالنَّفْسِ ، ولا ينفك يطلب دليلا في الخارج يُظْهِرُ ، وذلك ما يكون من لَفْظٍ يُنْطَقُ ، وله من الوجود تَالٍ يُسْطَرُ ، فكان من ذلك نَصٌّ في الباب ، وهو الناسخ المؤكد ، فَثَمَّ من مدلوله توكيدٌ ، وثم آخر في العمل ، إذ ضُمِّنَ معنى الفعل ، فعل التوكيد على تقدير : أؤكد ، فذلك مما أَشْبَهَ به الحرفُ الفعلَ أَنْ ضُمِّنَ معناه ، فكان من ذلك أصل في قِيَاسٍ تَالٍ قَدْ تَنَاوَلَ العمل ، فَلَمَّا أشبهه في المعنى ، أشبهه في آخر من العمل ، فَقِيسَ عليه في النصب لَفْظًا إذ أشبهه أولى في المعنى توكيدا ، فَثَمَّ من لفظه ما يجري مجرى النص في الباب ، باب التوكيد ، وثم من المعنى إذ ضُمِّنَ معنى التوكيد ، وبعض يَتَنَاوَلُهُ أنه من المؤكِّد اللفظي ، إذ ثم حَدٌّ منطوق ، وآخر يَتَنَاوَلُهُ أنه من المؤكد المعنوي إذ ضُمِّنَ ، كما تقدم ، معنى التوكيد ، وعلى كلا الوجهين ، فإن الناسخ نص في الباب ، باب التوكيد ، وهو أُمُّ البابِ لَا جَرَمَ صُدِّرَ به الكلام ، فلا يزاحمه آخر من جنسه ، كما لام الابتداء ، وهي مما تمحض فيه معنى التوكيد اللفظي ، إذ لا تفيد معنى بعينه حَالَ الابتداء بها لَفْظًا ، وإنما زِيدَتْ في المبنى فَحَكَتْ زيادةً أخرى في المعنى ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، وقل مثله في حروفِ زِيَادَةٍ قد اصطلح أنها حروف تزيد ، لا أنها مما يَثْقُلُ بِهِ الكلام وَيَقْبُحُ ، فيكون منه زيادة لا تَنْفَعُ ، وإنما زيادتها ، أيضا ، زيادة مبنى تحكي أخرى تضاهي من المعنى ، ومنها حروف الجر الزائدة ، فإنها تفيد التوكيد لفظا ، وَجَرُّهَا لِمَا تَلَا من اللفظ : جَرُّ اللَّفْظِ لا المعنى ، فالمعنى لا يتغير ، فيكون من الإعراب ما يتناول اللفظ الذي يجر ، إذ يتأثر بالعامل الذي يسبق ، والمعنى ، مع ذلك ، سالم لم يتغير ، فإن كان فاعلا ، فهو الفاعل المجرور لفظا المرفوع محلا ، فذلك كسر المناسبة أن دخل عليه حرف الجر الزائد ، كما في آي من الوحي النازل أن : (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 7 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 03-14-2024 - 05:29 PM ]


فَثَمَّ من زيادة الباء ، باء الجر ، في الآي آنف الذكر : (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) ، وهي تحكي من الدلالة ما يَتَعَدَّدُ ، فمنها إلصاق ، ومنها تعليل ، ومنها مصاحبة .... إلخ ، كما حَدَّهُ أهل الشأن ممن صنف في معاني الحروف ، أو حروف المعاني ، وهي في الباب أخص ، إذ ثم من الإضافة قيد ، إضافة الحرف إلى المعنى ، فحرف المعنى أخص من حرف المبنى ، فكل حرف من المعنى هو حرف مبنى ولا عكس ، فحرف المعنى يَأْتَلِفُ من حروف مبنى ، وهي حروف المقطع التي تُفْرَدُ في المخرج والصوت ، فهي وحدة من الصوت تُفْرَدُ ، ومنها تَأْتَلِفُ الوحدات المركبة ، ومنها حروف المعنى ، فمنها ما هو واحد في المقطع ، كما باء الجر آنفة الذكر ، ومنها ما زَادَ ، كما "قَدْ" التي اخْتُصَّ بها الفعل ، وكما "فِي" التي اخْتُصَّ بها الاسم ، بل ومنها ما زَادَ ، فمن حروف المعاني ما ائْتَلَفَ مِنْ ثلاثةِ مقاطعَ من الصوت ، كما "إِنَّ" الناسخة ، وهي محل شاهد تقدم ، فَلَهَا في البابِ صَدَارَةٌ تُطْلَقُ ، فَلَا يَتَقَدَّمُهَا مُؤَكِّدٌ في النُّطْقِ أَوِ الْكَتْبِ ، فهي في الباب أول وما بعدها تَالٍ يَتْبَعُ ، فإذا اجتمعا أُخِّرَ الأضعفُ وَقُدِّمَ الأقوى ، وذلك قياس العقل الناصح في الترجيح حَالَ التعارض ، فالناسخ "إِنَّ" مما حَدَّهُ بَعْضٌ أنه مؤكِّد المعنى ، إذ نظر في المدلول ، فهي تعدل في الدلالة الفعل "أَكَّدَ" ، فدلالة التوكيد في الناسخ دلالة معنوية ، لا جرم عُدَّ من المؤكدات المعنوية لا اللفظية ، وله من العمل في النحو ما زَادَ ، فهو يعمل في اثنين ، وَذَلِكَ مَا يُقَرِّبُهُ من الفعل ، بل وَيَرْجُحُهُ فِي مَوَاضِعَ ، فَإِنَّ من الأفعال ما لا يتعدى ابتداء فهو يَلْزَمُ ، ومنه ما يتعدى إلى واحد ، ومنه ما يتعدى فيعمل في اثنين ، فهو ينسخ حكمهما إذ ينصب الاثنين ، سواء أكان أصلهما المبتدأ والخبر ، أم لم يكن ، وذلك ما تناوله أهل الشأن في مباحث من النحو ، فكان من الناسخ وهو الحرف "إِنَّ" ، كان منه ما زاد في العمل فَرَجَحَ بَعْضَ الأفعالِ ، إذ تعدى إلى اثنين أصلهما المبتدأ والخبر ، وإن لم يَقْوَ أَنْ يَنْصِبَ الاثنين ، فَنَصَبَ الأول وَرَفَعَ الثاني ، وهو في كُلٍّ يَعْمَلُ ، وكذا يُقَالُ في الفعل الناسخ ، فهو فعل في الدلالة المعنوية ، وله آخر من الدلالة الزَّمَانِيَّةِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِي المتصِّرف ، كما "كَانَ" إذ يأتي منه الماضي والمضارع والأمر ، وهو ، مع ذلك ، ناقص ، إذ لا يكتفي بمرفوعه ، فالمعنى لا يَتِمُّ به ، بل لا بد من تَالٍ يَرْفِدُ ، فكان من ذلك كَسْرٌ فِي الدلالة قد اسْتَوْجَبَ الجبرَ ، فَنَقَصَ في الدلالة والعمل ولم يَكْمُلُ ، إذ لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الخبرَ بعدَ المبتدإِ ، فَثَمَّ من ذلك باب يصدق فيه أنه النواسخ ، وهو ما استعير له في الدلالة اسم النسخ ، وهو في المعجم المفرد مادة يدور معناها على النقل ، فَنَسْخُ الكلامِ نَقْلُ ألفاظِه من كتاب إلى آخر ، فيكون من صورة المنسوخ ما يواطئ الأصل ، كما في قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فكان من ذلك شهادة تصدق ، فهي الصورة التي تحكي الأصل ، وثم من حروف الزيادة في "نَسْتَنْسِخُ" ما يحكي معنى أخص ، فَهِيَ مَئِنَّةُ الطلبِ ، فالألف والسين والتاء مما به يُسْتَجْلَبُ المعنى ، معنى الفعلِ الذي دخلت عليه ، فكان من ذلك طلب يحكي العناية بالمعنى ، إذ به العدل في إثبات القول والفعل ، فذلك سبب به الثواب والعقاب يثبت ، فهو يدور معه وجودا وعدما ، وذلك مما اسْتَوْجَبَ فِي المدلولِ : مدحا بالعلم المحيط المستغرق ، وهو أول قد أحاط بالمقدوراتِ كَافَّةً ، فَلَهَا وجود في العلم الأول ، وإن وجود القوة فليس ثم بعد تأويل يُصَدِّقُ ، فكان من تأويله الأول : أن يقع كما قد قُدِّرَ في الأزل ، فيكون من وجود الفعل في الخارج ما يصدق وجود القوة في الأزل ، وذلك إثبات لوصفٍ قد قَدُمَ ، فهو علم أول قد أحاط فاستغرق ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مما عَمَّ الواجب والجائز ، فَثَمَّ من الواجب ما دل عليه العقل ضرورة من وجود أول لا أول قبله ، وبه حسم لمادة في القياس المصرح تمتنع ، وهي التسلسل في المؤثرين أزلا ، وإلا كان العدم الذي يُنْكِرُهُ الحسُّ السالم من الآفة ، والقياس السالم من الخطإ والسفسطة ، فَثَمَّ من وجودِ هذا الكونِ المحدِث ما يدل ضرورةً عَلَى محدِث أول ، وثم آخر من الإتقان والإحكام ، وبهما دليل الاختراع والعناية ، وذلك ما يحكي من وصف الربوبية ما يَعُمُّ الأشياءَ كَافَّةً ، فَثَمَّ أول قد رَبَّهَا إِذْ خَلَقَهَا لا على مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فكان من هذا العالم ما هو أحسن ، وإن كان الخالق ، جل وعلا ، قَادِرًا عَلَى خلقِ آخرَ غيره ، بل وَكَثِيرٍ يَتَعَدَّدُ ، فَثَمَّ من القدرة ما تَنَاوَلَ الجائزاتِ كَافَّةً ، مِنْ خلقِ الأكوان وتدبير الأحوال ، وليس كُلُّ جائزٍ يحتمل فهو يقع ، بل ذلك التحكم أن يكون الترجيح بلا مرجِّح ، فالجائز لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا فهو على أصل أول يَقْدُمُ ، فليس ثم منه في الخارج إلا العدم ، وإن كان ثم ثُبُوتٌ أول في علم محيط قد استغرق ، وليس ثم تعارض ، إذ الجهة قد انفكت ، فَثُبُوتُ المقدوراتِ الجائزات في العلم الأول : ثُبُوتُ القوةِ لا الفعلِ ، فَلَيْسَ ثَمَّ بَعْدُ من الوجود في الخارج ما يصدق ، فَوُجُودُ قُوَّةٍ ، وهو يَعْدِلُ العدمَ في المدلولِ ، وإن كان عَدَمَ جائزٍ يحتمل بَعْدًا الوجودَ ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، فذلك ما يستصحب منه العدم أبدا ، فلا يدخل في حد القدرة ، لا أن ذلك عجز فهو مما تَنَزَّهَ عنه الرب ، جل وعلا ، وإنما القدرة تَتَنَاوَلُ المقدوراتِ الجائزاتِ ، لا المحالاتِ الممتنعاتِ ، فَلَيْسَتِ ابتداءً بِشَيْءٍ يَجُوزُ ، فلا يكون منها إلا مَحْضُ الفروضِ ، وهي تَدْخُلُ فِي حَدِّ العلمِ ، تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فإن من العلم ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ أجزاءَ القسمةِ كافة : الواجب والجائز والممتنع ، وأما القدرة فَلَا تَتَنَاوَلُ إلا الجائز الممكن ، كما هذا العالم المحدَث ، وعوالم أخرى ، الخالقُ ، جل وعلا ، على خَلْقِهَا يقدر ، ولكنه لم يشأ ، كما قَدْ شَاءَ خَلْقَ هَذَا العالمِ ، فأخرجه من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى وجود تال يُصَدِّقُ ، فما سواه من العوالم فَهُوَ الجائز الذي يحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج لِيُوجِدَ بَعْدًا وجودا تاليا يُصَدِّقُ ما كان من علم أول يُقَدِّرُ ، فلم يكن من ذلك سبب من خارج يُرَجِّحُ فهو يخرج تلك العوالم من العدم إلى الوجود ، كما قد خرج هذا العالم المنظور ، فوحده مَا رَجَّحَ الخالق ، جل وعلا ، فأخرجه من القوة إلى فعل تال يصدق ، فالله ، جل وعلا ، قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ غَيْرَ هَذَا العالم ، فَثَمَّ عوالم أخرى هي من الجائز المحتمل ، وإن كانت بَعْدًا من المحالِ الممتنِع ، فليس ذلك الامتناع الذاتي ، بل هي أولا من المعلوم المقدور للخالق ، جل وعلا ، ولكنه شاء ألا توجد ويوجد هَذَا العالم المشهود ، فصارت تلك العوالم الجائزة من المحال الممتنع لغير ، إذ لم يكن ثم ترجيح لها أن توجد ، وإنما ترجيح لغير من هذا العالم المحدَث ، فهو وحده المعلوم المقدور الذي شاء الله ، جل وعلا ، أن يخرجه من العدم إلى الوجود لا كغير من عوالم أخرى محتملة ، فالعلم يَتَنَاوَلُهَا تناول الفرض المحض ، وإن لم تكن من المحال الذاتي الممتنع ، ففرضها ليس فرض المحال لذاته ، وإنما فرض المحال لغير أن لم يكن ثم سبب من خارج يرجح ، فهي على أصل عدم أول كما المحال الذاتي ، وإن كانت من الجائز مبدأ النظرِ ، فامتاز فرضها من فرض المحال الذاتي من هذا الوجه ، فالمحال الذاتي مما يُفْرَضُ الْفَرْضَ المحضَ ، فليس يدخل في حد القدرة إذ ليس بشيء ، بادي النظر ، وإنما غايته أن يدخل في حد العلم الذي يَتَنَاوَلُ أجزاء القسمة كَافَّةً ، الواجب والجائز والمحال الممتنع لذاته ، فَثَمَّ من العلم ما أحاط بها ، ولو فرضا محضا ، أن لو كان هذا المحال الذاتي فما يكون من شأنه ، فالعلم أعم من القدرة ، فتناول ، كما تقدم ، عوالم أخرى لم تخلق ، فهي من العدم الذي لا وجود له في الخارج يصدق ، فلم يشأ الله ، جل وعلا ، أن يرجح فيها فَيُخْرِجَهَا من العدم إلى الوجود ، بل هي على أصل العدم الأول ، وإن لم تكن من المحال الممتنع لذاته ، فامتناعها ، كما تقدم ، لغير لا لذاتها ، فهي ابتداء من الجائز كما هذا العالم ، وإنما رجح أن كانت الحكمة البالغة في إيجاده دون غير ، وإن كان الله ، جل وعلا ، قادرا على كُلٍّ ، فَثَمَّ من العلم ما قَدَّرَ وثم من المشيئة ما رَجَّحَ ، وكان منه تأويل في الخارج ينصح ، وبه وجود تال يحدث ، وجود المقدورات ، وإن كان لها وجود أول في علم التقدير المستغرق ، فذلك وجود القوة ، أو هو نوع منها يقدم ، لا أعيان منها في الأزل تثبت ، وإلا كان من ذلك تعدد قدماء لدى المبدإ ، وذلك الشرك الذي يَنْقُضُ دِينَ النبوات كافة ، فمنه الشرك في الاسم والوصف ، ومن ذلك اسم الأول وما دَلَّ عَلَيْهِ من وصفِ أوليةٍ تُطْلَقُ ، فلا يكون ذلك إلا في حق واحد ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، الذي قَدَّرَ في الأزل ، فانفرد بأولية الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، ومن ذلك ما تَنَاوَلَ النوع ، كما وصف الفعل ، فإن من نوعه أول يقدم ، وإن لم يكن ثم بَعْدُ آحاد في الخارج له تصدق ، حتى يكون من المشيئة ما يرجح ، وعنه كلم التكوين ينفذ ، فذلك تأويل أول من علم محيط قد استغرق ، فكان من ذلك تأويل محدَث من عالم قد وجد بعد أن لم يكن ، وإن كان ثم وجود أول ، فلا يجاوز حد التقدير في العلم المحيط ، وذلك الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فله من وصف الأولية ما يطلق ، فكان من ذلك توحيد الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف ، فالأولية قد عمت كُلًّا ، الذات وما يقوم بها من المعنى ، ومنه وصف الذات الذي يقوم بها ، ومنه آخر من الفعل ، فنوعه أول يقدم ، وثم من آحاده بعدا ما يحدث ، فهي ما يُصَدِّقُ ما كان لدى المبدإ ، وهي ، من وجه آخر ، سبب به تأويل أول من المقادير ، وهي الجائزات ، فلا تنفك تطلب المرجِّحات ، فكان من ذلك ما تسلسل في التأثير حتى انْتَهَى إِلَى أول من الفعل يحدث ، وإن كان نوعه أولا يقدم ، فثم من المشيئة ما يرجح ، وثم من كلم التكوين تَالٍ ينفد ، فهو تأويل المشيئة التي ترجح في الجائز ، فتخرجه من العدم إلى وجود تال هو الشاهد ، فهو يصدق ما كان أولا من العلم المحيط المستغرق ، وبه وجود في الخارج يحدث بعد عدم أول ، وإن كان من الوجود ما قَدُمَ في الأزل ، فذلك التقدير في العلم المحيط المستغرِق ، فَثَمَّ من العلم ما أحاط بالمعلومات كَافَّةً ، ومنه العلم بالواجب ، وذلك ما استوجب توحيدا يَنْصَحُ ، إِذْ لَا واجِبَ لِذَاتِهِ إلا واحد ، وله من وصف القدم ما يُطْلَقُ فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل الأسباب والمحال كافة إليه تَفْتَقِرُ أَنْ يقدر في الأزل ، ويكون من الوجود تال يصدق ، ومن التدبير ما يحكم ، فَثَمَّ ضرورة في النقل الصحيح والعقل الصريح أن يُرَدَّ كل أولئك إلى أول لا أول قبله ، له من وصف الواجب ما هو لذاته فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، فتلك أولية قد انفرد بها واحد ، ولا يوجد هذا العالم ابتداء إلا أن يُرَدَّ إلى واحدٍ في التقدير والإيجاد والتدبير ، وَثَمَّ تَالٍ يَشْهَدُ ، فَإِنَّ من إتقان هذا العالم وإحكامه ما يحكي آخر من الوصف ، وصف الواجب ، فأوليته قد استغرقت الذات وما يقوم بها من الوصف ، فَثَمَّ من الإتقان والإحكام ما يدل ضرورة على أول من العلم الذي جاوز العلم بالكليات المجملة ، فَثَمَّ آخر قد تَنَاوَلَ الجزئيات المفصلة ، فكان من ذلك علم محيط قد استغرق ، ولا يكون ذلك إلا لواحد هو الأول ، وبه قَدَّرَ من هذا العالم ما أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ ، وَكُلُّ أولئك من الواجب ضرورةً فِي القياسِ المصرَّح ، وَلَا يَنْفَكُّ ، مع ذلك ، يطلب دليل الخبر من خارج ، فهو من الغيب ، بل ذلك أعظم الغيوب ، فلا تستقل بإثباته العقول ، وإن كان ثم من الضرورة الأولى ما يَثْبُتُ ، فذلك مِمَّا أُجْمِلَ ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب من خَبَرِ الوحيِ مَا يُفَصِّلُ ، فَكَانَ من نور الوحي رائدُ صدقٍ لِمَا قد ثَبَتَ ضرورة في العقل والفطرة ، وشهد له الحس بما عالج من آي في الآفاق والأنفس ، فكل أولئك ما يطلب ضرورةً : خالقًا هو الأول ، وله من وصف الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، له منه ما انفرد به توحيدا في الوصف ، أولية تطلق ، فلا يكون ذلك إلا لواحد وهو الخالق ، جل وعلا ، فما سواه فَأَوَّلِيَّتُهُ تُقَيَّدُ ، إذ لا تَنْفَكُّ بالعدم تُسْبَقُ ، وإن كان ثم تقدير في الأزل يَثْبُتُ ، فذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، عِلْمًا قَدْ أَحَاطَ فَاسْتَغْرَقَ ، فَتَنَاوَلَ من التقدير الأشياء كَافَّةً ، بَلْ وَعَمَّ المحال الذاتي ، ولو فَرْضًا محضا به التَّنَزُّلُ مع خصم يجحد ، فكان من أولية الخالق ، جل وعلا ، ما ثبت في الأزل ، فَلَهُ من ذلك وصف به قد انفرد ، توحيدا في التصور والحكم ، فمنه توحيد العلم ، فذلك التوحيد الخبري الذي يرفد القياس العقلي بما ينصح ، فيفصل ما أُجْمِلَ من ضروراته ، كما ضرورة في العلم تَثْبُتُ أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وَأَنَّ ثم تسلسلا يطلب الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، مع ما تقدم من إتقان وإحكام ، فلا ينفك يطلب من العلم ما يزيد ، فهو العلم بالجزئيات المفصلة فجاوز ما اقترحت الحكمة المحدَثة من علم بالكليات قد أُجْمِلَ ، وذلك من التعطيل الذي يقبح ، وقد سلكته المذاهب الأرضية المحدثة لما حادت عن جادة الرسالة المنزلة في باب خبري ، لا يُتَلَقَّى إلا من الوحي الرِّسَالِيِّ ، وإن كان من مدلوله الأول ما ثَبَتَ ضرورة في العقل المصرَّح ، فَثَمَّ من رِكْزِهِ مَا نَصَحَ ، وثم من الوحي رائد تال قد صَدَقَ ، فهو الهادي بِنُورٍ يَسْطَعُ في سماء العقل والوجدان ، فيصدق ما ثبت لدى المبدإ من العلوم الضرورية ، وهو بعدا يفصل ما أجمل منها ، وذلك ما استوجب توحيدا في المرجع ، أن يكون من الوحي واحد لا شريك له يثبت ، فوحده مرجع الخبر والحكم ، خبر الصدق وحكم العدل ، وأشرفه ما كان من أخبار الإلهيات ، فمنه ضروري قد دل عليه العقل والفطرة والحس بها عالج من آي الأرض والنفس ، وهو ، مع ذلك ، مما أُجْمِلَ ، فلا ينفك يطلب من الدليل ما يُفَصِّلُ ، فَثَمَّ من معالجة الآي في الخارج ما يَقْضِي ضرورةً بِإِثْبَاتِ علمٍ محيطٍ قد استغرق ، وهو ما تناول الجزئيات المفصَّلة كما الكليات المجمَلة ، فلم يكن منه تعطيل كتعطيل الحكمة الأولى التي اقتصرت في الإثبات على الكليات المجملة ، مع تال قد عَطَّلَ وصف القدرة ، فكان من الفعل ما اقْتَصَرَ على الطبع ، لا الإرادة والاختيار ، فالعلة الفاعلة في الحكمة الحادثة : علة فاعلة بالطبع اضطرارا ، لا بالإرادة والمشيئة اختيارا ، وعلمها ، كما تقدم ، لا يجاوز العلم بالكليات المجملة دون آخر قد تناول الجزئيات المفصلة ، وتلك ذريعة بها تعطيل تال من العلم المشرِّع الذي به القضاء في الخصومات ، فثم منه التحريم والإيجاب ، الإباحة والحظر ..... إلخ ، وهو ما تناول من الأحكام ما عَمَّ وما خَصَّ ، فكان من الوحي ما نصح إن في الأخبار التي تنصح قوى العلم ، أو في الأحكام التي تنصح قوى العمل ، فَثَمَّ من الأولى ما صدق ، وثم من الثانية ما عدل ، وثم من كلٍّ ما قد كَمُلَ في الأزل ، فهو مما قَدُمَ قِدَمَ الذات التي يقوم بها ، وإن كان من آحاده بعدا ما يحدث ، فهو ، كما تقدم في موضع ، تأويل أول من العلم المحيط المستغرق الذي تناول المقدورات الجائزات كافة ، بل والمحالات الذاتية الممتنعة ، ولو فرضا محضا في جدال خصم يجحد أو يسفسط ، وكذا ما تقدم من الواجبات ، وليس منها في الخارج ما يكون لذاته إلا واحد ، وهو الخالق الأول ، جَلَّ وَعَلَا ، فَلَهُ مِنْ ذلك أولية تطلق ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج يَقْدُمُ ، فكان من العلم ما أحاط بأجزاء القسمة العقلية الناصحة : الواجب والجائز والمحال الممتنع لذاته .

فكان العلم بالواجب : العلم بصفات الخالق ، جل وعلا ، فمنها صفات يدل عليها العقل ضرورة ، كما الأولية المطلقة حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فهي مما امتنع ، لا التسلسل في التأثير الذي يقوم بمؤثر واحد في الأزل ، فَثَمَّ من نَوْعِ فعله ما قَدُمَ ، وإن لم يكن ثم بَعْدُ من آحاده ما يصدق ، ومن مفعولاته في الخارج ما يحدث ، فهي المخلوقة المحدَثة بعدا ، وإن كان لها وجود أول يقدم في الأزل ، فذلك ما كان من علم محيط قد استغرق ، وبه تقدير المخلوقات المحدثات كافة ، فثم من تقديرها ما قَدُمَ في الأزل ، وثم من آحادها بَعْدًا ما يَصْدُقُ في الخارج ، فهو الموجود بعد عدم ، وذلك عدم الجائز الذي يطلب من المرجِّح ما به وجود يُصَدِّقُ التقدير الأول ، وذلك مما تسلسل حتى انْتَهَى ضرورةً إلى الأول الذي لا أول قبله ، فَلَهُ من ذلك وصف يطلق ، وهو ما قد عم أولية الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل ، فمن الفعل ، أيضا ، ما قَدُمَ نَوْعُهُ ، وله من الآحاد بَعْدًا ما يصدق بما كان من مَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ ، وعنها كلمات التكوين تَنْفُذُ فهي تأويل لتقدير أول قَدِ اسْتَغْرَقَ ، وعنها المخلوقات المحدثات بَعْدًا توجد في الخارج وجودا تاليا يُصَدِّقُ وجودا أول في العلم المحيط المستغرق ، فَثَمَّ من وجودها الأول ما يصدق أنه قديم لا قِدَمَ أعيانها ، وإنما قِدَمُ أول من التقدير وهو وصف الرب العليم الحكيم ، جل وعلا ، لا وصفها ، فلا توصف أعيانها بعد ذلك إلا أنها المخلوقة المحدَثة ، فَثَمَّ من وجود الأعيان في الخارج ما يحدث ، وهو ما يكون بعد عدم أول يَثْبُتُ ، وإن كان من الوجود أول ، فهو وجود التقدير نَوْعًا ، لا التكوين آحَادًا ، وإلا كان ما تَقَدَّمَ من شركٍ في وصف الأولية بما يكون من قدماء في الأزل تكثر ، فَثَمَّ من العلم المحيط المستغرق في الأزل ما تَنَاوَلَ الواجب والجائز والممتنع ، ومن الواجب ما هو أول لذاته ، فوجوده الذاتي الذي لا يعلل ، وثم من ذلك ذات قدس أولى وصفها القدم المطلق ، وكذا ما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، وإن كان من ذلك ما تَفَاوَتَ في الوصف ، فمنه ما هو صفة ذات لَا تُنَاطُ بالمشيئةِ ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنْهَا آحاد في الخارج تحدث ، كما وصف الحياة ، وهو أصلٌ لكلِّ صفةٍ في الباب تَثْبُتُ ، إِنْ ذَاتِيَّةً أو فِعْلِيَّةً ، ومنه ما هو صفةُ فعلٍ ، فَنَوْعُهَا أول يقدم ، ولها في الخارج آحاد تصدق ، إذ تناط بمشيئة تُرَجِّحُ ، وعنها الكلمات تَنْفُذُ ، وهي ، لو تدبر الناظر ، حكاية توحيد في الباب يَنْصَحُ إِذْ قَدْ عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فإن من الكلمات : كلماتُ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وهي تأويل لوصف ربوبية يُقَدِّرُ وَيُوجِدُ وَيُدَبِّرُ ، فَثَمَّ من ذلك دليل الاختراع لا على مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك التصوير الأخص بعد إيجاد أول وهو أعم ، وثم دليل العناية بما يكون من تدبير المحال أَنْ رُكِزَتْ فِيهَا من القوى ما يَقْبَلُ ، وَقُدِّرَ لَهَا من الأسبابِ ما يعالج بما رُكِزَ فِيه من قوى تُؤَثِّرُ ، فكان من ذلك حكمة في التكوين والتصوير والتدبير ، فتلك ربوبية قد عمت ، وهي تأويل ما كان من الآي المصدق ، فـ : (هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ، ومن الكلمات أخرى هي كلمات تشريعٍ تَحْكُمُ ، وهي تأويلٌ لِوَصْفِ ألوهيةٍ بِهَا التكليف قد تَوَجَّهَ ، أن يكون ثم تصديقٌ بخبرِها وامتثالٌ لحكمِها ، فتلك معادن الصدق في التصور ، والعدل في الحكم ، وذلك ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الحكومات كَافَّةً ، ما عَمَّ وما خَصَّ ، فكان من ذلك الصلاة والنسك والمحيى والممات ، فَثَمَّ من الألوهية ما به العبودية تَنْصَحُ ، ولها من النصوص ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فَهِيَ ، كَمَا حَدَّهَا بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، الاسم الجامع لكل ما يُحِبُّ الله ، جل وعلا ، وَيَرْضَى ، مِنَ القولِ والعملِ ، مَا بَطَنَ منه وما ظَهَرَ ، فحصل من ذلك مجموع قد ائْتَلَفَ من توحيدِ العلم وتوحيدِ العمل ، وهو المجزِئ في حصول اسم ديني يَنْفَعُ ، فذلك في التكليف هو المبدأ ، ولا يكون ذلك إلا بعد كُفْرٍ أول يَتَقَدَّمُ ، الكفر بالطاغوت الذي جاوز الحد في التصور والحكم ، إِنِ المحسوسَ أو المعقولَ ، فيكون الكفر بَأَوَّلٍ من مرجع الوضع المحدَث الذي لا يجاوز ، فَلَيْسَ يُدْرِكُ الغيبَ الذي لا تُطِيقُهُ مَدَارِكُ الحسِّ المحدَث ، وقد صَيَّرَهَا الخصم دليل الإثبات الأول ، بل والأوحد تَحَكُّمًا فِي الاستدلالِ أَنْ صَيَّرَ عَدَمَ العلم عِلْمًا بالعدمِ ، فما لم يدرك بدليل الحس فليس له وجود في الخارج يصدق في نفس الأمر ! ، وإن كان ابتداء من غيب لا يطيقه الحس ، فلا ينفك يطلب مرجعا من خارج العقل والحس يجاوز ، فذلك الوحي النازل بأخبار الصدق وحكومات العدل ، وليس يُتَلَقَّى إلا من مشكاة الوحي ، وإن كان منه ضروريٌّ أول قد رُكِزَ في الوجدان بما كان من فِطْرَةِ التَّأَلُّهِ ، فَهِيَ لِضَرُورَاتِ العقلِ في قصة الخلق تعدل ، فكلٌّ مِمَّا أُجْمِلَ في الوجدان ضرورةً فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ مِنَ الدليلِ مَا يُفَصِّلُ ، فلا يكون ذلك إلا خبر الوحي وحكمه ، وبه تَنْصَحُ المحالُّ كَافَّةً ، إِنِ التصور بما يَرِدُ من الخبر الصادق ، أو الحكمَ بما يَرِدُ من الإنشاء العادل في باب الأمر والنهي ، فَثَمَّ من ذلك توحيد قد استغرق ، وهو ما يجحد الطاغوت المحدَث إذ عَارَضَ الوحيَ المنزَل بما كان من وضعٍ محدَث ، فَاسْتُبْدِلَ في الْفَرْقِ ، وهو ضروريٌّ لَدَى الخلق ، كما قال بعض من حقق ، إذ يميز في الوصف حُسْنًا وَقُبْحًا ، والحكمِ إباحةً وحظرًا ، فَاسْتُبْدِلَ فيه الوضع المحدَث بالوحي المنزَل ، وهو ما قد عمت به البلوى وَعَظُمَتْ فِي جِيلٍ قد تَأَخَّرَ إذ كان من الحداثة ما يَطْغَى ، فَعُطِّلَتْ لأجلها الرسالة ، وَخُولِفَ عن القياس المصرح الذي يَقْضِي ضرورةً أَنْ يُرَدَّ المتشابِهُ إلى المحكَم ، متشابِهُ الأهواء والأذواق المحدَثة إلى محكم الأخبار والأحكام المنزلة ، فَثَمَّ من ذلك علم محيط قد استغرق المقدورات كَافَّةً ، فَمِنْهَا الكونية النافذة ، وَمِنْهَا الشرعية الحاكمة ، وَكُلٌّ تَأْوِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ من وصفِ الواجب الأول ، وصفِ الخالق المهيمن ، جل وعلا ، وثم من العلم ما تَنَاوَلَ شطرا تاليا في قسمة العقل ، فَثَمَّ العلم بالجائز ، وهو ما كان من تقدير أول في الأزل ، فكان من العلم مَا أَحَاطَ فَاسْتَغْرَقَ المقدوراتِ كَافَّةً ، بل والمحالات الذاتية استيفاءً لأجزاءِ القسمةِ العقليةِ ، فَتَنَاوَلَهَا العلم المحيط الأول ، ولو فَرْضًا يُتَنَزَّلُ بِهِ في جدالِ خصمٍ يجحد أو يسفسط ، فكان من العلم ما تَنَاولَ أجزاءَ القسمةِ كَافَّةً ، ومحل الشاهد منها : الجائز الذي قُدِّرَ في الأزل ، فذلك محل أول فيه قَدْ ثَبَتَ ، وثم تال فيه قد نُسِخَ ، وهو لوح التقدير المحكم ، وذلك القدر المبرم ، وثم ما كان من صحف الملَك ، وفيها نسخ المقادير نسخ التعليق لا الإبرام ، وثم من تأويلها في الخارج ما يحدث ، فيكون من السبب ما يُرَجِّحُ فِي الجائزِ مبدأَ التقديرِ ، فَيَصِيرُ ذا وجود في الخارج يشهد ، وفيه يصدق أنه الواجب لا لذاته وإنما لِمَا احْتَفَّ به من قرينةِ إيجابٍ مِنْ خَارِجٍ تُرَجِّحُ ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً في الأزل إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وثم من المحل بَعْدًا ما يَنْسَخُ الملَك من قول وعمل ، فهو يصدق ما كان من تقدير أول في الأزل ، وثم من الكتاب جامع يشهد ، فهو بالقول والعمل يَنْطِقُ ، كَمَا تَقَدَّمَ من آيٍ قَدْ أُحْكِمَ ، فـ : (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فَثَمَّ من ذلك كتاب جامع لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، وهو ما تناولته إشارة القريب في "هَذَا" ، فذلك آكد في الإثبات والتقرير ، وثم من إضافته إلى ضمير الجمع في "كِتَابُنَا" ما به التعظيم ، وهو ما حَسُنَ في سياقِ الإحاطةِ بالعلم فتلك مَئِنَّةُ كمالٍ في الوصف ، وَثَمَّ من القيد ما يميز ، وبه الاحترازُ مِنْ ضِدٍّ ، فهو الناطق بالحق ، وهو ، كما يقول بعض من أَعْرَبَ ، ما ضُمِّنَ فِي الدلالة معنى الفعل "يَشْهَدُ" ، فكان من القيد بالحال "يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ" ما يميز ، وثم من يجريه مجرى الإطناب في الإخبار ، فذلك خبر ثان يعقب ما كان من خبر الكتاب الأول ، فاحترز به من ضد ، فَلَيْسَ كتاب باطل يظلم ، بل قد : (وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ، وثم تال يستأنف في قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التعليل لما تقدم ، فهو جواب سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من نطق هذا الكتاب بالحق ؟! ، فكان الجواب لِأَنَّنَا : (كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فَثَمَّ من الناسخ "إِنَّ" ما أَكَّدَ ، وله من الدلالة ثان يُعَلِّلُ ، وبه يستأنس ، من وجه ، من يُجَوِّزُ العموم في دلالة المشترك من اللفظ ، فَثَمَّ لفظ واحد قد دَلَّ على أَكْثَرَ من معنى ، وهو ما حَسُنَ فِيِه ، أيضا ، الإسناد إلى ضمير الجمع في سياق تعظيم قد تَنَاوَلَ الذات والوصف ، وثم من زيادة آخر ينسخ ، وهو عامل الكينونة الماضية في "كُنَّا" ، فزيادتها مبدأ النطق : زيادة مبنى تدل على أخرى تضاهي في المعنى ، ولها من المعنى مدلول أخص ، إذ تحكي ديمومة الوصف في زَمَنٍ قد مضى ، وذلك آكد في تقرير المعنى ، وثم من الإطناب ما زاد في التوكيد ، فكان من ذلك اسمية الجملة ، فتقديرها قبل دخول الناسخ : نحن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ، وثم من الإطناب آخر في خبر الناسخ ، إذ حُدَّ حَدَّ الجملة الفعلية التي فعلها ماض ناسخ : (كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) ، وكذا يقال في خبر "كَانَ" الناسخة ، إذ حُدَّ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً : (نَسْتَنْسِخُ) ، وَكُلٌّ قد أُسْنِدَ إلى ضميرِ الجمعِ وبه التعظيم ، من وجه ، وبه يستقيم السياق من آخر ، أن يكون من الإسناد واحد ، فكلٌّ قَدْ أُسْنِدَ إلى ضمير الجمع ، وثم من العموم ما تناول المنسوخ ، فتلك دلالة الموصول "مَا" في قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، وقد حُدَّ لِمَا لا يُعْقَلُ ، فذلك وصف القول والعمل ، إذ لا يقوم في الخارج إلا بِذَاتٍ تُوصَفُ به ، والصفة ، ومنها القول والعمل الذي يقوم بذات القائل والعامل ، الصفة مما يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ غيرِ العاقلِ ، فَحُدَّتْ حَدَّ الموصولِ "مَا" ، وهو في غَيْرِ العاقلِ نَصٌّ ، وثم إطناب آخر بالكينونة الماضية في "كُنْتُمْ"، وذلك آكد في تقرير المعنى من القول في غيرِ الوحيِ المنزَلِ : إنا كنا نَسْتَنْسِخُ ما تعملون ، وثم من دلالة المضارعة ما به استحضار الصورة في سياق التقرير ، وذلك آكد في تقرير المعنى من القول في غير الوحي المنزَل : إنا كنا تَسْتَنْسِخُ ما عملتم ، وثم من دلالة العمل ما يجري مجرى خَاصٍّ يُرَادُ به عامٌّ يَسْتَغْرِقُ ، فذلك ما تناول حركات الاختيار كافة من القول والعمل ، فذكر العمل ، وقد دَلَّ على نفسه أصالةً ، وعلى قسيمه في الحد من القول نِيَابَةً ، فَذَكَرَ واحدا من أجزاء القسمة وحذف الآخر ، إذ دل المذكور على المحذوف ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، فهي تَقِي الحر والبرد ، فذكر شطرا وحذف آخر ، إذ قد دل المذكور على المحذوف ، فهما مما يقترن في الوجود ، فأحدهما يستجلب الآخر ضرورةً ، وكذا القول والعمل ، فَهُمَا شَطْرَا حقيقةٍ من التكليفِ تَثْبُتُ ، فمنه القول الذي يَصْدُقُ ، ومنه العمل الذي يَصْلُحُ ، والعمل ، من وجه آخر ، مما يجزئ في الدلالة وَحْدَهُ ، إذ ثم من العمل : عَمَلُ اللسانِ إذ يَنْطِقُ ، فيكون من قوله ما يُصَدِّقُ ، وذلك عمل في الخارج يَثْبُتُ ، فكلٌّ مما يَسْتَنْسِخُ الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فكان من ذلك ما زِيدَ في حَدِّهِ حروفُ زيادةٍ بها المعنى يُطْلَبُ ، وذلك آكد في تقريرِه وتوكيدِه ، فزيادتها ، مبدأ النظر ، زيادة مبنى تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، وَثَمَّ دلالة أخص ، بما كان من طلب الفعل ، وهو ما حُمِلَ في هذا الموضع عَلَى النَّقْل ، ومنه نقل من كتاب إلى آخر ، ومنه نقل صورة لما ثبت في الخارج ، وكلٌّ في هَذَا الموضع يَثْبُتُ ، فَثَمَّ نَقْلٌ من كتاب التقدير المحكم إلى آخر يشهد ، وفعل العبد بينهما يُصَدِّقُ ما كان من تقدير أول ، وهو المثبَت بَعْدًا في كتاب آخر يشهد .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 8 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 03-20-2024 - 05:10 PM ]


