مما تَقَرَّرَ في درس اللسان أن مبدأ الكلام هو حرف المبنى الذي لا يجاوز حد الصوت المفرد ، فَهُوَ مقطع واحد ، فلا يفيد قيدا يميز الإنسان الناطق من آخر هو الحيوان الأعجم ، فله من الآلة ما يحكي في الخارج أصواتا قد اصطلح لها من الأسماء ما يضاهي ، ولا تخلو من دلالة على عين الصوت كما الفحيح والزئير والمواء ، فتلك دلالة أخص على عين الصوت ، وهي ، مع ذلك ، جنس عام لا يمتاز في الخارج إلى أصوات أخص تحكي من الدلالات ما يُعْقَلُ ، فَلَيْسَ منها كلام يُفْهِمُ ، إن المفرد أو المركب ، وإن كان منها دلالات تلطف على أعراض مخصوصة كما الجوع والألم ، فتشبه ، من وجه ، صوت الرضيع ، فلا يحسن يحكي من الكلام ما به يُفْهِمُ أُمَّهُ أو من يباشر أمره ، وإن كان من صوتِ بكائِه ما يميز الفرح من الحزن ، الألم من الجوع ..... إلخ ، فَثَمَّ من ذلك صوت مُقَطَّعٌ بما يكون من تَرَدُّدِ الهواء في مجرى النطق من الحلق إلى الشفة ، ولكلِّ صوتٍ من المخرَج ما يميز ، وليس يفيد من صراخ الوليد أو بعض حروف منه تصدر ، ليس يفيد معنى تاما يُفْهِمُ فيضاهي الحيوان الأعحم من هذا الوجه ، وإن كان من حال الوليد ما يجاوز الحيوان ، فَلَئِنِ اشتركا في عدم الإفصاح بكلامٍ يُبِينُ عن المراد ، قَدِ استوفى الحد في الاصطلاح ، لفظا ومعنى ، إفرادا وتركيبا ، فَلَئِنِ اشتركا في ذلك ، فالوليد قد امتاز أنه المتكلم بالقوة ، وإن لم يكن من فعل الكلام ما يصدق في الخارج ، فَلَمَّا تَكْمُلْ آلته بَعْدُ ، وإن كان ثم منها أول ، فَلَهُ من خاصة العقل ما رُكِزَ في الوجدان ، فهو جزء من الحقيقة الإنسانية ، وهو حكاية ما لطف في الحد ، فالعقل يحكي الروح وهو الماهية اللطيفة التي لا تدرك بالحس ، فلا يتناولها التجريب والبحث ، وهي ، مع ذلك موجودة بما يعالج الناظر من آثارها في حركة الفكر وهي مما يحصل في العقل ، وأخرى تدرك بالحس الظاهر من حركة الأبدان والجوارح ، وهو ما ينصح في مدلول آخر أصرح ، فَثَمَّ من باب أولى : حقيقة للخالق الأول ، جل وعلا ، وهي مما يثبت في الخارج ، فيجاوز ما اقترح الذهن من المطلق بشرط الإطلاق ، فذلك ما لا وجود له في الخارج يثبت ، بل ثم من حقيقة الخالق الأول ، جل وعلا ، ما ثَبَتَ في الأزل ، فَلَهُ من ذلك أولية تُطْلَقُ ، وهو مما حصل في الخارج فجاوز المجرد الذهني ، فَثَمَّ وجود في الخارج ، فتلك الحقيقة التي لا تدرك بالتجريب والبحث ، كما الروح ، وإن وجد الناظر من آثارها ما هو أظهر بداهة من آثار الروح في الجسد ، فآثار الخالق الأول ، جل وعلا ، في الخلق المحدَث أظهر في الدلالة بما يكون من الإيجاد المصدق لخلقِ تقديرٍ هو الأول وما كان من تصوير لا على مثال تقدم ، وما كان من رزق وتدبير .... إلخ من خصائص الربوبية ، فَثَمَّ من آثار الخالق ، جل وعلا ، في الخلق المحدَث ما هو أظهر من آثار الروح في الجسد ، وكما الأخيرة تَثْبُتُ ، وإن لم تدرك بالتجريب والبحث ، فَثَمَّ من آثارها ما بوجودها يَشْهَدُ ، فإن الأثر ضرورةً يدل على المؤثِّر ، فكما الروح تَثْبُتُ على التفصيل آنف الذكر ، فالخالق ، جل وعلا ، يثبت من باب أولى ، إذ آثاره في الكون أظهر ، فهي دالة ضرورة على المؤثِّر الذي يسبق ، وذلك مما يتسلسل حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورة إلى أول لا أول قبله حسما لمادة في الذهن تمتنع ، وهي التسلسل في المؤثرين أَزَلًا فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وهو الواجب لذاته ، فلا يَفْتَقِرُ إلى موجِد موجِب من خارج ، بل كل مخلوق مُحْدَثٍ ، إِنِ المحلَّ أو ما يُبَاشِرُ من السبب ، كل مخلوق محدَث ، فإليه ، جل وعلا ، يَفْتَقِرُ ، أن يُقَدِّرَهُ ثم يوجده ثم يُدَبِّرُهُ ، فلا يكون السؤال عن سبب له يَسْبِقُ ، فذلك مما يخالف عن النص المحكم إذ : "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ" ، وهو ما حُدَّ مضارعا في "يَأْتِي" ، وبه استحضار المعنى ، فذلك أمر جَلَلٌ ، والبلوى به تَعْظُمُ بما اتصل من فعل الوسواس ، فالمضارعة ، من وجه آخر ، حكايةُ مَا يَتَكَرَّرُ في الخارج ، فهو من الوسواس الذي لا يَزَالُ في النفس يَتَحَرَّكُ ، فَثَمَّ من المضارعة حكاية حال واستقبال ، ولا ينفك يَعْرِضُ وَيَزُولُ ، وتلك أخرى من الفعل تُسْتَنْبَطُ ، فليس كالاسم الذي يحكي الثبوت والديمومة ، فالفعل يحكي التجدد والحدوث ، وهو ، مع ذلك ، مما حُدَّ مضارعا في الخبر آنف الذكر ، فذلك استمرار يَتَنَاوَلُ أجزاءَ الزَّمَنِ حالا واستقبالا ، وإن لم يثبت ويدوم كما الاسم في المدلول ، فإن اسم الذات مثالا ، كزيد أو عمرو ، ذلك مما يثبت في كل وقت من لَدُنِ الوجود وحتى الموت ، لا جرم لم يصح الإخبار عنه بالظرف ، إلا أن يكون ثم تأويل يسوغ ، فلا يقال : زيد الآن ، أو زيد الصيفَ ، فإن ذات زيد حاصلة في كل وقت ، إن في الشتاء أو في الصيف ، إلا أن يكون ثم تقدير لمحذوف ، كأن يقال : مولد زيد الصيفَ ، أو قدم زيد الصيفَ ..... إلخ ، فيكون من الإخبار عن حَدَثٍ يَتَجَدَّدُ ، فهو مما يعرض وَيَزُولُ ، فليس المولد مما يدوم ، وكذا القدوم ، فَثَمَّ من دلالة الفعل ما يحكي التجدد والحدوث ، وذلك الوسواس الذي يتكرر ، فيأتي المكلف إذا غَفَلَ فلم يَذْكُرْ ، ومن ذا لا يسلم من الوسواس إذ لا أحد يسلم من الغفلة ، ولو فَتْرَةً في الذكر ، فكيف بما زاد من فَتْرَةٍ فِي الفرضِ ، فذلك مما يُضْعِفُ المحل وَيُمْرِضُ فيصير أهلا أن يقبل آثار الوسواس الذي يضر ، فإذا ذكر واستغفر قَوِيَ المحل وانجبر ، وَزَالَ الوسواس وانخنس ، فذلك وصفه في الذكر المحكم ، أَنْ شُرِعَ من الاستعاذة ما يدفع ، فكان من ذلك أمر يوجب وَيُرْشِدً ، فـ : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فَثَمَّ مدلول أول يحكيه الأمر بالنظر في أصل الوضع اللساني المجرد ، وهو الإيجاب الذي يُلْزِمُ ، وثم من دلالة الإرشاد ما يَنْصَحُ إذا عرض الوسواس وَتَكَرَّرَ ، وذلك مِمَّا حُدَّ أَمْرًا قَدْ تَوَجَّهَ إلى المفرد ، فَثَمَّ من ضميره ما وجوبا يضمر فلا يظهر في العامل "قُلْ" ، فذلك ضمير المخاطب المفرد ، وله