فكان من دلالة العمل ختامَ الآية : (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، كان منها ما تناول حركات الاختيار كافة ، وذلك مما يجري ، من وجه ، مجرى المجاز ، إذ كان من مدلول الضمير في "تَعْمَلُونَ" ما دل بأصل الوضع الأول على الجمع المذكر ، فواو الجمع نَصٌّ فيه ، وثم من القرينة ما جَاوَزَ المدلول الأول ، فهو ما استغرق كل محل قد صَحَّ تَوَجُّهُ التكليفِ إليه ، وهو ما عم فَتَنَاوَلَ المذكر والمؤنث ، وَإِنْ نَصًّا أخص في اللسان على المذكر ، فكان من ذلك خاص يُرَادُ به عام يتناول الجميع بما كان من قرينة العموم في خطاب التكليف ، وهو ما يجري مجرى المجاز ، فمنه مجاز الخصوصية إِذْ أَطْلَقَ الخاص وَأَرَادَ به العام الذي يستغرق آحاده كافة في الخارج ، ومن ينكر المجاز فهو يجري ذلك مجرى عرف من اللسان أخص ، وهو حقيقة في الحد تَقْضِي في حقيقة من اللسان أعم ، فكان من العرف ما اشْتُهِرَ في التَّدَاوُلِ ، ومنه التغليب ، فَخِطَابُ الجمعِ المذكَّر تَغْلِيبٌ بالنظر في جمعِ المخاطَبين ، إذ يغلب عليه الرجال فالأصل فيهم الاشتهار ، لا النساء فالأصل فيهم الاستتار .
وثم آخر قد احْتَمَلَ المجازَ عند من يُثْبِتُهُ في اللسان والوحي ، إذ أَطْلَقَ الخاص وهو العمل ، وهو شطر من الاختيار ، إذ ثم منه الاعتقاد الباطن ، وآخر يظهر من اللِّسَانِ إذ يَنْطِقُ أو يَسْكُتُ ، فالسكوت ، كَمَا قَرَّرَ أهل الشأن ، قد يفيد من البيان ما يُفْصِحُ ، فيكون السكوت في أحيان أَبْلَغَ من المنطق ، فالسكوت في موضع البيانِ : بَيَانٌ ، وهو ما يقع من العبد اختيارا ، كما النطق ، وإن كان على ضِدٍّ ، فالترك فعل ، كما يقول أهل الشأن ، إِنْ تَرْكَ القولِ في موضع البيان ، أو ترك الفعل ، فصار من الترك ما به تخلية المحل ، وذلك مما يُرَادُ ، وَإِنْ لِغَيْرٍ ، فالنفس قد خُلِقَتْ لِتَفْعَلَ لا لِتَتْرُكَ ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، فَثَمَّ من جنسِ التَّرْكِ مَا عَمَّ فاستغرق فَتَحْتَهُ من الآحاد ما يَتَعَدَّدُ ، فَثَمَّ ترك في الاعتقاد ، فيكفر بالمتروك ، وبه تخلية المحل ، فلا ينفك يطلب بعدا ما يشغل ، فيكون منه تحلية بعد تخلية أولى بها المحل يشغر ، وليس في النفس شغور ، فلم تخلق ، كما تقدم ، للتروك ، وإنما خلقت لضد من الأفعال ، وذلك ما عم فَتَنَاوَلَ المحال كافة ، فإذ كان ثم تَرْكٌ في الاعتقاد به الكفر بالمتروك ، كما الكفر بالطاغوت ، وهو فعل أول به المحل يُخَلَّى قَبْلَ أَنْ يُشْغَلَ بضد ، فيكون من ذلك إيمان بالله ، جل وعلا ، فكان من ذلك شرط قد تركب ، فثم أول به التخلية ، فـ : (مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) ، وثم تال به التحلية : (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) ، فَكَانَ تَرْكُ الطاغوت شطرا أول من الاعتقاد يثبت ، وَثَمَّ منه فعل ، إذ كان بالإرادة التي تَعْدِلُ عن المتروك وَتَنْتَحِلُ ضِدًّا هو المفعول ، فلا يكون تَرْكٌ لِذَاتِهِ ، فَلَيْسَ ذَا حال النفس ، فقد جبلت ، كما تقدم ، على الفعل لا الترك ، فَثَمَّ كُفْرَانٌ وجحود بالطاغوت ، فذلك ترك أول ، وبه المحل يَنْصَحُ إذ يَسْلَمُ من مادة الباطل ، وعنوانها الجامع : عنوان الطاغوت الذي يجاوز به العبد الحدَّ ، إذ يكون الغلو الذي يَسْتَغْرِقُ الطاعة والاتباع والعبادة ، فَإِنَّ من الطاعة دِينٌ بِهِ يَتَعَبَّدُ الطائع ، فَهُوَ يُسْلِمُ القياد لمن يطيع ، ويكون من الاتباع ما يطلق ، فهو في هذه الحال المقلِّد الذي لا يسأل عن الدليل ، وذلك مما يحمد إن كان تقليدا لمعصوم ، فكان من البحث ابتداء ما يجتهد صاحبه أَنْ يُحَرِّرَ مناطَ العصمةِ الناصحَ ، فيسبر ويقسم ، ويكون من ذلك جمع لطرق الباب ، فالأدلة تَتَضَافَرُ لتفيد من الدلالة مجموعةً ما لا تفيد منفردةً ، فَثَمَّ من الدليل المفرد ما استوجب نظرا يحقق ، فهو يتناول صحة النقل أولا ، وثم آخر يعضد ، وهو ما يواطئ العقل المصرح ، فلا يجوز فِيهِ خلاف بين نقل صحيح يخبر بغيب يجاوز مدارك العقل والحس ، فيخبر بالمحار لا المحال ، فإن من عدم العلم بالدليل الأخص ، وهو في الغيب دليل الخبر المصدق ، فإن من عدم العلم به ما يُوجِبُ التَّوَقُّفَ ، فَثَمَّ أول من العقل يجوز ، وإن حَارَ في الحقيقة والكيف ، فَثَمَّ جائز في العقل مبدأَ النظرِ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فإذا لم يكن ثم مرجِّح من الخبر ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، فالجائز مما يتوقف فيه الناظر ، فيستصحب فيه عدما هو الأول ، لا عَدَمَ المحال ، وإنما عدم الجائز الذي يحتمل الإثبات إذا كان ثَمَّ دليل مُثْبِتٌ ، وإلا وَجَبَ التَّوَقُّفُ ، فَاسْتُصْحِبَ العدمُ حتى يكون ثم دليل من خارج يرجح ، فإن لم يكن عند واحد ، فقد يحصل لدى آخر ، فيبلغه من الدليل المثبِت ما لم يبلغ الأول ، ومن علم فهو حجة على من لم يعلم ، فليس عدم العلم بالشيء يَسْتَلْزِمُ العلمَ بالعدم ، بل قد يكون ثم دليل يثبت ، وهو مما يجاوز دليل العقل لا أنه يأتي بما يخالف عن قياسه المصرح ، وإنما يأتي بما يحار العقل في حقيقته وكيفه ، فيجاوز العقلَ في الإثبات الأخص ، لا في التجويز المحض ، فمن العقل أولٌّ يُجَوِّزُ ، وهو ما استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فَثَمَّ من الدليل ما يجاوز العقل والفطرة والحس ، وإن كان من الغيبِ ما يَثْبُتُ جملة في الفطرة الناصحة ، والقياس المصرح ، والحس السالم من الآفة ، ولو الاستدلالَ بالأثر على المسير ، فإن من آي الآفاق والأنفس ما يدل ضرورة على خالق مقدِّر هو الأول ، فلا أول قبله ، فإن المحدَث لا ينفك يطلب المحدِث ، وهو مما في الخارج يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي ضرورة إلى أول لا أول قبله ، فالأسباب كافة عنه تصدر ، صدور المخلوق الحادث عن الخالق ، وهو الخالق بالفعل المؤثِّر لا بالطبع المجرَّد ، كما اقترحت الحكمة الأولى التي غَلَتْ في التعطيل ، فاقترحت المطلق بشرط الإطلاق ، ولا وجود له في الخارج يجاوز ، فليس إلا الوجود الذهني المجرد ، وليس ذلك بشيء في الخارج يثبت ، فلم يكن إلا العدم الذي جُرِّدَ من الوصف المقدِّر في الأزل فلا علم أول يحيط ، وإنما علم كُلِّيٌّ هو المجمل ، فلا يكون الخلق إلا بعلم جزئي هو المفصَّل ، وكذا تناول التجريد الوصف المؤثِّر بإرادة ترجح ، فلم يكن من فعل تلك العلة المجردة إلا فعل الطبع اضطرارا ، فَثَمَّ من خبر الرسالة المنزلة ما واطأ مقدمات العقل المصرحة ، أن ثم من التقدير والتأثير ما لا يكون إلا عن خالق أول له من الوصف ما جاوز التجريد الذهني الذي اقترحته الحكمة الأولى ، فَثَمَّ من وصف الخالق الأول : علم محيط قد استغرق ، ومشيئة تالية ترجِّح ، فَثَمَّ من آحادها ما يحدث ، وهو المصدِّق لما قَدُمَ من نوعها ، المظهِر لما كان من تقدير أول قد تناول المقدورات الجائزات كَافَّةً ، فَثَمَّ من المشيئة ما تأول العلم الأول ، وهو ما جاوز الإيجاد المطلق ، فَثَمَّ من الإتقان والإحكام ما يعالجه الحس ، ويكشف عنه التجريب والبحث ، فَلَيْسَ له يُؤَسِّسُ ، بل هو عنه يكشف ، إذ يُظْهِرُ مَا كان خافيا من دقائق الحقائق ، وسنن التدبير التي بها الفعل والتأثير ، فكل أولئك مما يعالجه الحس ، فهو شاهد ، وإن لم يدرك حقيقة الغيب ، فهو يُثْبِتُ مِنْهَا المجمل ، كما العقل المصرَّح والفطرة الناصحة ، فكل أولئك مما يدل دلالة الإجمال على غَيْبٍ يجاوز ، وهو وجود الرَّبِّ المدبر الخالق ، جل وعلا ، فهو أول لا أول قَبْلَهُ ، وله من الكمال الذاتي ما لا يعلل ، وهو ما قَدُمَ في الأزل ، وَثَمَّ من ذلك ما تَنَاوَلَ الأسماء والصفات والأفعال والأحكام ، وإن كان من بعضٍ : آحاد تحدث ، فَثَمَّ من النوع أول يَقْدُمُ ، فالآحاد تأويل له في الخارج يصدق ، لا إكمال لما كان ناقصا لدى المبدإِ ، فذلك وصف المخلوق المحدَث لا الخالق المدبِّر ، جل وعلا ، إذ له من الكمال أول يطلق ، فلا يقاس على المخلوق المحدَث الذي يكون منه لدى المبدإ : عدم في الخارج ، وإن كان ثم وجود أول في علم التقدير المستغرق الذي تَنَاوَلَ المقدُورات كافة ، المحال والأسباب ، وما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى تُعَالِجُ ، فَثَمَّ من ذلك سَنَنٌ محكم في تأثير السبب وقبول المحل ، وذلك أصل يطرد في الحكومات كافة ، وَاضْرِبْ لَهُ المثل بالدواء ، فهو سبب في حصول الشفاء وزوال المرض ، إذ رُكِزَتْ فِيهِ قوى تُؤَثِّرُ ، وَكَانَ في المحل أخرى تَقْبَلُ ، فيكون من ذلك تَلَاقٍ به الشفاء يَثْبُتُ ، وهو ما لا يستقل بالفعل والتأثير ، بل لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ شرطا يُسْتَوْفَى ليقبل المحل آثار الدواء ، ومانعا يُنْفَى ، وإلا لم يصب الدواءُ الداءَ ، وإن باشر المحل ، فَثَمَّ من المانع ما عَطَّلَ ، فحصل من ذلك مجموع مركب ، فَثَمَّ المحل الذي يَقْبَلُ ، وثم السبب الذي يُبَاشِرُ ، وَثَمَّ الشرط الذي يُسْتَوْفَى ، وثم المانع الذي يُنْفَى ، فَحَصَلَ من ذلك مجموع مركَّب قد اصطلحَ أهلُ الشأنِ أنه العلة ، وهي ما استوجب أولا يَتَقَدَّمُ ، فهي المحدَث الذي لا يَنْفَكُّ يطلب أولا هو المحدِث ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ فيجاوز حَدَّ الشهادةِ ، ويكون من السبب أول هو المغيَّب ، وذلك ، أيضا ، مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، وإلا لزم من ذلك عدم في الخارج ، فلا وجود يَثْبُتُ فِي نَفْسِ الأمرِ ، وهو ما يُفْضِي إلى فساد في العقل ، وسفسطة في القول ينكر صاحبها مبادئ الضرورة التي يعالجها بحواسه ! ، فَثَمَّ من ذلك ما أُجْمِلَ في العقل المصرح والفطرة الناصحة والحس السالم من الآفة ، وإن تَكَلَّفَ مَنْ تكلف إذ سلك جادة الحداثة أن يجفو دليل النقل ، فلا يقيم وَزْنًا إلا لدليل الحس ، وهو ما يخالف عن مقدمات الضرورة العقلية الناصحة ، كما تقدم من نَفْيِ التلازم بين عدم العلم والعلم بالعدم ، فلا يتلازمان في الوجود والعدم ، بل قد يكون ثم عَدَمُ علمٍ يُعَالِجُ صاحبه من الدليل ما لا يُثْبِتُ ، لا أن الدليل في نَفْسِهِ فاسد ، بل المعلوم له يجاوز ، وذلك مما اطرد في مباحث العلوم كافة ، ولو المدركةَ بالحسِّ التي عظمتها الحداثة وصيرتها الأصل إذ اتخذت الجسد رائدا في الإثبات والنفي بما عَالَجَ بِحَوَاسِّهِ ، فإن من عدمِ العلمِ في مواضع ، إذ ثم جمل من الظواهر التي لا يدركها الحس إذ يباشر بلا واسطة من آلة ، ثم منها ما هو غيب مبدأ النظر ، فكان قَبْلًا من المغيَّب الذي لا يدرك بالحس المحدَث فلم يكن عدما حتى عالجه الحس بما عضد من آلة البحث ، فالحس المعضَّد له يكشف ، لا أنه يُؤَسِّسُ فَمِنَ العدم ينشئ ، بل هو الموجود قَبْلًا ، وإنما كان من الدليل ما عنه يكشف ، وإن لم يدركه دليل الحس المجرَّد ، فثم آخر منه قد اعتضد ، فكان من الدليل أول لا يُثْبِتُ ، وهو دليل الحس المجرد ، وثم من زيادة الدليل ما اعتضد بالآلة ، فصار المغيَّبُ من الشهادة ، فلم يكن عدما قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ ، بل كان ثَمَّ وجودٌ وإن لم يُدْرَكْ بالحسِّ المجرَّد ، ثم صار المشهود بما اعتضد به من آلةِ البحثِ والنظرِ ، فلم يكن عدم العلم بما عالج الحس المجرد ، لم يكن علما بالعدم ، بل ثم وجود قد كشفه بَعْدًا الحسُّ إذ اعتضد بالآلة ، وهو ما يدحض دعوى الحداثة ألا مُدْرَكَ إِلَّا ما يُعَالِجُ الحس ، وَأَلَّا غَيْبَ يجاوز مدارك الجسد ، بل ثم غيب ، وَإِنْ نِسْبِيًّا في هذا العالم ، فلم يكن من عدم وجدانِه بالحس دليل أنه المعدوم في نَفْسِ الأمرِ ، فَلَا يَلْزَمُ من ذلك علم بالعدم ، بل قد ثَبَتَ بدليل آخر ، وهو ما عَالَجَ من آلة البحث والنظر ، وعلى هذا فَقِسْ في مباحث الغيب المطلق ، فليس عدم العلم بالدليل فِيهَا عِلْمًا بالعدم ، بل ثم منها ما يَثْبُتُ بدليلٍ آخر يجاوز ، وإن كان من أدلة العقل والفطرة والحس ما يشهد ، فتلك شهادة الإجمال فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ مَا يُفَصِّلُ ، وهي ، من وجه آخر ، شهادةُ التجويزِ المحضِ ، وهو مما اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الاحتمالِ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ المرجِّح من خارج ، وهو دليل الخبر الصادق ، وإلا كان التَّوَقُّفُ في الجائزات من المغيَّبات التي لا يَتَنَاوَلُهَا الحسُّ المحدَثُ ، فكان التوقف إذ لم يكن ثم دليل أخص ، وهو في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فَوَجَبَ التوقف فلا إِثْبَاتَ وَلَا نَفْيَ ، ووجب استصحاب عدم أول ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، وإنما عدم الجائز الذي يقبل الإثبات إذا كان ثم دليل يرجح ، فلا يكون من ذلك تحكم يُرَجِّحُ في الباب بلا مرجِّح ، فَثَمَّ من الأدلة في بابِ الغيبِ ما أُجْمِلَ ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب آخر يُبَيِّنُ ، فكان من ذلك دليل الخبر المجاوز من خارج ، وهو ما حَسُنَ لأجلِه الاشتغال بِتَحْرِيرِ الأصلِ ، إِنْ فِي الصحة أو في الضعف ، لا معارضته بالعقل ، فَإِنَّ العقل لا يزيد في هذا الموضع أَنْ يُجَوِّزَ ، وذلك ، كما تقدم ، لَا يُجْزِئُ فِي إثباتٍ أو نَفْيٍ أَخَصَّ ، وإنما غايته التوقف حتى يكون ثم دليل من خارج يُرَجِّحُ ، فَحَسُنَ الاشتغالُ بتحريرِ الأصلِ ، أن يعالج الناظر من أدلته ما يَنْصَحُ ، فالمبدأ منه آحاد تَتَعَاضَدُ ، فَهِيَ ابتداءً تُفِيدُ الظنَّ الراجحَ إذا سلمت من المعارِض ، واستوفت من الشرط ما يَنْصَحُ ، وهو ما يجزئ في الاستدلال إِنْ فِي العلمِ أو فِي العملِ ، وذلك ما لا يكون إِلَّا بَعْدَ أَوَّلٍ يُحَرِّرُ الْأَصْلَ ، أصلَ النُّبُوَّةِ والوحيِ ، فذلك ما استوجب بحثا يزيد حتى يحصل من ذلك اليقين ، فيكون منه دليل يفيد الضرورة في باب العصمة ، أن ثم من الوحي والنبوة مرجع ناصح في الاعتقاد وفي الشرعة ، فلا يكون التقليد لها بَعْدًا في فروعٍ من العلم والعمل مما يُذَمُّ ، بل صاحبه أولا قد بَذَلَ الجهد واستفرغ الوسع فِي سَبْرٍ وَتَقْسِيمٍ لأدلة النبوة والوحي ، فكان من ذلك اجتهاد يَنْصَحُ ، قَدْ سَلِمَ به من وصفِ تَقْلِيدٍ يُذَمُّ ، بل ثم آخر يحمد ، فقد حصل له أولا يقين العصمة ، عصمةِ المرجِعِ الذي له يُقَلِّدُ ، فكان من ذلك محل اقتداء يُؤْمَنُ إن في التصور أو في الحكم ، إن في العلم أو في العمل ، فإذا صَحَّ الخبر فهو المذهب ، وذلك مما عم فاستغرق المسائل كافة ، الخبرية والإنشائية ، فإذ كان من الأدلة ما تَعَاضَدَ في الخارج ، أدلة النبوة ، ولها في العقل ما يعضد ، إذ ثم من طلب الأول الذي لا أول قبله ، ثم من ذلك ما عَمَّ التشريع كما التكوين ، إذ الخلاف به يحسم بين أهواء وأذواق تَتَعَدَّدُ ، فلا تنفك تطلب المرجِّح من خارج ، فَهُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهَا في الحكم ، وهو السالم من الآفة والنقص ، لا كَمَا وصفها الذي به تُتَّهَمُ في حكومتها ، وإن تحرت ما تحرت من العدل ، فثم تلازم في الباب : باب التكوين ، فلا ينفك يطلب أولا يرجح ، فلا أول قبله ، إذ له من الوصف ما أطلق ، وهو ما يحسم مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا بد من رجوعِ كُلٍّ إلى أول لا أول قبله ، فهو يرجح في تال من الخلق المحدَث أَنْ يُقَدِّرَهُ في الأزل ، ثم يُوجِدَهُ بَعْدًا ، فيكون من المشيئة آحاد تَنْفُذُ ، وعنها كلماتُ التكوينِ تصدر ، وهي المرجِّح من خارج ، إذ تُرَجِّحُ في الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ العدمِ ، وإن قَبِلَ بَعْدًا الوجود بما يكون من سببِ إيجادٍ ، فَثَمَّ تجويز أول هو المحض ، ولا يجزئ في وجود يزيد في الحد ، حتى يكون من الدليل ما يوجد ، فَيُرَجِّحُ من خارج ، ويكون من ذلك ما لِصَرِيحِ العقلِ يُوَاطِئُ ، إذ يسلم من التحكم أن يكون ثم ترجيح بلا مرجح ، بل ثم من المرجح المعتبر : كلمات تكوين تنفذ ، وبها تأويل لمقدور أول ينصح ، إذ يخرجه من العدم إلى وجود تال يصدق ، وقل مثله في إثبات هذا المغيَّب ، فذلك قدر يزيد ، وهو يجاوز وجوده في نفس الأمر ، فقد يوجد ولا يثبت لدى الناظر إذ لم يعالج الدليل المثبِت ، فلا يكون جهله بالدليل المثبِت حجة ، بل من علم الدليل فهو حجة عليه ، فَثَمَّ من عَالَج من أدلة الوحي أخبارا تُثْبِتُ مِنَ الغيبِ ما لا يستقل العقل والفطرة والحس بدركه ، وإن لم يُحِلْهُ في نَفْسِ الأمر ، فهو له يجوز ، بل قد يوجبه ، وإن الإيجابَ المجملَ ، كما إثبات الأول الذي لا أول قبله ، فذلك مما ثبت ضرورةً مبدأ النظر المصرح ، وهو ، مع ذلك ، المجمل الذي لا ينفك يطلب من الدليل ما يبين ، فكان من نصوص الإلهيات ما بَيَّنَ ، وذلك قدر يزيد على أول من الضرورة العقلية والفطرية والحسية ، فلا تجاوز في الباب حد الإثبات المجمل ، إذ ثم من حقائق الإلهيات ما لا يُدْرَكُ إلا بخبرٍ يخرج من مشكاة النبوات ، وقل مثله في مرجع التشريع ، كما أول قد تقدم من التكوين ، فَكُلٌّ يطلب من الأول ما لا أول قبله ، إذ يرجح من خارج ، فالوحي يُرَجِّحُ من خارج في حكومات العقول إذ تَتَخَالَفُ وَتَتَدَافَعُ ، فلا تسلم من الأهواء والحظوظ ، وإن رُكِزَتْ فِيهَا مبادئ ضرورة في باب الحسن والقبح ، فذلك مجمل يطلب تاليا يُفَصِّلُ ، وثم منه ما يبيح ويحظر ، فيكون من التشريع ما يزيد ، فذلك مرجع من خارج يجاوز قد دل عليه العقل ضرورةً بما يعالج من الخلاف في التصور والحكم ، فيكون من ذلك متشابهات من الأهواء والأذواق ، فلا تنفك تطلب المحكم الذي فيها يَقْضِي قضاء العدل .
فَثَمَّ افتقار ضرورة آخر إلى مرجع يجاوز من خارج ، فذلك عام قد استغرق التكوين والتشريع كافة ، فَثَمَّ افتقارٌ إلى أول هو الرب الخالق ، وثم افتقار إلى أول هو الإله الحاكم ، وبهما حد التوحيد المجزئ يثبت ، فتوحيد في العلم وآخر في العمل يصدق ، فَثَمَّ من ذلك دليل ضرورة يبين عن حاجة الخلق إلى الوحي ، فهو الواسطة بينهم وبين الحق ، جل وعلا ، وثم من أدلة النبوات آخر يعالج ما كان من قَصَصِهِمُ التي اشتهرت ، وما كان من عاقبة لهم على خصومهم في كل جيلٍ ، وما نَالَ المصدِّق من الخير المعجل ، وإن كان ثم ابتلاء يعظم ، وما نال المكذِّب من عاقبةِ سوءٍ وَهَلَكَةٍ ، وإن حصل له أول من المكنة ، وبه الاستدراج والمكر ، فإذا أُخِذَ لم يُفْلَتْ .
وثم من آي الحس ما اصْطُلِحَ لَدَى النظار أنه المعجزات ، وثم منها ما يُعْقَلُ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، الأشرف ، والوحي الخاتم في الباب أول ، فَثَمَّ من إعجاز المعنى ما كان من حفظِ الذكر المنزل ، وذلك وعد في الباب يصدق ، كما في آي من الذكر المحكم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ التعظيم في النطق ، وذلك مما يحسن في مواضع الامتنان ، وَأَيُّ مِنَّةٍ أعظم من حفظ الذكر المنزَّل ؟! ، فَثَمَّ من التعظيم في الحد أَنْ كَانَ من ذلك الإسناد إلى الجمع ، فَاسْتُعْمِلَتْ منه ضمائر في الباب هي النص : "نَحْنُ" ، و : "نَا" الدالة على الفاعلين ، وواو الجمع في "لَحَافِظُونَ" ، مع ما زِيدَ في الحد ، فَثَمَّ من زيادة الضمير "نَحْنُ" ما يجري مجرى التوكيد ، من وجه ، فهو توكيد لِضَمِيرِ الفاعلين في "نَزَّلْنَا" ، وقد أَجْرَاهُ بَعْضٌ مجرى المبتدإِ ، وبه اسْتُؤْنِفَتْ جُمْلَةُ الخبرِ ، خبرِ الناسخ "إِنَّا" ، فاسمه هو ضمير الجمع الذي به اتصل ، وَخَبَرُهُ على هذا الوجه هو الجملة الاسمية : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، فَثَمَّ من الضمير ما به الجملةُ صُدِّرَتْ ، فهو الاسم الذي وَرَدَ صدر الكلام ، وحده في الإعراب أنه المبتدأ ، وهو ، في هذا الموضع ، حكاية رَابِطٍ بين اسم الناسخ في "إِنَّا" ، وجملة الخبر : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، ولا تخلو الجملة الاسمية ، وهي الخبر على هذا الوجه ، لا تخلو من دلالة توكيد أول ، فهي مئنة الثبوت والاستمرار ، وهو ما يحسن في سياق الامتنان ، وثم من التوكيد آخر بالتكرار ، فخبرها جملة فعلية قد صدرت بالماضوية في : (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، وهي ، أيضا ، حكاية ثبوت ، إذ مَضَى الحدث وَانْقَضَى ، فَثَبَتَ يَقِينًا لا يَرْتَفِعُ ، وثم من التكرار آنف الذكر ، تكرار الإسناد في النطق ، فَثَمَّ من الفاعل اسما : ضمير الفاعلين في "نَزَّلْنَا" ، وثم آخر من المعنى وهو ما كان من المبتدأ "نَحْنُ" ، فَهُوَ فاعل في المعنى إذ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الخبرُ وهو الجملة : (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، كما الفعل يُسْنَدُ إِلَى الفاعلِ ، فَثَمَّ تكرارُ إسنادٍ من هذا الوجه ، فَاعِلِيَّةَ لَفْظٍ في "نَزَّلْنَا" ، فالضمير "نَا" هو الفاعل ، وأخرى من المعنى إذ أُسْنِدَ الخبر إلى المبتدإ إسنادَ الفعل إلى الفاعل ، وثم ، أيضا ، من الضمير ما هو رَابِطٌ ، ضمير "نَزَّلْنَا" ، فهو رابط بين الخبر وهو الجملة الفعلية ، والمبتدإ وهو الضمير "نَحْنُ" ، وَكُلُّ أولئك مما رَفَدَ السياق بِزَوَائِدَ في المبنى لا تَنْفَكُّ تَحْكِي أُخْرَى تَعْدِلُ في المعنى ، وقل مثله في تكرار الناسخ ، صدر كل شطر : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، و : (إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وكذا في لام ابتداء قد تَأَخَّرَتْ فِي "لَحَافِظُونَ" ، فهي اللام المزحلقة التي تَأَخَّرَتْ فِي الذِّكْرِ إِذِ اشْتَغَلَ المحل بالناسخ المؤكد "إِنَّ" ، وهو في الباب أقوى ، فلم يحتمل المحل آخر من نَفْسِ الجنسِ ، ولم يُقَدَّمْ عَلَيْهِ غَيْرٌ ، فهو أُمُّ الباب ، وله فيه الصدارة مطلقا ، فإن كان ثم آخر من نفس الجنس ، فهو يَتَأَخَّرُ ، لئلا يَثْقُلَ المحل في النطق إذ اجتمع فيه اثنان من نفس الجنس ، فَاقْتَضَتِ الحكمة أن يقدم الأقوى ويؤخر الأضعف ، وكان من خفة النطق ما يحسن .
وَلَفْظُ "نحن" ، قد حُمِلَ ، من وجه ، على التوكيد ، فَثَمَّ منه ضمير فصل يفيد التوكيد والحصر ، على تقدير : إنا نحن وحدنا نَزَّلْنَا الذكر لا أحد غيرنا ، فثم من القصر ما أَوْجَزَ فَحَذَفَ من الكلام شطرا تاليا يَنْفِي بَعْدَ أول يُثْبِتُ ، فَثَمَّ من إثبات الفعل ما أسند إلى الله ، جل وعلا ، وحده ، وهو ما اسْتَلْزَمَ في الدلالة أَنْ يُنْفَى عَنْ غَيْرٍ ، فلا يكون إِنْزَالٌ لِذِكْرٍ محكَم إلا من واحد وهو الربُّ المهيمنُ ، جل وعلا ، فالقصر يوجز في النطق ، إذ يَحْذِفُ شطرا من الكلام ، فقد دَلَّ المذكور المثبت على المحذوف المنفي ، وهو جار على قانون اللسان المفصِح ، إذ لا حَذْفَ إلا بدليلٍ ، والأصل فيه أن يَتَقَدَّمَ في الوجود والذكر ، فذلك قياس العقل المصرح ، أن يتقدم الدليلُ على المدلول ، فيكون من الأول مرجع ، ومن الثاني تَابِعٌ يعقب ، فالأصل في الكلام ألا حذف ، فإن صِيرَ إليه فهو يفتقر إلى دليلٍ ، فكان من المذكور دليل ينصح على المحذوف المقدر ، وبه استأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فمنه مجاز الحذف ، وهو ، من وجه آخر ، جَارٍ عَلَى مِثَالِ التأويلِ ، فَثَمَّ ظاهر في الباب يُسْتَصْحَبُ ، فلا يفتقر إلى دليل إذ قَدْ ثَبَتَ لَدَى المبدإِ بما كان من استقراءٍ لوجوه الكلام المفصِح ، فحصل من ذلك سبر قد حَرَّرَ الأصل ، وهو الذكر لا الحذف ، فذلك ظاهر قد حصل له الدليل من الاستقراء والاستنباط آنف الذكر ، فَثَمَّ منه يقين جازم إن كان الاستقراء هو التام ، أو ظن راجح إن كان الاستقراء هو الناقص ، فحصل من ذلك ظاهر يُسْتَصْحَبُ بَعْدًا في كل كلامٍ يُنْطَقُ ، فلا يفتقر إلى دليل إذ استصحب مبدأَ النظر ، فالناقل عنه إلى آخر هو الخفي المؤول ، ذلك من يجب في حقه الدليل ، إذ قد خالف عن الأصل ، وهو في هذا الموضع الذكر لا الحذف ، فمن ادعى ما يخالف عنه فقدر المحذوف ، فذلك العدول عن الظاهر الراجح إلى المؤول المرجوح ، فلا يجزئ في إثباته دعوى مجردة ، قد صَيَّرَهَا صاحبها دليلا عليها ! ، فَتَحَكَّمَ في الباب إذ كان منه دور يبطل ، وبه قد صَادَرَ على المطلوب ، كَمَا يَقُولُ النُّظَّارُ ، إذ اسْتَدَلَّ بِصُورَةِ الخلافِ ، فالخصم لا يسلم بدعواه ، بادي النظر ، بل لا يَنْفَكُّ يستصحب من الأصل الثابت ما عنها يخالف ، فوجب على صاحب الدعوى من الدليل ما لا يجب على الخصم الذي يستمسك بالأصل ، فلا تقبل دعوى التأويل التي تعدل عن الراجح إلى المرجوح ، لا تقبل إلا بقرينة تصرف ، فكان من ذلك ما تَقَدَّمَ من القصر في ضمير الفصل "نَحْنُ" ، إن حُمِلَ في إِعْرَابِهِ أنه ضمير الفصل ، فكان من ذلك تكرار يُؤَكِّدُ ، إذ حصل الإسناد أولا إلى ضمير "نَا" الدالة على الفاعلين ، فكان من "نَحْنُ" ما أَكَّدَ ، وهو ما أَكَّدَ ضميرا في محل نصب ، وهو "نَا" في "إِنَّا" ، والقياس أن يؤكد بضمير نصب ، لا بضمير رفع ، إذ محله النصب فهو اسم الناسخ "إِنَّ" ، فكان من استعارة ضمير الرفع "نحن" ما به تَوْكِيدُ ضَمِيرٍ في محل نصب ، إذ ثم من المعنى ما تَوَاطَأَ ، و "نَا" وإن كانت في هذا المحل منصوبة ، فلها من المواضع أخرى تكون فيها المرفوعة ، فَوُرُودُهَا مَوْرِدَ الرَّفْعِ مما ثَبَتَ وَاطَّرَدَ ، فسهلت استعارة "نحن" في توكيدها ، من هذا الوجه ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إن محل "نَا" ابْتِدَاءً الرَّفْعُ على الابتداء قبل ورود الناسخ ، فاستصحب منها الأصل الأول ، وهي ، وإن نُسِخَتْ بعدا فَنُصِبَتْ إلا أن محلها مع الناسخ جميعا في محل الرفع ، كما قيل في تأويل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) ، فَثَمَّ من حمل عطف المرفوع "الصابئون" على مَحِلِّ "إِنَّ" واسمها ، فَمَحِلُّهُ الرَّفْعُ على الابتداء ، فكذا يقال في مَحِلِّ "إِنَّا" في قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، فأكدت بالمرفوع "نحن" ، وكان من ذلك دليل آخر يقصر ، وذلك ما شَطْرٌ منه قد حُذِفَ ، فإن شطره المذكور هو عين الدليل على تال هو المحذوف ، فدل المذكور على المحذوف ، على تقدير : إنا نحن وحدنا قد نَزَّلْنَا الذكر فلم يُنَزِّلْهُ أحد سوانا ، وتلك قرينة التأويل التي تسوغ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، وبه نصح مثال المجاز في هذا الموضع ، أن كان منه تأويلٌ يسوغ ، فَثَمَّ من القرينة دليل يشهد ، فلم يكن من دعوى الحذف ما أطلق ، بل ثم من الدليل ما يشهد ، وإن خالف عن الأصل فعدل عن الظاهر إلى المؤول ، وذلك مثال التأويل الذي يدخل في حد المجاز مع ما تقدم من مجاز الحذف ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل له يستصحب أن ذلك مما تداوله الجمع الناطق بما كان من العرف المشتهر ولو خالف عن حقائق من اللسان أولى تطلق ، فكان من حقيقة العرف ما قَيَّدَ ، وَتَنَازَعَ المحلَّ حقيقتان في الباب ، حقيقة العرف وأخرى من النطق ، لا حقيقة في حد ومجاز في آخر ، فَمَا تكلمت به العرب فاطرد في نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا ، فهو الحقيقة ، وَإِنْ عُرْفِيَّةً أخص ، فَلَهُ من قرينة التداول في النطق المركب ما يقيد حقائق أولى من اللسان تطلق .
وثم من التعظيم ما ثَبَتَ إذ أُسْنِدَ الفعل "نَزَّلَ" إلى "نَا" الدالة على الفاعلين ، وهو ما احتمل ، من وجه ، التعظيم المجرد ، وهو مما يحسن في مَوْضِعِ امْتِنَانٍ يعم ، فذلك ذكر للعالمين كافة ، فـ : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) ، فكان من تقديم ما حقه التأخير من الجار والمجرور "للعالمين" ، كان من ذلك آخر يَحْصُرُ وَيُؤَكِّدُ ، وثم من عموم العالمين ما تَنَاوَلَ الآحاد جميعا فاستغرق ، فعم العالمين في زمانه وما تلا من أجيال الأمة ، أمة الإجابة الأعم ، وهو مما عَظُمَ في الحدِّ أَنْ كَانَ مِنْهُ ذِكْرٌ يشرف ، وبه يشرف المتَّبع الذي يصدق ويمتثل ، فَثَمَّ من دلالة الذكر ما عَمَّ فاستغرق ، فكان من ذلك : ذِكْرُ الأخبارِ الصادقة وآخر من الأحكام العادلة ، وهو ما تَنَاوَلَتْهُ "أل" إِذْ تَنَاوَلَتْ من مدخولِها بَيَانًا لجنسه وذلك في الدلالة أول ، وثم آخر قد استغرق وجوه المعنى ، فذلك ما عَظُمَ في الحد ، فهو النبأ العظيم الذي يشرف ، وثالث قد استغرق الآحاد كَافَّةً من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة ، وثم آخر قد تَنَاوَلَ أجناس النصوص من آي الكتاب المتواتر ، وما كان من أخبارٍ مُتَوَاتِرُهَا قَلِيلٌ ، وآحادُها كثير ، والعبرة فيها بالصحيح الذي استوفى الشرط ، وهو ما رَفَدَ الذكر بعهد أخص ، فكان من "أل" ما يحكيه ، فذلك عهد الكتاب الخاتم ، خاصة ، أو الشرعة الخاتمة ، عامة ، فكان من دلالة "أل" : دلالة العهد الخاص ، وَثَمَّ من ذلك ما يجري مجرى المشترك في "أَلْ" إذ احْتَمَلَتِ الوجوهَ آنفةَ الذكرِ ، وَنَصَحَتْ في كُلٍّ ، فَلَهَا منه وجه يعتبر ، فذلك المشترك الذي عَمَّ بدلالته ، فَتَنَاوَلَ من آحاد المدلول في الخارج ما كَثُرَ ، إذ احتمل وجوها من المعنى تَنْصَحُ ، فلا تعارض بَيْنَهَا بل الجمع يحسن ، فهو مما يعضد الدلالة ، وبه يستأنس من يجوز العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فَثَمَّ من الذكر ما عظم وشرف ، فحسن لأجله الإسناد إلى ضمير الفاعلين حكاية أخرى تعدل في التعظيم ، وقد يقال إنها مما يحكي كَثْرَةً في الخارج ، كثرة الصفات ، ومنها جمال العلم والحكمة في التشريع ، وجلال المشيئة والقدرة بما كان من آحاد من الوحي قد تَنَزَّلَتْ نجومًا فلا يكون ذلك إلا بمشيئة تنفذ ، فتلك كثرة في الوصف الذي يقوم بذات واحدة لها من الأولية والقدم ما يطلق ، لا كثرة الذوات فليس إلا ذات القدس الأولى وما قام بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فوحدها ، كما تقدم ، ما انْفَرَدَ بوصفِ الأولية المطلق ، فلا قديم سواها في الأزل يثبت ، فكان من ذلك تعظيم وتوكيد ، على التفصيل آنف الذكر ، فإما التوكيد بضمير الفصل ، وإما آخر بالإطناب الخبري ، فيكون من "نحن" مبتدأ وما بعده الخبر في قوله تعالى : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، والجملة مما أسند إلى الاسم الأول ، اسم الناسخ في "إِنَّا" ، فهو المبتدأ قبل دخول الناسخ ، فأسند إليه الخبر وهو الجملة : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، وقد يقال ، إن هذا الإعراب يَرْجُحُ من وجه ، إذ به تأسيس لمعنى جديد أَنْ تُحْمَلَ "نحن" على الابتداء الذي يستأنف معنى جديدا لا التوكيد لمعنى قد حصل ، والكلام إذا دار بين التأسيس والتوكيد فحملانه عَلَى التأسيس أولى ، كما قرر أهل الشأن .

وثم في الشطر الثَّانِي ما يجري ، أيضا ، مجرى القسيم الذي به اكتمال القسمة ، فـ : (إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فالكتب قَبْلًا كانت مُنَزَّلَةً من عند الله ، جل وعلا ، ولكنها لم تحفظ ، فكانت المنة السابغة في الرسالة الخاتمة أن كان التنزيل ثم الحفظ ، وهو ، أيضا ، مما أكد بالناسخ ، وثم من الإسناد إلى ضمير الجمع في "إِنَّا" ، ثم منه ما يواطئ السياق ، فالشطر الأول مما جرى الإسناد فيه إلى ضمير الجمع ، فكانت المواطأة في اللفظ ، ولا يخلو المعنى من تعظيم بما كان من منة الحفظ فهي تَعْدِلُ أولى من التَّنَزُّلِ ، وثم آخر يؤكد بما كان من تقديم الظرف "له" ، وحقه التأخير ، وثم من لام الابتداء ما دخل على الخبر إذ تأخرت ، فالمحل قد اشتغل بالناسخ ، وهو الأقوى ، إذ منه أم باب تقدم .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 9 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 04-03-2024 - 05:52 PM ]


وذلك حِفْظٌ قد أُطْلِقَ ، فاستغرق المبنى والمعنى ، فليس حفظ المبنى الذي لا معنى له في الخارج يعدل ، فإن المبنى لا يُرَادُ لِذَاتِهِ ، وإلا كان الصوتَ المجرَّد الذي لا مدلول له في الخارج يَثْبُتُ ، فيكون من ذلك تفكيك يواطئ ما اقترحت الحداثة بَعْدًا إذ نَسَخَتْ ، كما يقول بعض من حقق ، يقينا في النفس قد استقر بما اشتهر من عرف اللسان في الاستدلال ، فصيرت الكلام وألفاظه : الدوال بلا مدلولات ، فَثَمَّ من ذلك لفظ قد جُرِّدَ من المعنى ، فصار صَوْتًا يُلْفَظُ دون مدلولٍ في الذهن يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ إلا الصوت المجرد الذي يضاهي صوت الحيوان الأعجم ، فهو يصدر أصواتا لا مدلول لها في الخارج ، فَثَمَّ من حكاية الصوت ما لا يجاوز الحروف المقطعة ، فآلة الصوت في الحيوان موجودة ، ولكنها لا تَعْدِلُ أخرى أخص في الإنسان ، فهي آلةُ نُطْقٍ تُفْهِمُ ، إذ ثم من المعنى ما يحصل في العقل أولا ، وهو ما استقر في الجنان المجاوز للأبدان ، فليس القلب الذي يُدْرَكُ بالحس ، وبه الدم إلى الأعضاء يُضَخُّ ، بل ثم آخر أَلْطَفُ في الماهية ، فتلك الماهية الروحية ، ماهية الجوهر اللطيف الذي حَلَّ في البدن ، فحصل منهما تجاور بل وتداخل ، وبهما ماهية الإنسان المكلَّف تَثْبُتُ ، فليستِ البدنَ المحسوسَ مجرَّدًا ، فتلك آلة في الخارج لا بد لها من علم وإرادة تسبق ، فعنها الآلة تصدر ، إن في الفعل أو في الترك ، فلا تُوَلِّدُ الآلةُ المعاني الباعثةَ من نفسِها ، بل لا تنفك تطلب لذلك مرجعا يجاوز من خارجها ، فَثَمَّ الروح اللطيف ، وهي مناط العلم والإرادة ، التصور والحكم ، فَلَهَا من المدارك ما دَقَّ ، وبها يكون الإيمان بالغيب الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، فآلات البدن لا تجاوز في الإدراك المحسوسَ في الخارج ، فلا تجاوز عالم الشهادة الذي يتناوله البحث والتجريب ، وهو ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، لا يجاوز الظاهر فلا يتناول الحقائق الذاتية ، بل ثم من ذلك ما دَقَّ ، ولو في عالم الشهادة فكيف بالغيب المجاوز الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهر ، وإن النسبي الذي كشف عنه التجريب والبحث بعدا ، فلم يكن الجهل به مبدأ الاستدلال ، لم يكن حجة في الباب ، فيكون عَدَمُ العلمِ عِلْمًا بالعدم ، بل عدم العلم مما يوجب التوقف حتى يكون ثم إثبات أو نفي ، فمثله كمثل الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح في الخارج لِيَكُونَ منه وجود تال في الخارج يصدق ما كان أولا من وجودٍ في العلم المقدَّر ، فثم وجود قوة لا ينفك يطلب المرجح لِيَصِيرَ منه وجودُ فعلٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، فَكَذَا إِثْبَاتُهُ بَعْدَ أن يوجدَ ، فهو ، أيضا ، يطلب الدليل المثبِت ، فمن الجائز ما يطلب الدليل الموجِد الأول الذي يُرَجِّحُ من خارج فلا يكون التحكم في الباب ترجيحا بلا مرجح ، فيكون من ذلك إيجاد بلا موجِد ، فذلك مما يخالف عن بدائه العقل المصرح ، فمن الجائز ما لا يوجد مبدأَ الأمرِ إلا أن يكون ثَمَّ سبب من خارج يُوجِدُ ، فهو يُرَجِّحُ في أول قد استوى طرفاه في الاحتمال ، ووجوده في الخارج مما لا يلزم منه شهوده ، بل ثم منه ما قد غَابَ ، فلا ينفك يطلب الدليل المثبِت ، وإلا كان تحكم آخر أن يكون الإثبات بلا مثبِت ، وليس عدم العلم بالدليل المثبِت ، ليس علما بالعدم ، بل قد يوجد المغيَّب في الخارج ، ولا يحصل دليل وجوده لدى مستدِلٍّ ، فليس له أن يجتج بجهله على مَنْ عَلِمَ إذ حصل له من الدليل ما لم يحصل للأول ، فكذا العقل والحس في حَدٍّ ، فجهلهما بالدليل الذي يُثْبِتُ المغيَّب الذي يجاوز مداركهما ، وهو الخبر من خارج ، ذلك الجهل ليس بحجة على من بَلَغَهُ الخبر المصدَّق ، فأثبت من الغيب ما جاوز العقل والحس ، لا أنه من المحال الذاتي الذي يمتنع ، بل هو يدور بين الواجب والجائز ، وإنما عجز العقل والحس عن إثباته ، فلو أَثْبَتَاهُ ، بادي الأمر ، لكان من الشهادة ، وليست محل النِّزَاعِ ، وإنما المحل ما كان من الغيب ، فالعقل والحس يعجزان عن دركه ، فلا ينفك كُلٌّ فيه يطلب الدليل المثبت في الخارج ، وهما ، بعدا ، يحاران في حقيقة الغيب المطلق في الخارج ، وإن لم يحيلاها فهي مبدأ النظر من الواجب أو الجائز ، كما صفات الخالق الأول ، جل وعلا ، فهي مما يدور بين الواجب من الكمال المطلق ، أو آخر جائز كما الصفات الخبرية التي لا تثبت إلا بالنص ، وكذا جملة من الأوصاف الفعلية ، فَثَمَّ في الباب واجب أو جائز ، فالعقل يَتَنَاوَلُ كُلًّا مبدأَ النظرِ ، ولكنه لا ينفك يطلب دليلا يُفَصِّلُ ما أُجْمِلَ من الواجب الضروري الذي ثبت في النفس بما رُكِزَ فيها من قوى في النظر تصرح وأخرى في الفطرة تَنْصَحُ ، ولا ينفك يطلب دليلا يُثْبِتُ ما حصل من الجائز في الخارج ، فالدليل لم يُؤَسِّسْ من الحقائق ما لم يكن ، وإنما هو لها يُثْبِتُ إِثْبَاتَ الكشفِ عَمَّا غاب ، بادي الرأي ، وذلك ما اقتصر في الغيوب المطلقة على المعاني المجردة في الذهن دون الحقائق في الخارج ، فالمعاني محكمة لا يحيلها العقل ولا يحار في دَرَكِهَا فهي مما يتناولها تَنَاوُلَ الإطلاق والتجريد ، والحقائق في الخارج ، من وجه آخر ، متشابهة فلا تُدْرَكُ بالعقل أو بالحس ، وإن ثَبَتَتْ بدليلٍ من خارجهما يجاوز ، وهو الخبر الصادق ، فذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما يقتصر فيه النظر على إثبات الوجود ، لا إثبات الكيفية ، فالأخيرة من المتشابه الذي يحار العقل في دَرَكِهِ ، إذ لم يشاهده ، ولم يشاهد نظيرا له في الخارج يضاهي ، ولم يأته من الخبر ما يصدق إذا عالج من حقيقته في الخارج ما يدرك بالحس المحدَث ، فهو يحار في حقيقته ، وإن لم يُحِلْهُ ويمنع ، فهو ، كما تقدم ، يدور بين الواجب والجائز ، وكذا يقال في الغيوب النسبية ، وعليها تقاس الغيوب المطلقة ، فإن الغيب النسبي لا يدرك مبدأ النظر ، وليس عدم العلم به دليلا على العدم في نفس الأمر ، فَقَدْ ثَبَتَ بَعْدًا بما كان من آلة تجريب وبحث لم تكن مبدأَ الاستدلالِ بالحاسة المجردة ، فلم يكن جهلها إذ تَقْصُرُ مَدَارِكُهَا ، لم يكن جَهْلُهَا دليلًا على مَنْ عَلِمَ بَعْدًا إذا حصل له من الآلة ما ينصح ، وكان من العلم الحادث بَعْدًا ما يكشف عن حقائق قد ثَبَتَتْ قَبْلًا ، فالعلم لم يوجدْها وإنما كشف عنها ، فكذا الغيوب المطلقة ، فالخبر المجاوز من خارج قد كشف عنها فلم يكن منه دليل إيجاد وتأسيس ، بل الحقائق قد ثَبَتَتْ قَبْلًا ، ولم يكن الجهل بها قبل ورود الدليل من الخبر المصدق ، لم يكن دليلا على آخر يَعْلَمُ بما حصل له من الدليل المعتبر ، وهو في الغيب المطلق : الخبر المصدَّق ، كما هو في الغيب النسبي : آلة البحث والتجريب .
والشاهد أن ثم من المعاني ما يلطف ، وهو مما يجاوز البدن الذي يكثف ، فالمعنى يحصل له من خارج ، إذ يقوم بالروح اللطيف ، وهو مبدأ في التصور والحكم ، فيكون من ذلك مُؤَثِّرٌ من خارج البدن ، فهو التصور الباطن الذي يَسْبِقُ الحكمَ ، ومن الحكم ما بَطَنَ بما يكون من تصديق أخص ، فهو مما يجاوز العرفان المحض ، فَثَمَّ من التصديق ما يرجح ، وهو في الفعل أول ، إذ به الترجيح المعتبر ، وبه إثبات وقبول ويقين يجزم بعد أول من المحل قد حَصَّلَ الاعتقادَ فطرةً أولى تَنْصَحُ ، فلا تنفك تطلب من الدليل تَالِيًا ، فهو يُؤَكِّدُ من وجه ، وَيُفَصِّلُ من آخر ، وَيُقَوِّمُ المعوَجَّ من ثالث ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، وظائف النبوة ، فَثَمَّ مِنْ تَصْدِيقِ الجنانِ ما يَصْدُقُ فيه أنه حكم ، وإن كان التَّصَوُّرَ الأوَّلَ الذي عنه الحكم يَصْدُرُ ، فلا ينفك يُضَمَّنُ من الفعل المرجِّح ما يصدق فيه أنه فعل ، فهو الأخص بعد عرفان أول ، فَحَصَلَ من التصديق تَرْجِيحٌ ، وبه حكم تال في الباطن يَنْشَأُ ، وهو الإرادة التي تَتَأَوَّلُ التصورَ ، إِنْ إرادةَ فعلٍ تُرَجِّحُ الإيجاب ، أو إرادةَ تَرْكٍ تُرَجِّحُ السلب ، وهو ما يطلب بعدا من الآلة ما يصدق في الخارج بما يكون من فعلٍ هو الإيجاب ، أو ترك هو السلب ، فَثَمَّ من الآلة بدن يتأول بحركته الظاهرة التي يرصدها الحس ما يكون من حركة أولى باطنة في الجنان ، إن تصورا أو إرادة ، فتأويلهما في الخارج ما يكون من حركة الجوارح إذ تُصَدِّقُ أو تُكَذِّبُ ، ومبدأ ذلك ما يكون في الدماغ فهو آلة من جملة الآلات الفاعلة ، فَلَيْسَ المنشِئ لما لَطُفَ من المعاني ، فذلك العقل وهو طور يجاوز الدماغ ، كما الوحي طور يجاوز العقل ، وكما الروح طور يجاوز الجسد ، وكما المعنى طور يجاوز اللفظ ، فلا يثبت الكلام المفهِم بلفظ مجرَّد فذلك صوت لا ينفك يطلب من المرجع ما يجاوز ، فيكون من المعنى أول يقوم بالنفس ، ويكون من اللفظ تال يُظْهِرُ بما استقر من دلالة المعجم المفرد ، وقانون النحو والبيان المركب بما يواطئ عرف اللسان المشتهر ، فليس الصوت المجرد بمغنٍ شيئا حتى يكون من المعنى ما يُضَمَّنُ ، فالمعنى يَقُومُ بالنفس أولا ، وليس يحصل به الإفهام إلا أن يكون ثَمَّ من الدليل ما يُظْهِرُ في الخارج ، فيكون من ذلك صوت يواطئ اصطلاحا في الدلالة أخص ، فهو يعالج أولا من حاسة السمع ، وله في الدماغ مناط أخص ، وهو ما تناوله التجريب والبحث إذ يَقِيسُ ما يكون من الإفرازِ وَالنَّبْضِ إذا بَاشَرَ الصوتُ الأذنَ ، فَثَمَّ إفرازٌ وَنَبْضٌ ، وَبِهِ الحاسة تَفْعَلُ وذلك تأويل لأول من القوة التي رُكِزَتْ فِيهَا ، فالدماغ آلة من جملةِ آلاتٍ ، وإن كان لها رياسة في الحواس أخص بما يكون من الإفراز والنبض ، ولا يَسْتَقِلُّ الدماغ ، مع ذلك ، بتوليد المعنى ، بل لا ينفك يطلب مرجعا من خارج يلطف ، وذلك العقل ، وهو ، كما تقدم ، طور يجاوز الدماغ ، فإذا كان ثم معنى يحسن وَيَسُرُّ ، فإن الدماغ يفرز المحفز الذي ينشط فَيَنْبَعِثُ الجسد ويباشر ، وإذا كان ثم معنى يقبح ويحزن ، فإن الدماغ يفرز المثبِّط الذي يُقْعِدُ الجسدَ فَلَا يَنْهَضُ ، والجسد في كلٍّ واحدٌ ، فهو الآلة السالمة من الآفة ، فما حَفَّزَهُ في الأولى ، وَثَبَّطَهُ في الآخرة إلا معنى يلطف ، فمحله يجاوز الحس المحدَث ، فذلك أمر لا يمكن قياسه بالحس والتجريب ، وإن كان ثَمَّ من الآثار ما يرصد في الظاهر ، فلا تنفك الآثار تطلب أولا هو المؤثَّر ، وهو ما يتسلسل من السبب المشهود المدرك بالحس ، كما الإفراز والنبض آنف الذكر ، فيكون من ذلك ما يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي ضرورة في القياس المصرح إلى أول لا أول قبله ، فثم من السبب : سبب محدَث ، وذلك مما انقسم في الخارج ، فتقاسمه من آحاده في الخارج بعضٌ يشهد ، وآخر هو المغيَّب ، والمشهود يفضي إلى المغيَّب ، فسبب يدرك بالحس ، وآخر لا يدرك بالحس ، وإن كان مما يجوز في العقل فليس المحال الممتنع لذاته ، بل له من الوجود ما ثبت في الخارج ، وإن حَارَ العقل والحس في الحقيقة والماهية ، فهو يفتقر إلى مرجع من خارج يرجح ، فهو يثبت ما كان جائزا لدى المبدإ ، إِذْ ثَمَّ مِنَ الإثباتِ قدر يزيد ، وهو ما لا يستقل العقل والحس بإثباته ، وإن كان منهما ما يُجَوِّزُ ، باديَ النظر ، فَثَمَّ دليل من خارج قد رجح الإثبات لسبب مغيَّب بعد أول يشهد ، وإن كان كلاهما من المخلوق المحدَث ، فكان من أسباب الحس ما انتهى إلى سبب يَغِيبُ فلا يدرك بالحس ، فذلك جنس الملَك المدبِّر بإذنٍ من الرب المهيمن ، جل وعلا ، فانتهت الأسباب كافة إلى أول لا أول قبله ، إذ وجوبه الوجوب الذاتي الذي لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل الأسباب والمحال كافة إليه تفتقر أن يوجد ويدبر ، فكان من ذلك كلمات تدبير محكمة ، وبها يعالج جنسُ الملَك الكائنات في الخارج ، ومنها ما به الهمة تنعقد وتنفسخ ، فيكون من الأضداد في الخلق والوصف ما يحكي رُبُوبِيَّةً تَعُمُّ ، إذ بها خلق الأضداد والأغيار ، وما يكون من تدافعها وتعاقبها ، فأجاب العارف إذ سُئِلَ : بم عرفت ربك ؟! ، فقال : بانفساخ الهمم ، فَهِيَ تَنْشَطُ وَتَكْسَلُ ، والجسد واحد لا يتغير ، فما يحمله في حال أن يفعل ، وفي أخرى أن يترك إلا أن يكون من المرجع سبب من خارج الحس يجاوز ، وهو ما يقوم بالجنان من حركات باطنة تَلْطُفُ ، فلا يتناولها قياس التجريب والبحث الذي لا يجاوز مدارك الحس ، وهو ما نَقَضَ معيار الحداثة الذي لا يحاوز الحس في الإثبات والنفي ، فقد حَجَّرَ الواسع وقصر أسباب المعرفة على الحس الظاهر ، فكيف يجيب عن سؤال الهمة ؟! ، وما يكون من انبعاثها تارة وانفساخها أخرى ، وما يكون من حقائق في الوجدان تلطف كما المحبة والبغض ..... إلخ ، فلا معيار لها من الحس يقيس ، وبه رجع بعض من حقق عن حداثة قد انتحلها صدرَ الشباب ، فلما عالج من وصف الأبوة ما لا يُحْسِنُ يُجِيبُ عنه الحسُّ ، فذلك باطن من الفكرة ، فلما عالج ذلك عَلِمَ ضرورةً أن ثم شيئا يجاوز الحس والشهادة ، وهو ما يتسلسل حتى ينتهي ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فذلك الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فالأرواح في يده إذا شاء أَرْسَلَهَا وإذا شاء أَمْسَكَهَا ، والقلوب بين إصبعين من أصابعه ، فهو يُقَلِّبُهَا كيف يشاء ، فإن شاء هدى فضلا ، وإن شاء أضل عدلا .
والشاهد أن ثَمَّ من الهمة ما يعلو تارة ويسفل أخرى ، ولا يكون ذلك بِمَحْسُوسٍ من الإفراز والنبض ، بل ذلك أثر أول يحدث في الدماغ ، وثم تال في الجوارح يظهر ، إن نشاطا أو كسلا ، والعقل هو المبدأ في ذلك بما احتمل من المعاني المحفِّزة أو المثبِّطة ، فَهُوَ معدن النطق الذي امتاز به الإنسان ذو الإدراك التام الذي يُنَاطُ به تكليف الرسالة وحملان الأمانة ، فاحتالت الحداثة أَنْ تَنْقُضَ نَصَّ الرسالة ، فتبطل منه المدلول ، وإن استبقت دوال اللفظ المنطوقة أماني تُتْلَى فلا تفيد من المعاني المفهِمة ما ينصح ، وهو ما افتقر إلى مثال جديد من الكلام ، فهو الحامل للمعاني والأفكار ، فكان من مذهب التاريخانية ما أبطل المدلول المتعدي إلى جيل تال يتحمل من الأفكار ما اتصل إسناده ، وهو ما يحول دون جديد ينسخ ، فكان من التاريخانية ما لَزِمَ جيله فلا يتعدى إلى آخر يعقب ، وكان من مثال التفكيك ما تناول المأثور ، إذ ثم علائق بين المنطوق والمعقول لما تَزَلْ ، وهو ما استغرق المستوياتِ كَافَّةً : المعجمِيَّ الأول ، ثم تَالٍ من الاشتقاق يَرْفِدُ المطلقات المعجمية ، وإن لم يجاوز بها حَدَّ الإفراد في النطق والمعنى ، فالاشتقاق يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ من المدلول المعجمي المطلق ، فَيَزِيدُهُ مَعْنًى كالفاعل أو المفعول أو الوصف المشبه أو المبالغة أو التفضيل ..... إلخ ، وله من حَدَّ النطق ما استقرأ أهل الشأن إذ تَنَاوَلُوا من ذلك مأثورا له من الصيغ والدلالات ما تعدد ، فكان من علمهم ما يجرد الكليات من الجزئيات ، وذلك الاستقراء ثم التركيب الذي يبلغ بالناظر حد الكلي الجامع في الذهن من الجزئي الثابت في الخارج ، فَجَرَّدَ أهل الاشتقاق مُثُلًا وموازين في النطق والكتب ، وبها تصاغ الألفاظ المشتقة من المعاني المجردة فتفيد من الدلالة ما يزيد على المعنى المعجمي المفرد ، وكذا ثالث من النحو ، فهو المعيار الناظم لما أُفْرِدَ من الدوال اللفظية المفردة ، وكذا رَابِعٌ من الْبَيَانِ يَلْطُفُ ، وهو ما تَنَاوَلَ معنى ثانيا لا يَنْصَحُ إلا إذا صَحَّ المعنى الأول ، معنى النحو المركب ، وهو ، أيضا ، ما لا يَنْصَحُ إلا إذا صح اللفظ المفرد ، فَصَحَّ في النطق بما نصح من المخارج والصفات ، وصح في المدلول ، وهو ما تناوله بحث المعجم الأول ، إذ يَنْظِمُ الحروف المقطعة في مَبَانٍ تَتَفَاوَتُ ، فمنها المهمل ومنها المستعمل ، وهو ما افْتَقَرَ إلى مَرْجِعٍ من خارج يجاوز ، مرجع الآثار المنطوقة ، المنظومة والمنثورة ، فَثَمَّ استقراء واستنباط ، وهو ما يحرر المراكز الدلالية التي تدور عليها المادة المنطوقة ، مَادَّةُ الدَّالَّةِ ، فهي لفظ ذو مرجع دلالي ، وَبَيْنَهُمَا من التلازم العقلي ما يَقْرِنُ ، فإذا حصل المعنى في الذهن تَبَادَرَ إلى النطق ما يلازمه من اللفظ ، وإذا حصل اللفظ ، فالمخاطَب يستدعي المعنى المقارن بما تقدم من العلائق المحكمة بين الدوال والمدلولات ، لا جرم حرصت الحداثة أَنْ تَتَنَاوَلَ هذه العلائق بِالْبَتِّ ، فَأَفْرَغَتِ الدالة من المدلول ، وصار اللفظ من المنطوق المجرد فليس ثم مفهوم يُعَيَّنُ ، ثم تصرفت الحداثة بعدا بمذهب آخر يَتَنَاوَلُ الْبِنْيَةَ المحدَثة في الجيل التالي ، فَقَدْ أُفْرِغَتِ الألفاظ من المعاني التي تَوَاطَأَ عليها الجيل الأول بما استقر من عُرْفِهِ اللِّسَانِيِّ المشتهر ، فكان نسخ أول قد تَنَاوَلَ مركز الدلالة ، وهو ما تَوَاتَرَ في لسان الجيل الأول ، فَأَفَادَ علمَ ضرورةٍ في الباب ، فلا يفتقر إلى نظر أو استدلال ، وإنكاره وجحده ، فضلا عن استبدال آخر به وَنَسْخِهِ ، ذلك ، لو تدبر الناظر ، سفسطة لا يجدي جدال صاحبها شيئا ، فليس ثم كلمة سواء إليها يرجع الخصوم ، بل الخصم المسفسِط لا يُقِرُّ بمبادئ من الاستدلال ، فهو ينكر مقدمات الضرورة التي لا تفتقر إلى نظر ولا استدلال ، فهي محل الإجماع الأول ، وبه بناء الاستدلال بعدا يحكم ، فلا يكون ذلك إلا وثم مقدمات قد أجمع عليها الخصوم ، فإذا جادل خصم وَمَارَى ، فلا يُقِرُّ بمبادئ الدلالة في معجم اللسان المطلق ، مع آخر يتكلف من التأويل البعيد أو الباطن ما يخالف عن ظاهر الدلالة المتبادر بما كان من معنى أول يَتَنَاوَلُهُ درس النحو الناظم ، فثم منه ظاهر راجح أو نص جازم ، وهما أول ما يحصل من الدلالة المركبة بعد أخرى مفردة لا تجاوز بحث المعجم المطلق ، فَثَمَّ من التركيب قرينة ترجح في اللفظ إذا احتمل أكثر من وجهٍ معتبر ، وشرط اعتباره ، كما تقدم ، أن ينصح له من دليل الأثر ما يَثْبُتُ ، فقد استقر في العرف المتداول لدى الجيل الأول الذي ورد النص بمعياره اللِّسَانِيِّ ، فَثَمَّ من ذلك مادة مجردة في الذهن قد تَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ من وجهٍ ، فيكون من ذلك اشتراك يُجْمَلُ ، فلا ينفك يطلب من القرينة ما يُبَيِّنُ إذ يُرَجِّحُ من المشترك وجها دون آخر ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، عملٌ يُضَاهِي في الحد الترجيحَ في جائزٍ قد استوى طرفاه في الحد ، فالجائز ، كما المشترك ، وإن كان من الجائز طرفان لا أكثر ، فإما إيجاب وإما منع ، فالجائز لدى المبدإ : عدم أول يستصحب ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، فذلك شطر ثالث من قسمة العلوم في الذهن ، فالعلم يتناولها جميعا ، ومنها ، كما تقدم ، المحال الممتنع لذاته ، فليس إلا الفرض المحض تنزلا في الجدال مع الخصم ، فكان من العلم ما أُطْلِقَ في آي من الذكر قَدْ أُحْكِمَ ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، فَثَمَّ الاستئناف الذي صُدِّرَ بالمؤكد الناسخ "إِنَّ" ، ولا ينفك يدل على محذوفٍ يُقَدَّرُ ، بالنظر في سباق قد تَقَدَّمَ من غيوب قد استأثر بعلمها الرب المعبود ، جل وعلا ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ، فثم المحذوف الذي يُقَدَّرُ ، ولو دلالةَ اقتضاء تَحْكِي السؤال المقدر ، فَلِمَ كان اسْتِئْثَارُ الله ، جل وعلا ، بهذه العلوم ، فكان الجواب لِأَنَّ : (اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، فلا أحد يعلم ذلك ، وذلك النَّفْيُ الذي تسلط على المصدر الكامن في الفعل "تَدْرِي" ، فأفاد العموم المستغرق ، وثم آخر هو في الباب نَصٌّ ، إذ وردت النكرة "نَفْسٌ" في سياق النفي ، فدلالتها دلالة العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول ، وإن دَخَلَهُ التخصيصُ من جهة العقل ، فلا أحد يعلم ذلك إلا واحد ، وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، الذي هَيْمَنَ عَلَى المقادير إذ تناولها العلم المحيط الذي اسْتَغْرَقَ ، فَثَمَّ منه تقدير أول ، وهو ما تناول الكليات والجزئيات كافة ، وذلك مما ثبت في الأزل ، فَنَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، وثم من المقادير عدم بالنظر في الخارج ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تَأْوِيلُهَا الناصح أن تَقَعَ كما قد قُدِّرَتْ ، وأن يكون من العلم تال يتناولها ، فآحاده بَعْدًا تحدث ، وهي لنوع أول يَقْدُمُ تُصَدِّقُ ، إذ ثم من آحاد المقدورات ما يخرج من العدم إلى الوجود بما نَفَذَ من المشيئة وما صدر عنها من كلمات الإيجاد والتصوير والتدبير ، فكان من العلم الأول المحيط ما تَنَاوَلَ المقدورات في الأزل ، ووصفها من ذلك عدم هو الأول ، وإن كان من تقديرها في الأزل ما يَثْبُتُ ، فذلك وصف الخالقِ المقدِّر ، جل وعلا ، لا وصف المقدورات ، فَثَمَّ من العلم ما قَدُمَ في الأزل ، قِدَمَ النوعِ الذي أحاط فاستغرق الكليات والجزئيات كافة ، وثم منه تال يَتَنَاوَلُ المقدورات إذ تُسْطَرُ في لوح التقدير المحكم ، فلا يُبَدَّلُ فيه القول ولا يَتَغَيَّرُ ، وهو ما اصطلح أنه القدر المبرَم ، وَلَمَّا تَزَلِ المقدورات على حد العدم ، وثم منها ثالث بصحف الملَك ، وهو ما اصطلح أنه القدر المعلَّق ، وهو ما يعالجه السبب الذي يُدْفَعُ بِهِ القدر ، فَثَمَّ من ذلك أسباب ، وهي في نَفْسِهَا من المقدور الأول ، فَلَا تستقل بالتأثير ، بل هي من السبب الذي رُكِزَتْ فِيهِ قُوَّةٌ تُؤَثِّرُ ، فليس الأمر اقْتِرَانًا بلا تأثير ، كما اقترح مقال الكسب المحدَث ، فأثبت إرادة لا كإرادة ، فهي إرادة لا تُؤَثِّرُ في إيجادِ المقدورِ ، إذ لا يكون بها وإن لم تَسْتَقِلَّ بالفعل ، بل قد أجراها الكسب مجرى الاقتران غير المؤثر ، فالمقدور يحصل عندها لا بها ، فليس ثم باء سببية في اللغة ، وإنما هي المصاحبة ، وذلك مما يقدح في ضروري أول قد أبان عنه درس النحو المحكم ، وآخر عن معاني الحروف يبين ، وكلام العرب من الجيل الأول ، هو أبدا معيار ناصح في الاستدلال بما كان من استقراء لمأثور منه يكثر ، إن من النظم أو من النَّثْرِ ، فيحصل من ذلك تقرير لأصول جامعات في معاني الحروف وَعَمَلِهَا ، ونظم الجمل المركبة وما يكون من دلالاتها الأولى نحوا هو المبدأ ، وثم تال من الْبَيَانِ يفيد معنى ثانيا يلطف ، ولا يصار إليه إلا بعد سلامة المعنى الأول ، المعنى النحوي ، وهو ما به السياق يستقيم فَيَسْلَمُ من العجمة واللحن المفسد لنظم الكلام ، ومن وسائطه التي تَقْرِنُ : حروف منها العاطف ، ومنها الناصب ، ومنها الجازم ، ومنها الجار ، كما الباء آنفة الذكر ، فهي مما اتحد عمله في المنطوق ، جرا لِتَالٍ هو المجرور ، واختلف معناه ، فمنه القسم ، ومنه المصاحبة التي لا تُؤَثِّرُ ، ومنها أخرى تُؤَثِّرُ في إيقاع الفعل ، فتلك باء السببية ، آنفة الذكر ، ومعنى المصاحبة فيها لا يخلو من تَجَوُّزٍ ، إذ لا مصاحبة بمعنى الاقتران في الزمن والرتبة ، لا مصاحبة بهذا المعنى تثبت ، فإن العلة تتقدم المعلول ، فالسبَّب أول قبل المسبَّب ، فليس له يقرن في الوجود ، وإن كان ثم آخر من باب التلازم ، فالسبب : ملزوم ، والمسبَّب : لازم ، فكان الاقتران بَيْنَهُمَا ، من هذا الوجه ، فهو التلازم بين شطرين ، فكان من الاستقراء ما غَلَبَ ، فاجتهد في تَتَبُّعِ مواضع الباء من اللسان ، وحصل له من ذلك ظن يَرْجُحُ ، فَثَمَّ من دلالة السببية ما ثبت ، ومحل الشاهد منه : السببية في الإرادة التي يقع الفعل بَعْدَهَا ، فَثَمَّ منها ما يُرَجِّحُ ، إذ فِيهَا قوى في الفعل تؤثر ، فالفعل يحدث بالإرادة لا عندها ، فَلَهَا من قوى الترجيح ما يُؤَثِّرُ ، فيرجح الفعل تارة ، والترك أخرى ، وكلاهما ، كما قرر أهل الشأن ، من الفعل ، فَالتَّرْكُ فِعْلٌ ، وَإِنْ سَلْبًا ، فَثَمَّ من الفعل : إيجاب وسلب ، وهو ما استوى طرفاه أولا في الحد ، فَيُشْبِهُ ذلك ، من وجه ، الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فكان من ذلك إرادة من الفاعل تُؤَثِّرُ في أفعال الاختيار ، وهي مناط التكليف بالأمر والنهي ، وما يكون من فعلٍ وَتَرْكٍ ، فالإرادة تؤثر في إيجاد المقدور إذ ترجح من خارج ، كما السبب الذي يرجح في الجائز ، فَثَمَّ من الإرادة ما يرجح ، وذلك سبب أول يؤثر ، وهو ، مع ذلك ، لا يستقل بالتأثير ، فإرادة الفاعل تؤثر في حصول الفعل ، فَثَمَّ المجموع المركب من المحل والسبب ، فالفعل هو المحل الذي يتناوله الترجيح ، فهو ، ابتداءً ، على حد العدم ، وذلك عدم الجائز الذي يطلب المرجح من خارج ليكون من وجوده تال يصدق ما كان من تقدير أول ، والسبب الذي يباشر المحل هو الإرادة التي ترجح ، وذلك مما افتقر إلى شرط قد وجب استيفاؤه ، وآخر من المانع قد وجب انتفاؤه ، فحصل من ذلك المجموع المركب الذي اصطلح أهل الشأن أنه العلة ، فَهِيَ المجموع المركب من المحل والسبب والشرط المستوفَى والمانع المنفِيِّ ، ولا ينفك ، مع ذلك ، يطلب أولا يسبق ، فإنه لا يستقل بوجوده إذ له من الوصف مبدأ النظر : وصف الجائز المحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا كان التحكم أَنْ كَانَ الترجيح بلا مرجِّح ، مع آخر يخالف عن مقدمات الضرورة في الاستدلال الناصح ، فيكون من ذلك محدَث بلا محدِث أول يسبق ! ، وذلك مما خالف عن بدائه العقل المصرح ، فذلك المجموع المركب من العلة ذات الأجزاء في الخارج ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب من السبب ما يَسْبِقُ ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ من الشهادة إلى الغيب ، فإن ثم من الشهادة حد وسقف لا يُجَاوَزُ ، وليس به تُحْسَمُ المادة الممتنعة في الذهن ، مادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فحسمها لا يكون في الشهادة ، لا جَرَمَ كان من إثبات الغيب ضرورةٌ تُلْجِئُ لدى كلِّ ذِي عقلٍ يَنْصَحُ ، فإثبات الغيب وإن لم يدرك بالحس المحدَث ، ذلك مما بِهِ امتاز العاقل المكلَّف من الجن والإنس ، فليس عدم الوجدان بالحس دليلا على عدم الوجود بالفعل ، بل ذلك تحكم محض ، أَنْ قَصَرَ الإثبات والنفي على مدارك الحس حصرا ، فهي دون غَيْرٍ ، هي مصدر المعرفة والعلم ، وذلك مِمَّا يجافي قسمة الأدلة المعتبرة ، فقد حَجَّرَتْهَا الحداثة إذ قَصَرَتْهَا على الحواس ، فَصَيَّرَتِ الجسدَ هو الأصل ، إذ ثم من مادته ما يُقَاسُ بالتجريبِ والبحثِ ، فليس ثم حقيقة إلا ما يخرج من المعمل ، فقد صار الإنسان مادة تُسْتَعْمَلُ ، فهي تُنْتِجُ إنتاجَ المادة الذي يُبَاشَرُ بالحس استهلاكا ، فَتُنْتِجُ لأجل الإنتاج ، وتستهلك لأجل الاستهلاك ، وتعمل لأجل العمل ، وتدخر لأجل الادخار ، فقد صار كل أولئك من الغايات لا الوسائل ، إذ لا غاية تجاوز مدارك الحس التي تقيس الخسارة والربح على قاعدة من المادة تُبَاشَرُ شهادةً ، فلا غيب يجاوز الحس ، وإن جائزا في العقل مبدأ النظر ، فهو يطلب المرجِّح من خارج ، دليلا يوجِد ، وآخر يُثْبِتُ ، إذ ليس الحس لكلِّ أولئك يدرك ، فإنه لا يُوجِدُ الشيء من العدم ، وإن كان من التجريب في المعمل ما يؤلف بين عناصر تكثر ، فيكون من ذلك إيجاد وخلق ، ولكنه ليس من العدم ، بل ثم عناصر أولى يَتَنَاوَلُهَا البحث ، فلا يحدِثُها من العدم ، وهو يؤلف بَيْنَهَا على سَنَنٍ أول يَثْبُتُ بِمَا رُكِزَ في كلٍّ من قوى تمنح الجسيمات وأخرى تَقْبَلُ ، فيكون من ذلك تفاعل محدَث ، وله من العلائق ما تناوله أهل الشأن ، فمنه ما عُنْصُرٌ يستأثر بالجسيم فهو يحوزه من آخر قد منح ، إذ ثم من القدر الفارق في القوى ما به انْتَزَعَ الجسيمَ ، وإن كان ذلك مطلبَ الآخر ، فهو يروم الوصول إلى حال من الاستقرار لا تحصل إلا بالفقد ، كما الآخر يَرُومُ بُلُوغَهَا ، ولا يكون ذلك إلا بالكسب ، ومن العلائق ، من وجه آخر ، ما يكون تساهما ومشاركة ، فَثَمَّ جسيم واحد يتناوبانه وبه يحصل الكمال لكلٍّ ، وإن تَنَاوَبَا ، فَثَمَّ من التفاعل ما يحدث بين اثنين على سنن محكم ، وبه يبلغان من الوصف استقرارا هو المرادُ لكلٍّ ، ولا بد له من أول يُحْدِثُ ، وهو ما اطرد من السنن المحكم ، وذلك ، في نفسه ، فعل في الخارج يسلك جادةً من التأثير مخصوصةً ، فإذا جُمِعَ عُنْصُرٌ إلى آخر حصل من ذلك تأويل يُخْرِجُ قوى التأثير في السبب ، وهو السنن المحكم ، يُخْرِجُهَا من العدم إلى وجود تَالٍ يصدق ، فيكون من وجود الفعل بما يظهر من المركب إذا ائْتَلَفَ من عناصرَ تُفْرَدُ ، يكون من ذلك ما يُصَدِّقُ أولا من وجود القوة بما رُكِزَ في كلِّ عنصر من قوى تَمْنَحُ وأخرى تَقْبَلُ ، وذلك ما يسلك جادة من السنن قد أحكمت ، فليس كُلُّ العناصر إذا جُمِعَتْ تُفْضِي إلى المركَّب ، بل لا بد من قوى أولى في كل عنصر قد رُكِزَتْ ، أن يمنح أو يقبل أو يشارك غيرا ، فَلِكُلِّ تَفَاُعلٍ من الجادة ما به قد اختص ، فلا ينفك يطلب أولا من العناصر بما ركز فيها من قوى التفاعل ، ولا يكون ذلك إلا أن يُهَيَّأَ من الظرف ما يحفز ، وهو ما يزيد في الفعل والتاثير ، وَيُسَارِعُ في خروج المركَّب الذي يُصَدِّقُ أولا من السنن المحكم ، أو يكون من ذلك ما لا يمنع ، فثم من المانع ما وجب انتفاؤه ، وثم من الشرط ما وجب استيفاؤه ، فحصل من ذلك ، أيضا ، مجموع في الخارج قد تَرَكَّبَ ، وهو العلة التي تَطْلُبُ أولى تَسْبِقُ ، وذلك مما تسلسل في التاثير فَانْتَهَى ضرورةً إلى مرجع من أعلى يجاوز فلا مرجع له يجاوز ، وهو ما يُبِينُ عن فَارِقٍ أصيل بين الرسالة والحداثة ، فالأخيرة لا تنفك تطلب المرجع من أدنى فهو من الأرض يَحْدُثُ ، فَثَمَّ من الحقيقة الأرضية المحدثة ما عنه التشريع والحكم يصدر ، بل وله من قصة الخلق ما اقترح ، وإن خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فأنكر الخلق المباشر ، وَتَكَلَّفَ من ضد ما يخالف عن مقدمات العقل المصرحة ، أن الحادث لا بد له من محدِث ، وهو ما عَمَّ فَتَنَاوَلَ إحداث العين من العدم ، وما يطرأ عليها من حركة وسكون ، وما يكون من تدبير يعم المحسوس والمعقول ، فهو الجاري على السنن المحكم ، وذلك ، بداهة ، مما افتقر ، أيضا ، إلى مرجِّح من خارج يُحَرِّكُ ، فلا يكون من ذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، إذ كيف يكون الغني الذي لا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ ، وشاهد العقل والفطرة والحس ، وإن لم يكن ثم شرع يَتَنَزَّلُ ، ذلك الشاهد دَالَّةُ ضرورةٍ تُلْجِئُ أن هذا العالم فَقِيرٌ الفقرَ الذاتيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا بد له من سبب من خارج يَرْفِدُ ، فلا يملك لنفسه ضَرًّا ولا نَفْعًا ، كما سائر المعبودات من دون الله ، جل وعلا ، وقد صَيَّرَتِ الحداثة هذا العالم من الآلهة التي تَبْطُلُ ، فَقَدْ حَلَّ فيه المطلق الأعلى ، فَحَلَّ المعنى في المادة ، ولم يَصِرْ ثَمَّ إلا المادة التي تُدْرَكُ بالحسِّ ، فهي المرجع والأصل ، وهي الحقيقة الثابتة في الخارج فلا حقيقة لها تجاوز ! ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنْهَا ما يجاوز الحس المحدَث ، تحكُّمًا في الاستدلال قد تَقَدَّمَ ، أَنْ صَيَّرَ الجهل دَلِيلًا على العلم ، فمن جهل من الأدلة ما يُغَايِرُ الحسَّ ويجاوز ، فهو الحجة على من علم من الدليل ما نَصَحَ فَجَاوَزَ الحسَّ المحدَث ، وذلك مما يخالف عن بدائه الضرورة ، بل من الحس المحدَث ما يشهد بِضِدٍّ ، فإن وجود هذا العالم في نفسه دليل على موجِد أول ، إذ العالم ، كما تقدم ، محدَث يَفْتَقِرُ إلى محدِث ، فَثَمَّ من فَقْرِهِ الذَّاتِيِّ ما لا يُعَلَّلُ ، وذلك ما عَمَّ افْتِقَارَهُ إلى الموجِد الأول ، وآخر يُتْقِنُ الخلقَة وَيُدَبِّرُ الحركة ، فَثَمَّ من ذلك وصفُ فَقْرٍ ذاتِيٍّ لا يُعَلَّلُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إِلَى أوَّلٍ يُوجِدُ وَيُدَبِّرُ ، فَلَهُ من ذلك توحيدُ ربوبيةٍ يَنْصَحُ ، وهو أول في الدين المجزِئِ ، وله تال هو القسيم ، من وجه ، واللازم من آخر ، فَثَمَّ آخر من توحيد الإله الذي يحكم ويشرع ، فالتسلسل في التأثير أزلا يمتنع ، إن في التكوين وذلك توحيد الربوبية ، أو في التشريع وذلك توحيد الألوهية ، فَثَمَّ مرجعٌ من خارجِ هذا العالم يُجَاوِزُ ، إن في التكوين أو في التشريع ، فالأول في دينِ النبواتِ ، أول التكوين الذي يُدَبِّرُ ، وأول التشريع الذي يحكم ، ذلك الأول في السماء ، فالأمر يَنْزِلُ من أعلى ، فهو يجاوز هذا العالم ويفارقه ، فلا يحل فيه ولا يتحد ، كما اقترحت الحداثة في مذهب محدَث قد غلا في الحقيقة الإنسانية ، فصيرها هي الأصل ، فهي مركز التشريع والحكم ، فَثَمَّ إنسان قد صار السيد المتأَلِّه الذي يقترح من الشريعة ما يواطئ الهوى والذوق ، إن في الاعتقاد أو في الحكم ، فَاقْتَرَحَ من قِصَّةِ الخلقِ مَا يَنْفِي الربَّ الخالقَ ، تجبرا وطغيانا قد جاوز الحد في الفكرة ، وإن خالف عن صريح العقل الذي ينصح ، وله من مقدمات الضرورة ما ثَبَتَ مبدأ الاستدلال ، ومنها ما تقدم أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ ضرورةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصفِ الوجود اللازم : وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الإيجاد المتعدي : وصف فعل ، نَوْعُهُ أَوَّلٌ يَقْدُمُ ، وَثَمَّ من آحاده ما يحدث ، فهو الجائز مبدأ الأمر ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج إذ يُصَدِّقُ الفعلُ قوةً أولى بآحاد منه تحدث بالفعل ، فَثَمَّ من ذلك جائز يطلب المرجِّح ، وهو آحاد من المشيئة تحدث ، وبها المقدور الأول يخرج من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، فَاقْتَرَحَ العقل المحدَث من تلك القصة ما يخالف عن مقدمات الضرورة ، نَقْلًا وَعَقْلًا وفطرةً وحسًّا ، فمن عالج هذا العالم بالحس ، وهو من باب الإلزام لخصمٍ قد قصر الاستدلال على الحس ، فهو وحده ، كَمَا يَزْعُمُ الخصمُ ، ما ينصح العقل بمقدماتٍ يُعَالِجُهَا بما رُكِزَ فيه من قوة الفهم والفقه ، فالعقل لا يصح مرجعا أو مصدرا من مصادر المعرفة ، فهو آلة لا تنفك تطلب المادة التي تعالجها ، والخلاف في مصادر هذه المادة ، فالحداثة قد تحكمت ، فقصرت المصدر على واحد وهو الحس المحدَث ، إذ صيرت الجسد هو المبدأ ، فالإنسان هو المركز ، والمرجع من الأرض يحدث ، فلا مرجع من السماء ، إن في التكوين ربوبية أو في التشريع ألوهية ، فَلَيْسَ ثَمَّ إلا الإنسان بلا إله ، بل قد صار هو الإله السيد الذي يحكم ويشرع ، وليس ثم وراء هذا العالم آخر ، إذ لا يدرك الحس ذلك الآخر ، وقد تحكمت الحداثة فَصَيَّرَتِ الحسَّ ، كما تقدم ، مرجع الإثبات والنفي الأوحد ، وإن كان ثَمَّ من الخبر ما يَنْصَحُ ، فهو يدل على آخر يجاوز هذا العالم المحدَث ، بل ثم من قَرِينَةِ العقلِ ما يَنْصَحُ ، فإن من الحكومات ما لم يُقْضَ فِي هذه الدار ، وفواتها يقدح في معنى العدل المطلق ، أن يحكم في المظالم بما يدل العقل على حسنه ضرورةً ، فَيُوَفَّى كلٌّ حسابه ، فـ : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، وَتُرَدُّ المظالم إلى أَهْلِهَا ، فَلَوْ جَحَدَ العقل هذه المسلَّمة الضرورية في باب الحسن والقبح ، لأنكر معلومًا ضَرُورِيًّا قد أجمع النظار على حسنه ، فالعدل مما يحسن ، وَرَدُّ المظالم آخر عنه يصدر ، فهو لازمه في القضاء المحكم الذي تجرد من الهوى والحظ ، والغفلة والخطأ ، فكان من ذلك كتاب يحصي كل شيء ، فهو ينطق بالحق ، إذ يَسْتَنْسِخُ القولَ والفعلَ ، فَثَمَّ منه دليل يشهد ، وهو عن الظلم والخطإ قد تَنَزَّهَ ، فكتب البشر المحدَثة ، وإن بلغت ما بلغت من الإحصاء والضبط ، فَلَا يَنْفَكُّ يعتريها الخطأ والنقص ، بل والهوى والحظ الذي يَتَقَصَّدُ أن يخالف عن حكومة الحق ، وذلك دليل الفقر ، فقرِ الظالمِ ، وإن بَدَا الغني القاهر ، فَلَوْ كَانَ من غناه الغنَى الذاتيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، كما لسان حاله بل ومقاله في مَوَاضِعَ ، لو كان ذلك وصفه ما اضطُّرَّ أَنْ يَظْلِمَ ، فهو يَفْتَقِرُ إلى ما عند المظلوم أَنْ يَسْتَغْنِيَ به من فَقْرٍ ، فيقتل ويسفك ، ويسرق وينهب ...... إلخ ، فكل أولئك دليلُ ضدٍّ من الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وإن اقْتَرَحَتْ له الحداثة من مذاهب الحكم والسياسة ما يُؤَوِّلُ وَيُبَرِّرُ ، فَيُخَرِّجُ ذلك على جادة من العقل تَنْصَحُ ، فَثَمَّ المثال الواقعي ، وثم آخر يصير العالم على مثال الغابة ، ولها من الشرعة ما يأكل القوي به الضعيف ، وليس يُذَمُّ بذلك ، فهو قانون الطبيعة المحكم ، وَإِنْ جَرَى على خلق لم يُكَلَّفْ ، فذلك قانون الحيوان الذي لا يَعْقِلُ ، فَعَجَبًا أَنْ تَتَبَجَّحَ الحداثة بمذهب ينحط بالإنسان وقد زعمت أنها له تكرم ، فانحطت به إلى دَرَكَةِ تَسْفُلُ ! ، فقانونه قانون الحيوان ، إن في الخلق أو في السلوك ، فاقترحت من قصة الخلق ما يخالف عن بدائه العقل ، أن كان ثَمَّ مادة أولى بسيطة ، لا عقل لها ولا حس ولا إرادة ، فقد وُجِدَتْ في الأزل بلا موجِد ، وهي ما لا يجزئ ، بداهة ، في إثبات أول عنه هذا العالم المتقَن المحكَم يَصْدُرُ ، فَهِيَ تَفْتَقِرُ إلى من يُوجِدُهَا مبدأَ النظرِ ، ثم يحرِّكُها ، كما اقترحت الحداثة ، فيكون من ذلك انقسام وَتَرَاكُبٌ ، فلم تَرْضَ الحداثة بهذا القول ، إذ ثم فيه تَوْجِيهٌ وإرادةٌ أولى تَضطَّرُهَا أَنْ تُثْبِتَ الخالق الأول ، فيكون ثم من المحرِّك أول ، فهو يُؤَثِّرُ فيها انقساما ثم تَرَاكُبًا على مثالٍ مخصوصٍ ، وذلك مما يفسد مذهبها ـ فلا يستقيم إلا أن تنكر الخلق الأول بالقصد والإرادة ، مع نفي التخصيص في الفعل ، فذلك ما يوجب أولا من العلم الذي يقدر ، فلم ترض الحداثة بكل أولئك ، وإن كان من ذلك ما يواطئ مقالها تطورا ، فقد زَادَ من القيد أنه الموجَّه بالعلم المقدِّر والإرادة التي تُخَصِّصُ ، والمشيئة التي تُرَجِّحُ ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، من باب الإلزام للخصم ، لا أنه صحيح في نَفْسِ الأمرِ ، فإن التطور الموجَّه ، وإن كان جائزا في العقل لدى المبدإ ، إذ يسلم من نواقض القياس المصرح ، أن يكون ثم خلق بلا خالق في باب التكوين ، كما إنسان بلا إله في باب السيادة والتشريع ، وكما جسد هو الأصل بل هو الحقيقة وحده ، فلا روح له تَرْفِدُ ، وإن كان ثم من ذلك شيء فقد حَلَّ في الجسد واتحد به ، فلم يعد في الخارج حقيقة تُدْرَكُ إِلَّا ما يُنَالُ بالحس المحدَث ، وكذا المعنى آنف الذكر ، فقد حل في المادة واتحد بها ، فصارت المادة التي تدرك بالحس هي الأصل ، إذ الجسد هو المركز ، فليس ثم رَبٌّ في السماء يخلق ويدبر ، وله من الوصف تال يَلْزَمُ ، فهو الإله الذي يحكم ويشرع ، فكل أولئك من نَوَاقِضِ العقل المصرح الذي تَتَبَجَّحُ الحداثة أنها له تُعَظِّمُ ، وليست تُعَظِّمُ إلا الحس ، وهو ما يهدر خاصة العقل في الإيمان بالغيب ، وَإِنْ جَائِزًا يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج يثبت ، فيكون من الدليل ما يَنْصَحُ الحسَّ المحدَث فهو له يجاوز ، فكان من ذلك الخبر الذي يصدق ، وهو ما لا يعالجه الحس ، فمداركه لا تطيق إلا الشهادة ، فتباشر منها المحسوس ، فلا عناية لها بالمعقول ، فتلك خاصة الروح ، وهي معدن الجنان الذي يعقل ، وذلك محل الإيمان بالغيب ، واقتراحِ آخرٍ من الخيال والحدس ، وكل أولئك من خاصة الإنسان الذي يَعْقِلُ ، فَلَهُ من ذلك محل يُنَاطُ به التكليف بالأمر والنهي ، وإن في شرائعِ الوضعِ المحدَثَةِ ، فلا يخاطب بها الحيوان الذي لا يجاوز علمه مداركَ حِسِّه ، وهو ما يلزم الحداثة إذ صيرت الجسد ، كما تقدم ، المبدأ والغاية ، مبدأ الإثبات والنفي ، وغاية الخلق والشرع ، وإن أَفْضَى ذلك إلى عَبَثٍ يجحد المعلوم الضروري الناصح ، أن هذا الإتقان والإحكام لا بد له من متقِن محكِم أول ، وآخر من الغاية يَنْصَحُ ، ومن ذلك ما تَقَدَّمَ من حكوماتِ عدلٍ تَفْصِلُ في المظالم التي لم تُسْتَوْفَ في هذا العالم ، فَثَمَّ من العدل معنى مطلق ، وهو ما أجمع على حسنه العقلاءُ كَافَّةً ، وذلك ما استوجبَ ضرورةً دارا تجاوز هذا العالم ، فالعقل ، وإن لم يستقل بإثباتها ، لا سيما ما فُصِّلَ من أعيانها وأحوالها ، إلا أنه ، من وجه آخر ، يدل عليها دلالة ضرورةٍ تُلْجِئُ ، بما يعالج الناظر في هذا العالم من مظالم لم يُقْضَ فيها وقد فات المحل ، فَمَاتَ الظالمُ دُونَ أَنْ يُقْتَصَّ منه القصاص الظاهر ، وإن كان من العقاب الناجز ما لا يُدْرَكُ ، فتلك معيشة الضنك التي تُؤْلِمُ ألما يجاوز الحس ، فهو أعظم في القدر ، وإن خفي في الوصف ، تصديق آي قد أحكم ، فـ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وليس ذلك مما يَظْهَرُ لكلِّ أحدٍّ ، فَلَا يَرَاهُ إلا من فَطِنَ ، فَلَهُ من ذلك فراسة تجاوز الظاهر ، فلا يغتر بما يكون من مظاهر الفخر والخيلاء ، فهي تحجب ضِدًّا من الذلة والصغار ، وَلَا تَنْفَكُّ أماراتُه تَظْهَرُ ، فَكُلَّمَا زَادَ صاحبه وتكلَّف من آي العزِّ والرفعةِ ، فلا يَنْفَكُّ يحكي ضدا من الذلة والضعة ، وإن لم يحسن كلُّ أحدٍ دَرَكَهَا ، بل ثم كثير يَغْتَرُّ بالطاغوت إذ يخرج في زِينَتِهِ ، وهي ما يعالج الحسُّ المحدثُ ، فَيَسْحَرُهُ فلا يحسن يميز الحق من الباطل ، فَقَدْ فَسَدَ معياره في الوصف والحكم ، فانحط إلى دركةٍ تَسْفُلُ ، لا تجاوزُ زِينَةَ هذا العالم المحدَث ، فمن خرج بها على قومه فهو السيد الناصح الذي فَقِهَ الأمر واستبد باللذة والحكم ، وإن ظَلَمَ ما ظَلَمَ ، فليس ثم معيار عدل يجاوز ، بل العدل ما به تنال اللَّذَائِذُ ، كما الحداثة قد اقترحت من مثال التطور آنف الذكر ، فكان من ذلك انتخاب في الخارج لا يُبْقِي إلا على القوي الغالب ، وإن الظالم الذي يخالف عن حكومة العدل التي استقر حسنُها ضرورةً في العقل ، إِنْ عَقْلَ الفردِ أو آخر من الجمع ، لا جرم لجأت الحداثة إلى طاغوت آخر ، وإن في باب المعاني والأحكام ، أَنْ تُخَرِّجَ هذا الفعل الذي ينحط بالإنسان إلى دركة الحيوان الذي يصدر عن غريزة لا تجاوز الحس المحدَث ، أَنْ تُخَرِّجَ هذا الفعل على قاعدة من الحسن والعدل ، فذلك قانون الطبيعة الذي لا يرحم الضعيف ، فليس له في الحياة حق ، وليس له من مأدبة الكون صحن ، كما يقول بعض من غلا في مذاهب محدثة قد صيرت رأس المال هو الباعث في الفكرة ، والمحفِّز في الحركة ، وإن ظلمت الخلق ، فاستبدت بالثروة ، لا عن عمل يدأب ، وإنما اقترحت من المثال ما يَسْتَرِقُّ العامل في المصانع ، وإن تَبَجَّحَتْ أنها قد حررته من رِقِّ المزارع ، فكان من ذلك تحرير من قيد إلى آخر ، كما يُنَوِّهُ بعض من حقق ، فتلك الحرية التي تتبجح بها الحداثة أن توسلت بها إلى الغاية ، الغاية المادية المحدَثة التي لا تجاوز مدارك الحس ، وإن زخرفت من المذهب ما يَغُرُّ ويخدع ، فصار من اسم الحرية ما به يسترق الحر طوعا ! ، إن في المصنع الذي ينتج ، فلا يعطى من الأجر إلا قليلا به يقيم الصلب ، وما زاد فهو يُنْفَقُ في لذة الحس ليستهلك ما أُنْتِجَ في المصنع ، ويرجع الربح إلى الأصل ، وليس العامل إلا آلة بها الإنتاج يزيد ، وكذا الاستهلاك على قاعدة من المادة تجرده من خاصة الإنسان المكلَّف ، خاصة العقل الذي يَنْصَحُ ، وَإِنْ تَبَجَّحَتْ أخرى أنها مذهب إنساني يروم تحرير العقل من القيد الكهنوتي ، فتذرعت بما كان من الدين المحرَّف ، لا أن تَرُدَّ الإنسان إلى آخر قد أحكم ، وإنما صيرته الذريعة إلى إبطال الوحي والشريعة مرجعا من خارج يجاوز ، فَحَقَّرَتْ من شأن الإنسان وهي تَزْعُمُ أنها له تعظم ، إذ انحطت به إلى دركة الحس المحدَث ، فصار الانتخاب الطبيعي فضيلةً ، وَإِنْ صَيَّرَ الإنسان حيوانا كسائر الحيوان ، فلا خاصة بها يمتاز ، بل قد وصفَه بَعْضٌ ، أنه قَذَرٌ من الكيمياء في كَوْكَبٍ ذي حجم متوسط ، فقد وجد خبط عشواء ، وليس ثم حاجة إلى إله ، فقانون الطبيعة يجزئ في تفسير الخلق ، ووضع الشرع ، إذ ثم من الانتخاب ما يمنح القوي أهلية السيادة والحكم ، فهو يقترح من الحكومات ما يواطئ الهوى والحظ ، فلا يسلم العقل المحدَث ، إن المفرد أو المجموع ، لا يسلم من وصف الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فهو باعث الظلم الذي يفحش ، وإن التمس له من القول ما يُزَخْرِفُ ، فَصَارَ الظلمُ فضيلةً تُحْمَدُ ، وله من المذهب ما يُبَرِّرُ ، كما تقدم من الانتخاب الطبيعي الذي يُفَسَّرُ به عالم الحيوان ! ، لا آخر من الإنسان الذي شَرُفَ بما رُكِزَ فيه من قوى التَّعَقُّلِ ، وبها يُنَاطُ التكليف المنزَّل الذي يجاوز به دركة الحيوان الأعجم ، فالحداثة تُعَظِّمُ الإنسان دعوى ، ودليلها يحكي ضدا إذ يصيره حيوانا كسائر الحيوان ، بل وَيُصَيِّرُهُ قذرا من الكيمياء ، وهي ، من وجه آخر ، تقترح من اسم الحرية ما به الانعتاق من أوهام الدين ! ، فتطلق ولا تقيد ، فَثَمَّ من القيد ما يحسن أن يكون من الحرية ما ينعتق به العقل من أوهام الدين المبدل والمحرف ، لا الدين مطلقا فإن منه المحكم الذي ينصح ، وله من الخبر ما يصدق ، وهو يعالج في الإنسان المحل الأشرف ، محل العقل الذي به قد امتاز من الحيوان المحدَث ، وهو مناط التكليف بالوحي الناصح الذي سلم من التبديل والتحريف ، بل قد جاء الوحي بما يحرر العقل ، حقيقةً لا دعوى ، فأبطل ما فسد من المقال وما حَدَثَ من آلهة الباطل ، إن حسا أو معنى ، فَنَسَخَ رَسْمَ الكهنوت المحدَث ، وهو في كل جيل يضل الخلق إذ له من ذلك غاية ومتجر ، ولولا ضلال الخلق ما صار ذا رياسة وثروة .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
 
 رقم المشاركة : ( 10 )
عضو جديد
رقم العضوية : 10053
تاريخ التسجيل : Feb 2024
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 11
عدد النقاط : 10

مهاجر أحمد غير متواجد حالياً

افتراضي

كُتب : [ 05-12-2024 - 03:04 PM ]


وهو ، لو تدبر الناظر ، ما لم تخرج عنه الحداثة ، فالفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ أصل في الإنسان يُسْتَصْحَبُ ، فاقترحت من دعوى الحرية أنها تُعْتِقُ الإنسان من رِقِّ الكهنوت المبدِّل والمحرِّف لما نَزَلَ من الوحي المحكم ، فقد صَيَّرَهُ المتشابه بما أحدث من المدلول الذي يأتي على الأصل بالإبطال ، كما التثليث الذي حَدَثَ في دين المسيح عليه السلام ، وهو ما يَنْقُضُ عُرَى التوحيدِ ، وهو الأصل الجامع لرسالات السماء كافة ، فاقترحت الحداثة من دعوى الحرية أنها تُعْتِقُ الإنسان من هذا الكهنوت المحدث ، وإن أطلقت فلم تقيد بالقيد آنف الذكر ، فهو يبطل دعواها ، إذ يحكي من الدين جنسا عاما يستغرق ، فمنه الصحيح المحكم ، ومنه آخر قد بطل ، فهو المبدَّل المحرَّف ، والتحرير من الثاني حسن يجمل ، لا التحرير مطلقا كما اقترحت الحداثة لتبطل مرجع الرسالة ، فساوت بين المختلفين تحكما في الاستدلال ، وَصَيَّرَتِ الدينَ كُلَّهُ دينَ الكهنوت المبدَّل ، وهو ما يَسَّرَ بَعْدًا النفيَ العامَّ الذي يستغرق ، ولا يخلو من تحكم في التَّعْمِيمِ إذ ساوى بين الصحيح والعليل ، المحكَم والمبدَّل ، فَزَعَمَتِ الحداثة ، وفي بعض زعمها حق لا يجحد ، زعمت أن من دين الكهنة ما لا يُعْقَلُ ، لا أنه الجائز المحتمل الذي يحار العقل في حقيقته وَكَيْفِهِ ، وإن جَوَّزَهُ ، بادي النظر ، بل ثم من دين الكهنة ما لا يُعْقَلُ ، فهو المحال الممتنع لذاته ، كما الحلول والاتحاد في شخصِ المسيحِ ، عليه السلام ، وإن واطأته الحداثة فوقعت فيما عَابَتْهُ منه ، فكان من ذلك حلول واتحاد أعم ، إذ ثم الغلو في النوع الإنساني أَنْ صَارَ هو الإله الذي يسود ، فقد حصل له من الآلة ما به يحكم العالم ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مِمَّا لا يحسم سؤالَ التسلسلِ ، فإن الإنسان قد خَلَقَ هذه الآلة ، فَقَدَّرَ أولا ثم أوجد تاليا ، وذلك الخلق المقيد إذ تَنَاوَلَ أولا من المادة فمن خلق العنصر الذي رَكَّبَ في المعمل والمصنع ؟! ، فَخَلْقُ الإنسانِ للآلة : تحويل ، أو جمع بعد تفريق ، فهو التركيب من أجزاء أولى ، ولا تنفك تطلب الموجِد الأول ، فَلَيْسَ الإنسانَ إذ يَطْلُبُ ، أيضا ، الموجِد الأول ، الذي قَدَّرَ على هذه الهيئة المخصوصة ، فذلك دليل الإرادة التي تخصص ، وهي بِعِلْمٍ أول تُسْبَقُ ، علم الإحاطة الذي يستغرق ، فَثَمَّ مِنَ التَّسَلْسُلِ ما اطَّرَدَ إن في الإنسان الصانع ، أو ما يَصْنَعُ في الخارج ، وهو ما يطلب أولا لا أول قبله ، وله من العلم ما أحاط فاستغرق وبه كان التقدير الأول في المبدإ ، وإن لم يجاوز حَدَّ العدم ، فذلك ما كان من المقدور الثابت في العلم الأول المحيط ، فوجود المقدور فيه : وجود القوة إذ ثم من نوعه ما يقدم ، لا أنه شريك يضاهي الخالق الأول ، جل وعلا ، فيشاطره وصف الأولية المطلق ، فَقِدَمُ نَوْعِ الحوادث مما يعدل في الحد : قِدَمَ العلمِ الذي اسْتَغْرَقَهَا بالتقدير المحكم ، وذلك ما عَمَّ الكليات والجزئيات كافة ، وَقِدَمُ المشيئة التي تُرَجِّحُ ، فَثَمَّ من آحادها بعدا ما يحدث فهو يرجح في المقدور الأول ، وهو كان عدما ، فَيُخْرِجُهُ إلى وجود تال يُصَدِّقُ ، فيكون من ذلك ترجيح في جائز قد استوى طرفاه في الحد ، وإن استصحب منه عدم أول ، فلا يصير ذا وجود في الخارج يزيد ، وهو الواجب ، لا لذاته وإنما لغير بما كان من قرينة ترجيح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، فلا يكون من الجائز بعدا واجب في الخارج يصدق ، الواجب لغيره ، لا يكون ذلك إلا أن يكون ثم سبب يُوجِبُ من خارج ، فهو يخرج المقدور الجائز من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود فَقِدَمُهُ لَيْسَ قِدَمَ ذاتٍ في الخارج تحصل في الأزل فيكون من ذلك شرك في الأولية يقول بقدم العالم ، إن علة مادية أو أخرى صورية ، بل قدمه في هذه الحال قِدَمُ التقدير الذي يَتَنَاوَلُهُ ، وإن معدومًا في الأزل ، فلم يكن ثَمَّ إلا الخالق الأول ، جل وعلا ، واجب الوجود الأول ، ذو الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ من خارج يُرَجِّحُ ، فذلك إنما يكون في الجائز ، فهو الطالب للمرجِّح من خارج ، لا في واجب الوجود لذاته ، فلا بد من أول هو الواجب لذاته ، وله من وصف القدم ما عم فاستغرق الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فَثَمَّ مِنْ الفعل والحكم ما قَدُمَ منه النوع ، فكان بعدا من الآحاد الحادثة في الخارج ما يصدق ، وكان بها الترجيح في جائز قد استوى طرفاه في الحد ، فَاسْتُصْحِبَ منه عَدَمٌ أول ، وهو المحتمِل بعدا الإيجاد بما يكون من سَبَبٍ يُرَجِّحُ من خارج ، فلا يكون ذلك تحكما يوجِد بلا موجِد ، فذلك مما يخالف عن بدائه العقل ، أن يكون ثم فعل بلا فاعل ، محدَث بلا محدِث ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما يَنْتَهِي ضرورة إلى أول لا أول قبله ، له من وصف الوجوب : وصف الذات الذي لا يعلل ، وبه قد انفرد ، فكل ما سواه فهو محدَث جائز ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، إذ وجوده وجود القوة لا الفعل ، فلا ينفك يطلب المرجح الذي يخرجه من القوة إلى الفعل ، فكان من ذلك قدم الوصف الذي به التقدير : عِلْمًا قد أحاط فاستغرق ، وخبرة بها آخر أخص فهو يَتَنَاوَلُ ما دَقَّ من الجزئيات ، وحكمة بها تهيئة المحال أن تقبل الأسباب بما رُكِزَ في كلٍّ من قوى تنصح ، إن قابلة في المحال أو مؤثرة في الأسباب ، وكل أولئك من وصف الجمال الذي ثبت أولا ، فكان من ذلك علم محيط قد استغرق وفيه المقدورات كافة تثبت ، ثبوت القوة الأول ، وهو ما يطلب بعدا المرجِّح الموجِب من خارج ، فكان من ذلك آخر من الوصف ، وهو قسيم الجمال في الحد ، فثم من الجلال ما به الثَّنَاءُ والحمد ، ومنه ما يكون من المشيئة والقدرة التي تُرَجِّحُ في المعلوم الأول من المقدور الجائز ، فتخرجه من العدم إلى وجود تال يصدق ما كان من التقدير الأول في العلم المحيط المستغرِق ، فَثَمَّ جمال العلم الذي يُقَدِّرُ ، وثم قسيمه من جلال المشيئة التي تُرَجِّحُ ، وبهما الكمال المطلق يثبت ، فدليل العقل الذي به الخصم يَتَبَجَّحُ ، لا ينفك يدل على ضد من قوله المحدَث ، فهو يحكي ضرورة حاجة تلجئ إلى أول لا أول قبله ، فله من الوصف كمال هو المطلق ، وهو في الأزل يَثْبُتُ ، وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، ومن أفعاله ما قَدُمَ نَوْعُهُ ، وَكَاَن من تَالٍ من الآحادِ ما يُصَدِّقُ ، ومناطه المشيئة التي تُرَجِّحُ من خارجٍ ، وما يكون من كلمِ تكوينٍ حادث ، فهو عنها صادر ، والخلق بها كائن فهو يغايرها في الحقيقة والكيف ، فَثَمَّ ضرورة تلجئ أن يكون ثم تمايز بين الخالق الأول ، جل وعلا ، ذاتا واسما ووصفا وفعلا وحكما ، والمخلوق المحدث ، فذلك فارقُ ضرورةٍ يَثْبُتُ في العقل المصرَّح ، ولو كان ثم اشتراك فلا يجاوز المعاني المجردة في الذهن ، وهي الأجناس الدلالية المطلقة ، عمومات لا أعم منها ، وتحتها من الأنواع والآحاد ما يمتاز بالقيد ، فهو فَصْلٌ في التعريف والحد ، كما اصطلح النظار ، فكان من ذلك ما يبطل مقال الحلول والاتحاد الذي صارت إليه الحداثة لِتَنْزِعَ عن الإله الحق السيادة ، وتخلعها على الإنسان الذي صار في الأرض السيدَ والإله ! ، فكان من ذلك ما تناول المحسوس ، كما الاتحاد بشخص المسيح ، عليه السلام ، أو ما كان من حلول واتحاد أعم ، فد تَنَاوَلَ النوع الإنساني جنسا يجرده الذهن فهو مثال الإله في الأرض ، وصورته التي تظهر في السيادة والحكم ، فكان من ذلك الغلو الذي سَلَكَتِ الحداثة جادته ، وإن أنكرته على الدين المبدَّل فقد وقعت في عين ما أَنْكَرَتْ ، وَزَادَتْ في الحدِّ ، فَثَمَّ من ذلك تعصب آخر يَتَحَكَّمُ أَنْ قَصَرَ هذا الحلول والاتحاد على الإنسان الأرقى ، وهو الوحش الأشقر ، كما اصطلحَ بَعْضٌ ، وله من القوة ما به يَبْقَى ، وإن ظَلَمَ الضعيف وسحق ، فذلك حكمه في عالم لا يُقِرُّ بالسيادة إلا للقوي ، فهو الأصلح ، وإن كان أظلم وأفجر ، فمعيار الصلاح هو القوة لا الحق ، وثم من ذلك ما ألجأ الحداثة أن تَنْزِعَ عن الإنسان وصف العبد الخاضع الذي يتأله بما نَزَلَ من الوحي الحاكم ، فأبطلت الحداثة خاصة الروح إذ صَيَّرَتِ الجسد وحدَه مناط الإثبات والنفي بما رُكِزَ فيه من الحواس ، مع قُصُورٍ فِيهَا يَظْهَرُ ، وَخَلَلٍ عَلَيْهَا يَطْرَأُ ، فهي رافد من جملة روافد تُمِدُّ العقل بمادة من العلم يعالجها بما استقر من مقدمات الضرورة في النظر والاستدلال ، فَلَيْسَتِ الحواس مرجع الاستدلال الأول ، وليست من باب أولى المرجع الأوحد ، بل ثم من العقل ما نَصَحَ ، ومن الفطرة ما سَلِمَ ، وثم الخبر الذي يَرْفِدُ العقل بمادة من العلم تجاوز ، فلا يُطِيقُهَا العقل مبدأَ النظرِ ، إثباتا أو نفيا ، وإن كان منها جائز يحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح المثبِت من خارج ، فذلك خبر الوحي النازل ، بل ثم من ضرورات العقل ما ثبت مبدأ النظر ، والعقل ، مع ذلك ، لا يستقل بالتفصيل ، بل إثباته المجمل الذي يَطْلُبُ مِنَ الدليلِ ما يُبَيِّنُ ، كما تقدم من ضرورةٍ في الوجدان تَقْضِي ضرورةً أَنَّ ثَمَّ دَارًا تجاوز هذه الدار ، إذ فِيهَا تُسْتَوْفَى المظالم ، فَثَمَّ منها ما لم يُقْضَ في هذه الدار ، فَسَلِمَ الظالم من العقاب الناجز ، وإن كان منه خفي لا يظهر ، فذلك ذل وحزن وكآبة منظر ، وإن اجتهد ما اجتهد أَنْ يَتَزَيَّنَ ، فَثَمَّ من قُبْحِ الصورةِ الباطنة ما لا تخطئه عين المسدَّد الذي يجاوز الزينة والزخرف إلى آخر أدق يحكي حقيقة النفس ، وتلك فراسة من آمن بالحق ، وصدق الوحي ، فَثَمَّ عقاب آخر أدهى وأمر ، وهو ما به تستوفى الحقوق والمظالم ويكون من ذلك شفاء صدر ناصح ، وإن شُرِعَ منه في الأولى بَذْلُ السببِ الذي يشفي ، ومنه قِتَالُ من كفر وجحد ، فكان من ذلك الأمر الموجِب أَنْ : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، فلا يَبْلُغُ ذَلِكَ في أحيان حَدَّ التمام ، فلا يكون الجزاء الأوفى إلا في دار أخرى تجاوز ، وبه معنى العدل يَنْصَحُ تأويلا في الخارج يَسْلَمُ من النقص والظلم والخطإ ، إذ ثم من الحكومة : حكومةُ غَنِيٍّ لَا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ ليظلم ويقهر ، فَيَسْتَلِبَهُ من مالكِه الأول ، كما ملوك الدنيا إذا حَادُوا عن جادة العدل والحكمة ، فالعدل التام لا يُنَالُ في هذه الدار ، فَثَمَّ من دليل الحس والنظر ما يعالج مظالم تَكْثُرُ ، ولم تستوف فيها الحقوق ، فدل ذلك ضرورةً في العقل تَنْصَحُ على دارٍ أخرى ، دارِ الحسابِ المحصي والجزاء الأوفى ، وإلا كيف يكون ثم عدل ؟! ، وهو محل الإجماع لدى كُلِّ ذِي عقلٍ ، ومن عجب آخر أن الحداثة تُنْكِرُ هذه الضرورة العلمية الملجئة ، أن ثم دارا أخرى تُسْتَوْفَى فيها المظالم ، على التفصيل آنف الذكر ، وهي بَعْدًا تُعَظِّمُ العدل ، وتحتج بما اصطلح أنه معضلة الشر والظلم إذ ثم من ذلك ما لم تستوف حكوماته ، فإذا قيل إن ثم ضرورة تلجئ أن ثم دارا أخرى فيها تأويل العدل المطلق الذي تطلبه الحداثة ، لم يكن منها إلا الجحود ، جحود ما تطلب من العدل المطلق ! ، فقد لزم منه إثبات ما تَفِرُّ منه ! ، أن يكون ثم دار أخرى تجاوز عالم الحس المحدث الذي صَيَّرَتْهُ الغاية والمبدأ ، وكان من ذلك ذريعة مذهب لا يجاوز الحس المحدث ، فلا مرجع ينصح في الإثبات والنفي إلا الحس المحدَث ! ، وهو التحكم الذي تقدم ، إذ يُصَيِّرُ العقل وهو آلة الفهم ، يُصَيِّرُهُ مرجعَ الحكمِ على قاعدة من الحس المحدَث ، والصحيح أنه يُعَالجُ من المادة ما له روافد تجاوز الحس ، كما الفطرة الأولى الناصحة ، ومقدمات الضرورة في القياس الناصح ، وما كان من خبر صادق يرفده من خارج إذ يخبر بما لا يخالف عن معيار العقل المحكم ، فلا يأتي بالمحال الممتنع لذاته ، وإنما يأتي بالمحار الذي لا يدرك العقل منه الحقيقة والكيف في الخارج ، وإن جَوَّزَ منه الوجود المطلق دون خوض في ماهية أو كيف ، فذلك ما لا يطيق إذ لم يشهده ، ولم يشهد مثيلا له في الخارج ، ولم يأته خبر صادق عَمَّنْ شاهد ، وذلك ما أبطل فَرْضَ التطور الذي اقترحته الحداثة ، مع مخالفة أولى لصريح المعقول بما تقدم من جملة فروض تتحكم ، ولازمها المخالفة عن مقدمات ضرورة تلجئ ، كما الإحداث الذي لا يكون إلا بمحدِث أول ، خلاف ما اقترحت الحداثة من مادة أولى تقدم ، بسيطة لا تَتَرَكَّبُ ، وليس بها حسمٌ لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فإنها موات لا حياة فيه ، ولا علم له يُقَدِّرُ ، ولا مشيئة له تحدث ، فليس الأول الذي به حسم مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، وكذا يقال في التطور الموجه الذي رَامَ السلامة مما لم يسلم منه مقال التطور الذي يصدر عن خبط عشواء ، فلا علم ولا إرادة ، فَرَامَ الآخر أن يسلم من الاستدراك ، فالتطور عنده مما يُسْبَقُ بِتَقْدِيرٍ أول ، وثم من المشيئة ما يُرَجِّحُ ، وهو ما لا يجيب أيضا عن سؤال : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، وإن اقترح ، كما يقول بعض من حقق ، ما هو جائز لدى المبدإ ، ولكنه لا يجزئ في قدر تال يَزِيدُ من الإثبات ، فهو ما يطلب الدليل المثبِت من خارج العقل والحس ، وإن لم يخالف عن مقدماتهما الضرورية في النظر ، فليس التجويز المطلق مما يجزئ في حكاية قصة من الخلق الأول تَصْدُقُ ، فَهِيَ من الغيب المطلق الذي لا يُتَلَقَّى إلا عن مرجعٍ من خارج يصدق ، فيكون من الخبر ما يَرْفِدُ العقلَ ، فهو يُرَجِّحُ في هذا الجائز ، فَثَمَّ من قصة الخلق ما احتمل التطورَ الموجَّه إذ سَلِمَ مِمَّا لم يَسْلَمْ منه التطور الذي اقترحته الحداثة إذ صيرته عشواء تخبط ، واحتمل آخر من الخلق المباشر ، فصار من ذلك جائز يحتمل وجوها ، وليس العقل والحس يستقل في ذلك بإثبات أخص ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وذلك دليل الخبر الصادق ، فكان من ذلك ما يبين عن حاجة العقل إلى الوحي عامة ، وَحَاجَتِهِ في هذا الموضع خاصة ، فقد رَجَّحَ في هذا الجائز ما كان من قصة الخلق المباشر ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فلا واسطة في الخلق ، فـ : (قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ، فَخَلَقَهُ بِيَدِهِ تَقْدِيرًا قَدْ أُحْكِمَ ، وَنَفَخَ فيه من مادة الروح ما به الحياة في الجسد بُثَّتْ ، وكل أولئك ، بداهة ، مما لا يدرك بالحس المحدَث ، فذلك الغيب المطلق الذي يَفْتَقِرُ إلى مرجعٍ من خارج يجاوز ، لا جرم اجتهدت الحداثة أن تُنْكِرَ هذا الخلق خاصة ، وَتُنْكِرَ مرجعَ الوحي عامة ، فأبطلت كل ما جاوز الحس فهو من الغيب ، وَإِنِ الجائزَ المحتملَ ، بل منه ما تجد آثاره في الخارج ضرورةً ، فَلَوْ أحسنتِ القياس لاستدلت بالأثر على المؤثِّر ، ومنه ما يكون من خصائص النفس التي تميز ذا العقل التام الذي يجاوز مدارك الحس الظاهر ، فثم من حركات الحب والبغض ..... إلخ من حركات الباطن ، ثَمَّ ما لا يطيق البحث والتجريب له قياسا ، وإن وجد آثاره في إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ ، لا تنفك آثاره تظهر في الخارج ، إن بالقبض أو بالبسط ، فأبطلت الحداثة ، خاصة العقل فليس إلا الدماغ وهو آلة تتوسط بين العقل ، فذلك معدن الفكرة ، والبدن فهو تأويل لها بالحركة ، وأبطلت قصة الخلق الأولى ، واقترحت فرض التطور ، وأبطلتِ الإلهَ الحقَّ ، وله من السيادة ما يُطْلَقُ ، واقترحت أخرى للإنسان المحدَث ، وثم آخر أَدَقُّ ، وبه الحلول والاتحاد في المعنى ، فكان من ذلك تأليه الدولة ، مثال السياسة المحدَث ، إذ حَلَّ فيه المطلق الأعلى ، فَأَبْطَلَتْ رِقَّ الزراعة في العصر الوسيط ، وأدخلت الإنسان بَعْدًا في رِقِّ الصناعة في العصر الحديث ! ، فلم تَعِبْ شيئا على الكهنوت القديم إلا ووقعت فيه في مثالها الحديث ! ، وهو ما يَرُدُّ عَجُزَ كلامٍ إلى صدر أول ، إذ ثم من سقف الشهادة ما لا تجاوِزُهُ أسبابُ الحسِّ ، وليس بها حسم ما امتنع من مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، لا جرم كان من ذلك ما استوجب في العقل المصرح : الخروج عن الشهادة إلى غَيْبٍ ليس بالحس يُدْرَكُ ، فآلات الجسد لا تَتَنَاوَلُهُ ، وهو ، مع ذلك ، موجودٌ قد ثَبَتَ ، وليس للحسِّ أن يحتَجَّ أنه مما لا يُدْرَكُ بِهِ ، فَعَدَمُ وجدانِه بالحس لا يستلزم عدم وجوده بالفعل ، بل ثم من الغيب ما دَقَّ وَلَطُفَ ، فَلَهُ وجود في الخارج يثبت ، وليس الحس له يُدْرِكُ ، فثم آخر من الدليل يثبت ، فالإنسان إذ كُلِّفَ بالأمانة ، أمانةِ الخلافةِ ابتلاءً ، بما تَنَزَّلَ من حكومات الديانة ، فهي مما يُنَاطُ بالمحلِّ الأشرفِ ، محلِّ العقلِ وهو غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ فَتُجَاوِزُ الدماغ المدرك بالحس المحدث ، كما الروح جوهر يلطف فهو يجاوز جسدا في الخارج يَكْثُفُ ، فَالرُّوحُ مَعْدِنُ العقلِ ، وهو ما يحصل في جنانٍ يجاوز ، أيضا ، القلب الذي يدرك بالحس ، إذ يضخ الدم في العروق ، فَكَذَا الجنان يَضُخُّ في الأركان إراداتِ الأفعالِ والتروكِ ، وذلك أدق في الحقيقة ، لا جرم كان من المحل ما دَقَّ ، فلا يتناوله التجريب والبحث ، فَغَايَتُهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ منه آثارا في الخارج تُرْصَدُ ، إذ ثَمَّ من الفكرة ما يطرأ ، فَلَهُ محل أول في العقل يَثْبُتُ ، وثم من الحركة بَعْدًا ما يَتَأَوَّلُ ، وذلك مما يُشْهَدُ بالحسِّ وَيُرْصَدُ ، وليس هو المبدأ في الوجود أو العدم ، إذ ثم من الجنان ما يجاوز البدن ، فالجنان معدن يلطف وفيه الفكرة تحدث ، وهي باعث يَتَنَاوَلُ من الدماغ ما يُتَرْجِمُ بما رُكِزَ فيه من قوى تَتَحَكَّمُ في الحواس الظاهرة ، فَثَمَّ فكرةٌ هي المبدأ ، وهي مما غاب فلا يُرْصَدُ بالحسِّ ، وليس يحسن الناظر له حدا يُعَرِّفُ ، بل ثم من الفكرة ما لطف فلا يزيدها الحد المعرِّف إلا إجمالا ، فليت المعرِّف ما عَرَّفَ ! ، واضرب له المثل بالمحبة والبغض ، فمن ذا يحدها بالفعل ، وإنما يجتهد في التقريب ، وهو ، مع ذلك ، يحدها بمعان لا تدرك بالحس من لطف الإشارات ودقة الحركات وقبول النفس لآثار الصورة في الخارج ، وإن لم يكن ثم حلاوة تدرك بالحس ، كما أُثِرَ عن فَقِيهِ النفس ابن حزم ، فإن من الحلاوة آخر يلطف وهو ما يعالج الجنان الباطن ، فليس يُنَالُ بالحس الظاهر ، بل قد يدل الحس الظاهر على ضِدٍّ ، فلا يكون من حلاوة الصورة الظاهرة ما يُفَسِّرُ هذه الحركة الضرورية الحاصلة في الوجدان ، فهي تلجئ المحبَّ أن يميل إلى الحبيب ، وإن لم يكن بمعيار الحس : الجميلَ ، بل قد يكون على ضد في عين أخرى لها من المعيار ما قَصُرَ فلم يجاوز صورة الحس الظاهر ، فتقبح عنده ، وهي عند المحب : الأجملُ ، فلا صورة لها تَعْدِلُ ، وذلك ، بداهة ، مما لَطُفَ في الحدِّ فَجَاوَزَ الحسَّ المحدَث ، فليس الدماغ فيها هو المنشأ ، وإن كان لذلك يُتَرْجِمُ ، فيكون من المحبة أول يحصل في الوجدان الباطن ، فَثَمَّ من حركاته ما غاب ولطف ، فليس مما يشهد في الخارج ، وإن ظهرت آثاره في حركات الجوارح بما يكون من اضطراب إذا ذُكِرَ الحبيب ، ولهفة تَفْضَحُهَا العين ، وَتَغَيُّرٍ في الوجه بما يكون من انشراح وبسط ، وجارحة تباشر باللمس والملامسة ، إذ ثم من المحال ما يواطئ بما جُبِلَ عليه الخلق من ميلِ ضِدٍّ إلى ضدٍّ ، فلا يميل إلى مِثْلٍ إلا إذا فسدت الجبلة ، فَنُكِسَ صاحبُها على رَأْسِهِ ، وإن تأول لذلك ما تأول أنه مما جبل عليه الخلق فهو قسيم للأول لا عدولٌ عن جادته التي تَنْصَحُ ، فذلك التأويل الباطن الذي لا يَنْفَكُّ يطلب من المثال ما نَدُرَ أو عَدُمَ ، فَيُصَيِّرُهُ أصلا في الخلقِ يَطَّرِدُ ، وإن خالف عن فطرة أولى تَنْصَحُ ، فمنها ما تَقَدَّمَ من ميلِ ضدٍّ إلى ضده ، فالذكر يميل إلى الأنثى ، ومن ذلك ميل أعم بما رُكِزَ في الخلقة من قوى ، وثم آخر أخص ، وبه ، كما تقدم ، تأويل يبين عما لَطُفَ من الحد ، حد المحبة ، فذلك ما يحصل أولا في الوجدان ، وذلك مما غاب فلا يشهد بالحس ، إذ لا يطيق له حدا يُعَرِّفُ ، وإن اجتهد ما اجتهد ، كما تقدم من كلام ابن حزم ، وهو ، لو تدبر الناظر ، شاهد في الباب يصدق ، فلم يكن من كلامه إلا ما لطف ، فليس مما حَدَّ به المحبة : مَا يُطِيقُ الحس له دَرَكًا ، بل قد جاء بما يخالف عن الحس في إثبات الحسن أو القبح ، فالمحبة تجاوز ذلك ، فلا يشترط فيها حلاوة الظاهر ، فَثَمَّ أخرى في الباطن هي الأصل والمعدن ، سواء أجامعت حلاوة الظاهر ، أم كان منها ما أجزأ في حَدِّ المحبة ، فهي ، كما تقدم ، الأصل والمعدن ، وإن كان ثم أَثَرٌ لحلاوة الظاهر لا يُجْحَدُ بما رُكِزَ في النَّفْسِ من الميل إلى الصورة الجميلة ، وإلا ما شرع لِلْبَصَرِ الْغَضُّ سَدًّا لذريعة الافتتانِ بالصورة ، فذلك مما اعتبر بالنظر في غَرَائِزِ الجسد ، وهي تجزئ في تعلق أول لا ينفك يَفْتُرُ إذا نال الجسد حظه من اللمسة أو القبلة أو الملامسة ، ولكلٍّ حظُّه ، كما في الخبر ، فـ : "«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»" ، فإذا نال ما قصد من لذَّةِ حسٍّ تطرأ ، فلا تنفك السكرة تذهب ، وبعدها من الفكرة ما يؤلم ، وتلك عقوبة تعجل ، وإن كان ثم من النشوة ما يحصل ، فبعدها ألم وملل ، إذ لم تجاوز المحبة حلاوة الظاهر فإذا قضى منها وطرا فهو الزاهد ، لا جرم كان من الحلاوة أخرى هي مناط محبة تدوم ، فلا يزيدها الوصال إلا شوقا ، فتلك حلاوة الباطن ، وهي ما لا يدرك بالحس الظاهر ، وهو في الباب محل الشاهد ، إذ ثم من الغيب ما لطف ، والعقل يُثْبِتُهُ ضرورةً تُلْجِئُ ، وإن لم يكن من دليل الحس ما يُثْبِتُ ، فليس يطيق له حدا في الخارج ، وإن وجد من ذلك آثارا ، مبدؤها في الدماغ بما حصل فيه من مَرَاكِزِ الحواس ، فليست في الباب تُنْشِئُ ، وإنما هي تُبِينُ وَتُظْهِرُ ما قام بالوجدان أولا من الفكرة ، ومحلها الروح التي تُقَاسِمُ الجسد حَدَّ الإنسان ذي الباطن اللطيف والظاهر الكثيف ، فَثَمَّ جنان يجاوز القلب الذي يضخ الدم ، فالجنان معدن الإثبات والنفي ، الأمر والنهي ، التصديق والتكذيب ، المحبة والبغض ، الإرادة وبها الفعل والترك ، فذلك تأويل تال يَظْهَرُ بما يكون من حركات في الخارج تُرْصَدُ ، فالحس يتناولها ، والبحث والتجريب يَقِيسُهَا ، فهو يَقِيسُ الإفراز وَالنَّبْضَ في الدماغ إذ تعمل المراكز بما رفدها من المشاعر ، فالمراكز لا تصنع المشاعر ، إذ محلها ، كما تقدم ، جنان أول يلطف ، وإنما المراكز عنها تَصْدُرُ في تأويل تال يصدق ، فهي الحكم وهو عن التصور فَرْعٌ يحدث ، فَلَيْسَ الأصلَ الذي يُنْشِئُ ، بل الأصل في الجنان أولا يَثْبُتُ ، فَثَمَّ من العقل اللطيف ما جاوز الدماغ الكثيف ذا التلافيف ، وفيها قد ضُمِّنَتْ مراكز الحس ، حكايةَ إتقانٍ في الخلقة وإحكام في السنة ، لا ينفك ، أيضا ، يسلك جادة التسلسل ، فهو المحدَث الذي يفتقر إلى محدِث أول يسبق ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ في المؤثرين أزلا ، فلا ينفك يجاوز سقف الشهادة ، فيصير إلى غيب أول لا يدرك بالحس الظاهر ، وإن وَجَدَ الناظر آثاره ضرورة بما يعالج في الخارج من آي الأنفس والآفاق ، فهي دليل على أول يُقَدِّرُ ، تقديرَ إحاطةٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فَثَمَّ من الإتقانِ والإحكامِ ما لا يكون إلا عن متقِن محكِم أول ، فَلَهُ من العلم ما أَحَاطَ فَاسْتَغْرَقَ ، فَتَنَاوَلَ الكليات والجزئيات كَافَّةً ، وهو ما عم المحال والأسباب ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من قوى تَقْبَلُ أو تُؤَثِّرُ ، ولا تنفك تطلب من السنن ما يحكم ، فالمحل والسبب لها يتأول إذ يسلك جادتها ، وهو ما استوجب في الخارج شرطا يجب استيفاؤه ومانعا يجب انتفاؤه ، فكان من ذلك المجموع المركب ، وهو العلة الأولى التي تسبق المعلول في الوجود فهو عنها يصدر صدور المسبَّب عن المسبِّب ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ في التأثير ، فلا ينفك يجاوز سقف الشهادة إلى الغيب الذي يَفِرُّ منه الخصم الذي اتَّخَذَ الحداثة مرجعا في التصور والحكم فلا تجاوز الجسد ذَا الحواس المحدودة التي تَقْصُرُ أَنْ تُدْرِكَ ما جاوز مداركها من الغيب ، إن النسبي أو المطلق من باب أولى ، وهو ، كما تقدم ، ما يَفِرُّ منه الخصم ، فإذا به يفجؤه في كل جَادَّةٍ يَسْلُكُهَا ، فتلك الضرورة الملجئة في العلم بما رُكِزَ من قِوًى في العقل المكلَّف ، فَلَيْسَ عقل الحيوان الأعجم الذي لا يدرك من الحقائق إلا ما يَتَنَاوَلُهُ بالحس الظاهر ، فما جاوز فلا يدركه إذ قد عَجَزَ العقل أن يَتَنَاوَلَهُ ، وتلك خطة خسف قد نَزَلَ العقل عليها إذ انتحل من مذهب الحداثة ما انحط به إلى دركة دنيا ، فلا يدرك من الحقائق إلا ما تناوله الحس الظاهر ، فصار من حد الإنسان في مواضع ، كما يقول بعض من صَنَّفَ ، أنه إنسان السوق ، فلا غاية له تنصح إلا أن ينتج ويستهلك ، فلا يجاوز عالم الأشياء ، كما اصطلح بعض من حقق ، إلى آخر من الأفكار ، بل قد صار الإنسان بَعْدًا شيئا من الأشياء التي تُسْتَهْلَكُ ، فدخل في رِقٍّ آخر ، وإن زعم التَّحَرُّرَ ، فَلَمْ يُحَرَّرْ منه إلا الظاهر ، ولم يكن من المحرِّر أمين ناصح ، بل ما حَرَّرَهُ من قَيْدٍ إلا ليدخله في آخر ، فَمِنْ قَيْدِ الإقطاع في العصر الوسيط إلى آخر في العصر الحديث ، فذلك رِقُّ المصنع الذي ينتج ، والجسد الذي يستهلك ، وهو ما حَدَّ الإنسان أنه الكائن الاقتصادي بما اصطلح المعيار الحداثي المتأخر ، فهو ، كما يقول بعض من صنف ، الكائن المالك ، ملك الأشياء من الآلات والذخائر ، فليس من الحرية ، كما يقول بعض من حقق ، إلا ذريعة بها رأس المال قد استبد وتحكم ، فصار هو الأصل ، وصار الإنسان شيئا من جملة أشياء تدرك بالحس ! ، فلا اعتبار لما لطف من الحقيقة الروحية ، فليس ثم إلا الحقيقة الجسدية التي تَسْتَهْلِكُ مَا يُنْتِجُ من سِلَعِ اللذة ، فالوسائل قد صارت مقاصد لذاتها تطلب ! ، فصارت الغريزة هي الباعث والمحفز ، فَلَيْسَ ثَمَّ من الفكرة ما جاوز من خارج ، وليس ثم من المحل ما لَطُفَ ، روحًا في مقابلِ جسدٍ ، عقلا في مقابل دماغ ، فَثَمَّ من الأول ما فيه الفكرة تَثْبُتُ ، وهي أول قبل حركة لها تتأول ، فيكون من العقل باعث ، ومن الدماغ فاعل ، فليس هو المنشئ لما يحصل في النفس من مشاعر وبواعث ، وليس هو مناط العلم حصرا ، إذ ثم من الغيب ما جاوزه ، فلا يدرك إلا بخبر من خارج يصدق ، فلا يجحد الغيب إذ لم يدركه بالحس ، فذلك ، كما تقدم ، التحكم الذي يحتج به الجاهل إذ جهل على العالم إذ علم ! ، وَمَنْ عَلِمَ فهو الحجة على من لم يَعْلَمْ ، فَثَمَّ من مرجع الخبر ما نصح من خارج الحس ، بل وجاوز العقل ، لا أنه يرفده بالمحال الممتنع لذاته ، وإنما العقل يحار في حقائق ما غَابَ فَلَمْ يُدْرَكْ بالحسِّ ، وإلا انقلب شهادة وذلك مما استوى فيه الخلق جميعا ، بل الحيوان الأعجم له منه حظ أوفر من قوى الأكل والشرب والشبق ...... إلخ .
فالغيب ضرورةٌ تُلْجِئُ ، وإن في علوم التجريبِ المحدَث التي اتخذتها الحداثة مرجعا في الباب هو الأوحد ، فإن منها ما لا يدرك من الغيوب ، وإن النسبيةَ ، فقد عالج البحث منها : الأثر في الخارج ، فاستدل به على المؤثِّر ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما يحكي التسلسل الذي لا ينفك يطلب أبدا الأول الذي لا أول قبله ، فله من ذلك وصف الإطلاق إذ لا يفتقر إلى سبب من خارج يسبق ، فوجوده الوجود الذاتي الذي لا يعلل ، فكان من المقدمة الناصحة في العقل السالم من الآفة : أَنَّ التَّأْثِيرَ لا بد له من سبب يسبق وهو المؤثِّر بما رُكِزَ فيه من قوى بها يُؤَثِّرُ ، وذلك مما لا يستقل بالتأثير ، وإن حصل به المسبَّب لا عنده كما الكسب المحدَث قد اقْتَرَحَ ، والتزم ما لا يلزم في باب الآيات والمعجزات الرسالية ، إذ لو كَانَ ثم سبب يُؤَثِّرُ لبطلت المعجزة ! ، وليس ذلك بلازم ، بل ثم من السبب ما به المعجزة تَثْبُتُ إذ تجاوزه ، فلو لم يكن ثم سبب فما الإعجاز الذي يجاوز ؟! ، فلا يثبت إلا أن يجاوز ما اطرد من الأسباب والسنن ، فالسبب يُؤَثِّرُ بِمَا رُكِزَ فيه من قوى تُؤَثِّرُ ، ومنها ما يُشْهَدُ بالحسِّ ، ومنها آخر يدق ، ولو في التجريب والبحث ، فالحس يدرك منه الآثار وبها يستدل على المؤثِّر ، وتلك المقدمة الناصحة في باب العلل والأسباب ، فالمسبَّب المحدَث دليل على أول من السبب يُؤَثِّرُ ، ومن السبب : ما شُهِدَ ومنه آخر قد غَابَ ، وهو ما لا تجحده الحداثة في علوم الحس والتجريب ، فَثَمَّ من الغيوب النسبية ما لا تدركه ، وهي ، مع ذلك ، تُثْبِتُهُ ، إذ ثم من آثاره ما تَرْصُدُ ، فكيف بهذا الكون ؟! ، آيَ آفاقٍ وأنفسٍ ، أفلا يدل على السبب الذي يسبق من باب أولى ؟! ، وهو ما تسلسل فاستوجب في العقل حكمَ ضرورةٍ آخر إذ قد امتنع فيه التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فَثَمَّ أول لا أول قَبْلَهُ ، ومن ذلك ما يكون من تَفْسِيرِ الحركات في الخارج ، وإن حركاتِ الحسِّ الظاهر ، فإن لها أولا في الدماغ يَبْعَثُ بما يكون من نَبْضٍ وإفراز يحدث ، ولا ينفك يطلب المجموع المركب في باب التعليل أَنْ يُسْتَوْفَى الشرط وَيَنْتَفِيَ المانع ، فتصح الآلة وتسلم من الآفة ، والدماغ ، مع ذلك ، ليس الأول في السببية ، بل ثم ما جاوزه فَجَاوَزَ سَقْفَ الشهادةِ ، فَانْتَهَى إلى غَيْبٍ يَلْطُفُ ، وإن المخلوقَ المحدَثَ ، بما يكون من العقل المجاوز للدماغ ، فهو معدن الفكرة التي تَبْعَثُ الحركة ، كما الروح باعث الجسد أن يَنْهَضَ أو يَقْعُدَ ، فالروح باعثة له من وجه ، قسيمة له من آخر ، وبهما حصول الحقيقة الإنسانية الأشرف ، الحقيقة التي حُمِّلَتِ الأمانة بما حصل لها من عقل ينصح ، فهو يجاوز مدارك الحس المحدث ، فَثَمَّ مِنْ سَقْفِ الشهادة ما يجاوز السببُ ، فمنه آخر في الغيب يَثْبُتُ ، ومنه ما تقدم من الروح وهي معدن العقل الذي تصدر عنه الفكرة ، والروح محدَثة لَا تَنْفَكُّ ، أيضا ، تَطْلُبُ المحدِث الذي يَتَقَدَّمُ ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فالعقل يُثْبِتُهُ ضرورة ، وإن حار في الحقيقة والكيف ، لا جرم افْتَقَرَ إلى خَبَرٍ من خارج يجاوز ، فكان مِنْهُ خَبَرُ الوحي الناصح الذي يعالج من قوى التصديق والامتثال ما به المكلَّف قد امْتَازَ من الحيوانِ الأعجمِ ، ومناطه ما كَمُلَ من العقلِ ، فَجَاوَزَ الغريزة والحس ، فمناط التكليف هو العقل الذي حصل لِقَبِيلِ الإنسِ والجنِّ ، وإن كان لقبيلِ الإنسِ من ذلك ما علا وَشَرُفَ ، لا جرم كان من حملانه الأمانة ما لم يحمل غير ، لا الملَك فقد جبلوا على الطاعة حصرا ، فليس ثم من الاختيار ما به التكليف يثبت ، ولا الجنُّ ، وإن كان لهم من العقل بَعْضٌ ، وبه قد خوطبوا بالأمر والنهي ، وهم ، مع ذلك ، دون البشر ، فأولئك مَنْ للأمانة قد احتمل ، فكان من العقل التام ما لا ينصح إلا أن يثبت من الغيب ما جاوز الحس المحدَث ، وإن التجويز المحض الذي يطلب المرجِّح من خارج ، فلا يُنْفَى ولا يَثْبُتُ ، وَإِنِ اسْتُصْحِبَ منه عدم أول ، فليس عدم المحال الذي امْتَنَعَ ، بل ذلك الأصل فِي الخارج ، وإن كان مِنْ سَبْقِ المقدورِ أنه وَاقِعٌ ، فذلك وجود أول في علمِ التقديرِ ، والمقدور فيه لا يجاوز القوة ، فهو العدم حتى يكون ثم من المرجِّح ما يُوجِدُ بالفعلِ ، وجودا تاليا في الخارج فهو يصدق ما كان من تقدير أول ، فَثَمَّ من الوجودِ بالفعلِ ما يُصَدِّقُ أولا من وجود القوة ، فالوجود ، من هذا الوجه ، جنس عام قد استغرق ، فَثَمَّ من القسمة في الخارج : وجود القوة الأول في علم تقدير قد استغرق ، ووجود الفعل الذي يُصَدِّقُ ، وَثَمَّ من الوجود آخر من القسمة ، فَثَمَّ الوجود الواجب وآخر هو الجائز ، ولا ينفك الجائز يطلب المرجِّح من خارج إذ استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح الموجِب من خارج ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى واجب أول ، فله من ذلك وصف ذات لا يعلل .
فَثَمَّ ، كما تقدم ، وجود القوة الأول وذلك ما ثبت أزلا في علم التقدير الأول ، وهو عدم لِمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهُ بَعْدُ ، وثم آخر من وجودِ الفعلِ الذي يُصَدِّقُ ما كان أولا من العلم المحيط المستغرق ، فإن التكوين دليل يصدق ما كان أولا من التقدير ، فَثَمَّ مناط أول : وهو العلم المحيط المستغرق ، فالشيء يوجد فيه ، لا وجود العين التي تجاوز ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تَأْوِيلُهَا في الخارج ، وإنما الوجود الأول : وجود التقدير في الأزل ، وذلك العدم ، وإن جائزا يحتمل الوجود بعدا بما يكون من دليل من خارجٍ يُوجِبُ ، فهو يرجح في الجائز ، فيوجد بعدا : وجودا في الخارج يُصَدِّقُ ما كان من وجود أول في الأزل ، وجود القوة في العلم المحيط المستغرق ، فَثَمَّ من المحل أول ، وذلك مناط العلم المحيط المستغرق الذي عَمَّ المعلوماتِ كَافَّةً ، ولو المحالَ الذاتي الذي يمتنع ، فَثَمَّ من ذلك الفرض المحض تَنَزُّلًا في الحدال مع الخصم أَنْ يَسْتَبِينَ له لازم ما يقترح من المحال الممتنع ، فذلك مما تناوله العلم الأول ، فهو العام الذي لا أعم منه ، فلا يَتَنَاوَلُهُ التخصيص ، كما القدرة فهي مما يُرَجِّحُ في الجائز ، فَيُنَاطُ بها كل مقدور يجوز في الخارج ، فلا تَتَنَاوَلُ القدرةُ المحالَ الذاتي الذي يمتنع ، فالقدرة لا تكون إلا على المقدور ، فهو الشيء الذي يَحْتَمِلُ بَعْدًا الوجود ، فالمحال عدم ، فليس بشيء يحتمل الوجود الزَّائِدَ في الخارج ، ليكون من ذلك وصف المقدور الذي تُنَاطُ به القدرة ، كما المثل قد ضرب في موضع بما كان من سؤال يَتَحَكَّمُ ، إذ يقترح من المحال ما لا يجوز ، بادي النظر ، ولو جائزا لا ينفك يُسْتَصْحَبُ منه عدم أول ، فالمحال لا يجوز ، ولو احتمالا يَتَنَاوَلُهُ الترجيح بَعْدًا ، فَيُسْتَصْحَبُ منه عدم أول ، فلا يكون ، وهو الجائز ، لا يكون ذَا وجودٍ في الخارج إلا أن يكون ثم من السبب ما يُرَجِّحُ من خارجٍ ، فالمحالُ لا يدخل في هذا الحد ، وإن شاطره قسمة العدم في الخارج ، فَعَدَمُ الجائزِ مما يحتمل بعدا من الوجود ما يُصَدِّقُ أولا من المقدور ، فهو جائز تُنَاطُ به القدرة ، فكان من ذلك تخصيص بالعقل يَثْبُتُ ، فالله ، جل وعلا ، على كل شيء قدير ، وهو ما يقيد بوصف المقدور الجائز ، فالله ، جل وعلا ، على كل شيء مقدور يَقْدِرُ ، فلا يَتَنَاوَلُ هذا العموم المحالَ الممتنع لذاته ، كما المثل يضرب بسؤال يقترحه المجادِل المسفسِط : هل يقدر الله ، جل وعلا ، أن يموت ؟! ، فيكون من ذلك ما يُصَحِّحُ مقال المثلثة في القيامة ، أن الله ، جل وعلا ، وهو الفداء المقدس الذي لم ينله ما نال الخلق من وصمة الفعل المدنِّس ، أنه قد فَدَى الخلق بذاته المقدسة ، فَمَاتَ وَصُلِبَ ، ثم قام بعد أن دُفِنَ ، فما يمنع أن يموت ، أليس على كل شيء يقدر ؟! ، فَأَجَابَ مَنْ مَازَ المقدور ، وهو المعدوم عدمَ الجائز فاحتمل الوجود بعدا في الخارج ، فأجاب من ماز هذا المقدور من المحال الممتنع لِذَاتِهِ وهو المعدوم العدم الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، أجاب : إن ذلك ابتداء ليس بشيء ، ولو جَائِزًا في الذهن ، فَلَا تُنَاطُ به القدرة ، فهو المحال الممتنع لِذَاتِهِ إذ به وصفُ الخالقِ الأول بمعنى نَقْصٍ مطلَقٍ ، وهو ، كما تقدم ، المحال الممتنع لذاته ، إذ قد خالف عن النص المصرِّح لمن يؤمن بأخبار الوحي المنزَّل ، فـ : (تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) ، وخالف عن العقل المصرِّح ، فإن القدرة ، كما تقدم ، لا تناط بالمحال الذاتي الذي يمتنع ، فليس بشيء ، ولو شَيْئِيَّةَ الجائزِ مبدأ النظر ، فَلَئِنِ اسْتُصْحِبَ من الجائز : عدم أول ، فهو مما احتمل بعدا من الوجود في الخارج ما يُصَدِّقُ ، فَلَيْسَ كَذَا المحال الممتنع لذاته ، فإن عدمه ، أيضا ، العدم الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَهُوَ مِمَّا يُسْتَصْحَبُ أولا وآخرا ، فلا يحتمل الإيجاد أبدا ، فَلَيْسَ يَقْبَلُ المرجِّح من خارج ، مشيئةً وقدرةً تُرَجِّحُ ، إذ ليست بالمحال الممتنع تُنَاطُ ، لا كَعَدَمِ الجائزِ الذي يُسْتَصْحَبُ أولا وهو بَعْدًا يحتملُ الإيجادَ المصدِّق في الخارج ، فَثَمَّ من القدر الفارق ما يميز الجائز الذي تُنَاطُ به القدرة ، من المحال الممتنع الذي لا تُنَاطُ به القدرة ، وثم آخر من الحس يشهد ، فإن موت الإله الذي يُدَبِّرُ الكون بما يكون من الأمر والنهي ، ذلك مما يؤذن بالفساد والاضطراب ، وله من الحس شاهد يصدق ، وهو ما يجري مجرى القياس ، قياس الأولى ، فَلَوْ غَابَ المدبِّر لآلة ، فَلَمْ يَنْصَحْ لها في النظر والفعل ، فهي تَفْسَدُ ، وليس من مادَّتِها ما يَنْفَعُ ، بل لا بد من نظر أول يُقَدِّرُ الأوليات التي تعالجها الآلة ، فيقدر منها الكيف والقدر ، والوصف الأخص بما يكون من الوعاءِ والظرفِ ، فلا بد من نظر أول في هذه الأوليات ، وفعل تَالٍ فهو يخرجها من القوة إلى الفعل ، بما يكون من ائْتِلَافِهَا على مقادير مخصوصة ، في أحوال معلومة ، وجريانها على سنة معهودة ، فَكُلُّ أولئك ، بداهة ، ما لا يكون إلا وثم فاعل قد أحكم في التقدير وَأَتْقَنَ في التدبير ، فلا يكون من الصنعة ما يستقل بِنَفْسِهِ ، كما قال بعض وقد جَحَدَ الإله الأول ، وَأَجْرَى الأمر على سَنَنٍ في الكون قد أُحْكِمَ ، وذلك حق ، ولكنه قد استغنى عن المحكِم الذي يجري ، وذلك الباطل الذي يخالف عن بدائه العقل والحس ، فَالسَّنَنُ الكوني فعل ، ولا بد له من فاعل أول يسبق ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى فاعل أول لا فاعل قبله ، فَثَمَّ أول من مُسَلَّمَاتِ الضرورةِ أن الفعل لا بد له من فاعل يسبق في الوجود وفي الفعل ، وهو ما يشهد الفعل ، فلا يغيب عنه ويأفل ، فيحضر الأمر وَيُبَاشِرُ الفعل ، وإلا فسدت الحال ، ولو في صنعة مخلوق ، فكيف بهذا الكون المتقَن المحكَم ، فلو غاب عنه الرَّبُّ الخالق المدبِّر لفسد نظامه من باب أولى ، فلا ينفك يطلب أولا يُقَدِّرُ ، وهو بعدا يُوجِدُ وَيُدَبِّرُ ، ولا يكون ذلك إلا بعلم وإرادة ، وتلك صفات لا تقوم بداهة إلا بحي ، فالحياة أصل لكل صفة بها التقدير والإيجاد والتدبير ...... إلخ من أفعال الربوبية ، وهو ما اتصل ، فالمقادير أبدا تَتَعَاقَبُ ، فـ : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، وذلك ، أيضا ، مما يشهد به الحس الظاهر ، ولو في أحوال الفرد في الخارج ، فكيف بأفراد تَكْثُرُ ؟! ، ولهم من الأحوال ما لا يحصى عَدُّهُ ، بل كيف بالكواكب والأجرام ، فكل أولئك ما لا يُحْصَى تدبيره آحادا من المقادير تَتَعَاقَبُ ، وهي ، أبدا ، من الجائز مبدأَ النظرِ ، ووجودها في الخارج بَعْدًا وجودًا تاليًا يُصَدِّقُ ، ذلك مما استوجب أولا لا أول قبله ، حَسْمًا لمادة التسلسلِ في المؤثرين أزلا ، فَثَمَّ من تدبير الفرد أو حركة الكوكب أو الجرم ، ثَمَّ من ذلك ما يطلب أولا من العلة ، إذ ثم المحل الذي يباشَر ، والسبب الذي يباشِر ، وثم من الشرط ما وجب استيفاؤه ، ومن المانع ما وجب انتفاؤه ، فَحَصَلَ من ذلك مجموعٌ مركَّبٌ في باب التعليل ، وهو ما افْتَقَرَ إلى سبب أول يَسْبِقُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ فِي الخلقِ والتدبيرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فهو الذي يُقَدِّرُ بما أحاط من العلم الأول المستغرِق ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بذات لها من وصف الحياة أول ، فذلك ، كما تَقَدَّمَ ، أصل الصفات كافة ، إن الذاتيةَ أو الفعلية التي تُنَاطُ آحادُها بالمشيئَةِ ، فالقول بالموت الذي يَسْلب الحياة ، ذلك مما يخالف عن الأدلة كافة ، دليل النقل المصدَّق ، وآخر من العقل المصرَّح إذ يَلْزَمُ من ذلك عَدَمُ الأوَّلِ الذي تَرْجِعُ إليه الأسباب كَافَّةً حسمًا لمادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فكيف يكون خلق وتدبير ، والأوَّلُ قد مات فلا حياة ؟! ، فليس ثم لزوما بَعْدَ سَلْبِهَا ، ليس ثم علم يحيط بالمقدورات ، وليس ثم قدرة تُرَجِّحُ في الإيجاد المصدِّق لما كان من تقدير في العلم المحيط المستغرق ، وكذا الحس شاهدٌ بِبُطْلَانِ هذا الفرض المحض الذي لا يجاوز في ذلك حد التجريد في الذهن ، فإن من انتظام أمر هذا العالم ما يشهد ضرورةً بالأول الذي لا أول قبله ، فَلَهُ من ذلك وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فهو واجب الوجود لذاته ، فليس يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج ، فلا يكون من هذا الأول موت أو غياب ، وبذا استدل الخليل ، عليه السلام ، وهو يناظر الخصوم من عباد الكواكب والنجوم ، فـ : (لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، فالآفل هو الغائب ، فكيف يدبر هذا العالم وهو يغيب عنه ؟! ، وليس يلزم من ذلك ، بداهة ، أن يشهده الخلق بالحس ، بل هو يحضر بما كان من علم محيط يستغرق ، وبما كان من سمع وبصر يحيط ، وذلك ما لا يَقُومُ بذاتِ مَيِّتٍ قد سُلِبَ وصفَ الحياةِ ، فهو يَقْدِرُ أن يميت نفسه ! ، سفسطةً في السؤال تخدع ، إذ تقترح من السؤال ما يمتنع ، فإن القدرة ، كما تقدم ، لا تناط إلا بجائز يحتمل ، فلا تناط بمحال يمتنع ، فَثَمَّ من الضروري الذي أجمعت عليه الأدلة كافة : الدليل المصحَّح ، والعقل المصرَّح ، والحس السالم من الآفة ، ثم من ذلك ما يُثْبِتُ في الخارج ضرورةً : الأول الذي لا أول قبله ، وهو العليم الذي أحاط بكلِّ شيءٍ عِلْمًا ، ومحل الشاهد منه : علم التقدير الأول ، وما يكون بعدا من إيجادٍ يُصَدِّقُ ، فيكون من العلم تَالٍ يُوَاطِئُ ، فَثَمَّ تقدير أول ، وثم تال يبين ويكشف ، فعلم ظهور وانكشاف ثان يُصَدِّقُ أولا من علمِ تَقْدِيرٍ يَسْتَغْرِقُ ، وَثَمَّ من المحل ما تَوَسَّطَ ، كَتْبًا فِي لوحِ التقديرِ المحكَمِ ، وثم آخر في صحف الملَك ، فذلك القضاء المعلق في صحفِ تَقْدِيرٍ لا يَنْفُذُ حَتَّى يكون ثم من الشرط ما يُسْتَوْفَى ، ومن المانع ما يُنْفَى ، فَثَمَّ من ذلك أسباب تُؤَثِّرُ في رَدِّ القدر المعلَّق في صحف الملَك ، لا رَدَّ القضاءِ المبرَمِ في لوح التقدير المحكم ، وليس أحد يعلم لا هذا ولا ذاك ، فلا يصح به الاحتجاج حالَ النَّقْصِ ، أن ذلك مما قَدَّرَ الرَّبُّ ، جل وعلا ، فقد يكون منه تقديرٌ مُعَلَّقٌ يطلب من السبب ما به يُدْفَعُ ، فإذا باشره المكلَّف فاجتهد أن يُقْلِعَ ، وَتَضَرَّعَ في الدعاء أن يَتْرُكَ ، أو كان من دعاء آخرَ ما يَنْصَحُ ، فكلُّ أولئك مما يَرُدُّ القدر المعلَّق في صحفِ الملَك ، ولا يكون حالَ النَّفَاذِ أو الرَّدِّ ، لا يكون إلا مُوَاطِئًا لِمَا تَقَدَّمَ من قضاءٍ مبرَم في لوح التقدير المحكم ، فذلك مما لا يُبَدَّلُ أَبَدًا ، وليس الاحتجاج به يَنْصَحُ ، كما تقدم من صحف الملَك ، فلا يعلم المكلف لا هذا ولا ذاك ، فلا يجوز له الاحتجاج بهما على ما نَقُصَ من حَالِه أو فَحُشَ من فعلِه أو مقالِه ، ومحل الشاهد ما تَقَدَّمَ من علمٍ محيطٍ قد استغرق ، فمنه : علم التقدير الأول ، ومنه ما سُطِرَ في لوح التقدير المحكم ، ومنه ما احتمل الملَك من صحف القدر المعلق ، ومنه ما حصل بَعْدًا ، فكان من علم الظهورِ والانكشافِ ما يُصَدِّقُ أَوَّلًا من علم التقدير في الأزل ، فَسُطِرَ في كُتُبِ الملَك ، وَنُسِخَ في كتابٍ جامعٍ يَنْطِقُ ، فهو شاهدُ صدقٍ بما كان من قول وفعل ، فـ : (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فذلك وصف الواجب ، واجب الوجود لذاته ، إذ يُدَبِّرُ هذا العالم بما كان من علم تَقْدِيرٍ أول قد أحاط بالمقدورات كَافَّةً ، بل ثم من العلم ما جاوز التقدير ، فمنه ما تَنَاوَلَ المحَالَ الممتَنِعَ لِذَاتِهِ ، كما الجائز الذي يحتمل ، فمناط العلم أعم ، ولو الفرضَ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فَثَمَّ من التدبير ما يكون بِعِلْمِ التقدير الأول ، وهو ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ المقدوراتِ كَافَّةً ، وليس شيء منها في الخارج يَحْدُثُ ، فيكون منه شاهدُ صدقٍ يَنْصَحُ إذ به المقدور يخرج من العدم إلى الوجود ، ليس شيء منها في الخارج يحدث حتى يكون ثم من المشيئة والقدرة ما يُرَجِّحُ ، فَهِيَ تُنَاطُ بالجائزِ لا المحال الممتنع ، فيكون من المشيئة آحاد تصدق ما قَدُمَ من نَوْعٍ أول ، وهي ، بَعْدًا ، تصدق ، ما كان من علم تقدير أول ، فَثَمَّ من المشيئة ما يُرَجِّحُ في المقدور فيخرجه من العدم إلى الوجود ، فيكون من ذلك كلمات تَنْفُذُ ، فهي كلماتُ تكوينٍ وتدبيرٍ تُصَدِّقُ ما كَانَ من التقدير الأول ، فتأويله ما يكون بعدا في الخارج من الموجودات بالفعل ، فهي تأويلُ أَوَّلٍ من الموجودات بالقوة بما كان من علمِ تَقْدِيرٍ يَسْتَغْرِقُ ، وَكُلُّ أولئك ، بداهة ، لا يقوم بميِّتٍ لا حياة فيه تَثْبُتُ ، فالقول بأنه مما تَعْتَرِيهِ السِّنَةُ والنوم والغفلة ....... إلخ ، ذلك من المحَالِ الممتنِع لذاته ، وإلا فَسَدَ نظام هذا العالم ، وكان من اضطِّرَابِهِ ما يَعْظُمُ ، بل وَزَوَالِهِ وَخَرَابِهِ ، وإن كان ذلك مآلَه آخر أمره ، فـ : (إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) ، فليس ذلك اضطرارا وإنما بما كان من مَشِيئَةٍ تَالِيَةٍ تَنْفُذُ ، أن يكون ثم من الدار أخرى تَعْقُبُ ، وتلك حال تَطْرَأُ ، فليست مما يستصحب فيكون منه أصل يَثْبُتُ ، بل الأصل الثابت أن ثم من الإتقان في الخلقة ، والإحكام في السنة ، والتدبير العام الذي تَنَاوَلَ الكائنات كافة ، الأعيان وما يقوم بها من الأحوال ، إن الاضطرارَ أو الاختيارَ ، فالأصل الثابت أن من ذلك ما لا يكون بداهة من مَيِّتٍ قَدْ سُلِبَ وصف الحياة وهو الأول ، فذلك أصل لكلِّ ما تلا من الصفاتِ ، إن الذاتيَّةَ أو الفعليةَ ، فالقول بِالسِّنَةِ أو النوم أو الغفلة ...... إلخ ، كل أولئك مما امتنع ضرورةً الامتناعَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فكيف بما جاوز من الموت ، فيكون من سؤال السفسطة في الجدال : هل يقدر على الموت ؟! ، وذلك ، من باب أولى ، من المحال الممتنع لذاته ، فلا يناط بالقدرة ، وإن كان من العلم ما أحاط به إحاطة الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فلا يكون تدبير هذا العالم إلا عن حي له من وصف الحياة : وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج به يَحْيَى ، فحياته أولى قد أُطْلِقَتْ ، فَلَمْ تُسْبَقْ بالعدمِ ، ولا يلحقها الفناء ، ولا تَعْتَرِيهَا الآفة أو النقصان ، فذلك مما ثَبَتَ ضرورةً في النقل المصحَّح والقياس المصرَّح والفطرة الناصحة والحاسة السالمة ، فاجتمع له من الأدلة ما تَعَاضَدَ ، فهو المعلوم ضرورةً لدى كلِّ عاقلٍ ، فأمر هذا العالم يُرَدُّ إلى أول ، له من وصف الحياة : وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف العلم : علم التقدير الأول ، وله من وصف المشيئة بَعْدًا ما يُرَجِّحُ بما يكون من آحادٍ منها تَحْدُثُ ، فنوعها القديمُ الأوَّلُ ، وثم من آحادها بعدا ما يُصَدِّقُ ، وعنها كلمات التكوين تصدر ، وبها يدبر الخالق الأول ، جل وعلا ، هذا العالم وهو خارجه ، فَلَمْ يحل فيه ولم يتحد ، فَثَمَّ من الحد ما يميز ضرورة : الواجب من الجائز ، الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، فلا يكون ثم حلول ولا اتحاد ، لا الذات ، كما قال بعض ، فـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ، فكان من ذلك اتحاد أَخَصُّ ، فَقَدْ حَلَّ اللاهوت الأعلى في الناسوت الأدنى ، وثم من ذلك التحكم في الإثبات أو النفي ، فإن من لوازم هذا القول أن يوصف اللاهوت الأعلى بوصف الناسوت الأدنى ، وله من وصف النقص الذاتي ما لا يُعَلَّلُ ، فذلك الافتقار الضروري ، ولو إلى الموجِب الموجِد إذ كان مبدأ الأمر تقديرا في الأزل ، وهو ما تناوله العلم المحيط المستغرق ، فَنَوَاسِيتُ الشهادة من الأجساد المحدَثة ، وهي أعيان في الخارج مخلوقة من العدم ، موجودةٌ بعد أن لم تكن ، تلك النواسيت مما يَفْتَقِرُ إلى سبب به توجد ، وذلك أصل ضروري في النظر المصرح ، أن المسبَّب لا بد له من سبب أول يَقْدُمُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورة إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصف الوجود : الوصف الذاتي الذي لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج يسبق ، وله من وصف الفعل تال به الترجيح في غيرٍ من الجائز المقدر في الأزل ، وذلك وصف الإيجاب والإيجاد ، وإن لم يكن ثم بعد موجَب أو موجَد في الخارج يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ من الوصف ما ثَبَتَ في الأزل ، فنوعه قديم بالقوة ، وإن لم يكن ثم آحاد بَعْدُ تحدث ، فتخرج من القوة إلى فِعْلٍ تَالٍ في الخارج يصدق ، وهو ما لا يكون إلا وثم مرجح ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، فخروج وصف الخلق من القوة إلى الفعل المصدِّق في الخارج لا ينفك يطلب المرجِّح ، آحادَ مشيئةٍ تُرَجِّحُ ، ولها ، أيضا ، نوع أول يَقْدُمُ ، فَثَمَّ من الآحاد بَعْدًا ما يحدث ، وبها خروج المقدورات من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، فلا يكون شيء من هذا الخلق في الخارج إلا أن يكون ثَمَّ سَبَبٌ يَسْبِقُ ، وهو الموجِب الموجِد ، فعنه الموجَب الموجَد يصدر ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ في التاثير ، من أسباب تُشْهَدُ ، كما مشيج في الرحم يحصل ، فَثَمَّ من السبب ما يرصد بالحس من قذف به حصول النطفة في الرحم ، وحصول العلوق بَعْدًا ، فيكون من ذلك المشيج الذي يسلك جادة محكمة من الخلق ، فيكتمل الجسد وَتُنْفَخُ فيه الروح بعد حين مقدَّر ، فينتقل من طور إلى طور ، حتى يكتمل الخلق ويخرج الجنين ، فَثَمَّ سبب يشهد بالحس ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى يجاوز الشهادة إلى الغيب ، فيكون من ذلك سبب يجاوز الحس ، وهو ما لا يحسم مادة التسلسل الممتنعة ، فلا تحسم إلا أن يكون ثم أول لا أول قبله ، فعنه المخلوقات المحدثات كافة تصدر ، صدور المخلوق المحدَث عن الخالق المحدِث ، الموجَب الموجَد فلا بد له من موجِب موجِد يسبق ، وهو ، أيضا ، ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى موجِب موجِد أول ، فلا موجِب موجِد قَبْلَهُ ، بل له من ذلك وصف أولية يُطْلَقُ ، فَثَمَّ من وجوده : الوجود الواجب فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الكمال أول يُطْلَقُ ، فهو الغني فلا يَفْتَقِرُ إلى سبب يُوجِدُ أو يَرْفِدُ فيكون منه سبب إبقاء بعد وجود ، بل بقاء الخالق الأول ، جل وعلا ، بقاء ذاتي لا يعلل ، كما سائر اسمه ووصفه وفعله وحكمه ، فكلها مما قدم في الأزل ، إِنِ الْقِدَمَ الذاتي أو قِدَمَ أْنْوَاعٍ من الفعل والحكم فما آحادها بعدا إذ تحدث إلا دليلٌ لَأَوَّلٍ يشهد ، فيتأوله في الخارج بما يُوَاطِئُ علم التقدير الجامع .
فلا يَفْتَقِرُ الغني إلى سبب يُوجِدُ أو يَرْفِدُ فيكون من ذلك كمال محدَث بعد أن لم يكن ، بل كماله ، كما تقدم ، الذاتي الذي لا يعلل ، وما الخلق في الخارج إلا أَثَرٌ من آثار كماله ، فَثَمَّ من تأويله ما يكون من آحاد الأفعال ، وهي مما حدث بالمشيئة ، ونوعها أول يَقْدُمُ ، إذ ثَمَّ من ذلك كمال في الأزل هو المطلق ، فحدثت الآحاد بالمشيئة ، من وجه ، وهي تأويل علم أول يُقَدِّرُ ، فذلك العلم المحيط المستغرق ، الذي تَنَاوَلَ المقدورات كافة ، بل والمعلومات كافة ، فذلك العموم الذي لا أعم منه ، وهو المحفوظ فلا يَتَنَاوَلُهُ التخصيص ، ولو بالعقل ، إذ تَنَاوَلَ كل شيء ، إِنِ الواجبَ أو الجائزَ ، بل والمحال الممتنع لذاته ، ولو الفرضَ المحضَ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فكان من العلم أول قد أحاط فاستغرق المقدورات كافة ، الكليات والجزئيات ، فذلك علم التقدير الأول ، وثم تال من المشيئة يُرَجِّحُ ، وبه المقدور يخرج من العدم إلى وجود تال يصدق ، فَثَمَّ القدر الفارق ضرورة في النقل والعقل والفطرة والحس ، القدر الفارق بين الخالق الأول ، جل وعلا ، والمخلوق المحدَث ، وإن كان ثم اشتراك في جنس الوجود الأعلى ، فهو مما انْقَسَمَ في الخارج ، فمنه الواجب ومنه الجائز ، القديم والمحدَث ، فَثَمَّ وجود الخالق ، جل وعلا ، الأول ، وهو الوجود الواجب ، فذلك وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، وثم وجود المخلوق ، وهو الوجود الجائز ، فلا ينفك يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، ووصف الفقر فيه ذاتي لَا يُعَلَّلُ ، ولو إلى الموجِب الموجِد الذي يسبق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى واجب الوجود الأول ، وله من وصف الكمال ضد قد أُطْلِقَ ، فهو ، أيضا ، الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَثَمَّ غَنِيٌّ الغنى المطلق : وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وثم الفقير الفقر المطلق : وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، ولو افْتِقَارًا إلى الموجِب الموجِد الذي يخرجه من العدم إلى الوجود ، فتلك قسمة تضاهي : الواجب والجائز ، فَثَمَّ الغني والفقير ، وثم الخالق ، جل وعلا ، في حَدٍّ ، والمخلوق في آخر ، وهو ما يُبْطِلُ مقال الحلول والاتحاد الحادث ، إن العام بالمخلوقات كافة ، وهو الأقبح ، أو الخاص بمخلوق بعينه ، كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم ، عليه السلام ، ولو كان من شَرَفِ وصفه ما قد عُلِمَ ضرورة ، فإنه لا ينفك يوصف بالنقص الذي تَنَزَّهَ عنه الخالق الأول ، جل وعلا ، ولو افْتِقَارَهُ إلى الموجِب الموجِد ، فإن ناسوت المسيح ، عليه السلام ، ليس بداهة الأزلي الذي يَقْدُمُ ، وإن كان من خَلْقِهِ بَعْدًا ما أعجز ، إذ كان من أم بلا أب ، فذلك إعجاز في الخلق ، ولكنه لَا يَنْفِي أصلَ الخلقِ ، ولو خالف عن العادة المطردة في خلق البشر من أب وأم ، فلا ينفك المسيح ، عليه السلام ، يَفْتَقِرُ إلى الخالق الذي يخلق ، وهو ، بداهة ، يفتقر إلى الأسباب التي بها يحيى كما سائر الخلق ، فهو يأكل ويشرب ....... إلخ .

والله أعلى وأعلم .

رد مع اقتباس
إضافة رد
   
الكلمات الدليلية (Tags)
الكلام, دلالات
   

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




Loading...

   
   

جميع الحقوق محفوظة لمنتديات التربية الاسلامية جنين