من ضمير الفصل ما يعدل ، فهو تقديره في المعنى ، وإن لم يكن عينه ، وإلا ظهر في اللفظ ، فإن كان من ذلك ما يظهر ، كما في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) ، فذلك مما يُحْمَلُ على التوكيد ، وله في هذا الموضع مدلول أخص ، فالتوكيد بالتكرار ، تكرار المؤكَّدِ ، ولو لم يكن أولا يظهر ، فقد استكن في عامله إيجابا ، ثم كان من الضمير المؤكِّد ما يَظْهَرُ ، فأكد المظهَرُ المضمَرَ ، وكان من ذلك زيادة في المبنى تعدل أخرى تضاهيها في المعنى ، وثم آخر في صناعة النحو إذ امتنع العطف على ضمير الرفع ، ظاهرا أو مستترا ، امتنع العطف عليه إلا أن يكون ثم لفظ يَفْصِلُ ، فكان من التوكيد ما فَصَلَ ، وبه ساغ العطف ، على التفصيل آنف الذكر ، فأفاد التوكيد معنى يزيد ، وكان منه ما به اللفظ يستقيم ، فلا يقال إن الضمير المظهر في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) ، لا يقال إنه الفاعل ، بل الفاعل قد استتر وجوبا في الأمر إذا تَوَجَّهَ إلى مفرد مذكر ، وله من التقدير ما يعدل ضميرَ المخاطَبِ المفرَد ، وله ، من وجه آخر ، عهد أخص ، بالنظر في عين المخاطب أولا بالوحي ، وهو صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من ذلك أول وهو خطاب المواجهة ، وثم تال قد تناول غيرا ، وهو أصل آخر يستصحب في خطاب التكليف المنزل ، وإن خالف عن أول من وَضْعِ اللسانِ المطلقِ ، فإن الأمر الذي تَوَجَّهَ إلى واحد مذكر ، ذلك ، بداهة ، ما يتناول واحدا مذكرا في الخارج فلا يجاوز ، فتلك دلالته في اللسان لدى المبدإ ، فثم حقيقة أولى في اللسان تستصحب ، وثم أخرى من العرف وهي أخص ، فَثَمَّ من عهد التَّنْزِيلِ في خطاب التكليف ما جاوز المخاطب الأول ، فهو كالمثال الذي يُذْكَرُ بَيَانًا لعام له وَلِغَيْرٍ يَسْتَغْرِقُ ، فلا يكون ذِكْرُهُ ، وهو بَعْضُ أفرادِ العام ، لا يكون ذكره مخصِّصا لهذا العام ، بل هو له يُبِيِّنُ وَيُفَصِّلُ ، دون أن يقصر الدلالة عليه دون غير ، إلا أن تكون ثم قرينة تخصص ، فَتَرُدَّ المدلول إلى أول ، وهو الدلالة على واحد ، كما الحال في الخصائص ، فَثَمَّ من خطاب الوحي في مواضع ما خَصَّ واحدا بالعين ، أو آخر بالنوع ، فلم يكن من ذلك معنى يَسْتَغْرِقُ غَيْرًا بما اسْتُصْحِبَ في نصوص الوحي ، إذ ثم من قرينة العموم في خطاب التكليف ما يتناول الآحاد كافة ، المذكور الذي عليه قد نَزَلَ ، أو الخطاب به إليه قد تَوَجَّهَ مبدأَ التَّنَزُّلِ ، كما تقدم من قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، فذلك ، كما تقدم ، مما استصحب مبدأ النظر ، فَعَمَّ الخطاب ، وإن توجه إلى واحد ، فَثَمَّ من ذلك عُرْفٌ أَخَصُّ بِمَا اسْتَقَرَّ من مدلول الوحي أنه عام يَتَنَاوَلُ آحاد الجمع كافة ، فجاوز المخاطَب الأول ، أو من عليه قد نَزَلَ ، كما العام الذي نَزَلَ على سبب خاص ، فلا يخصصه السبب ، وإنما يبين عنه ، إذ العبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ ، كَمَا قَالَ أهل الشأن ، وإلا صارت نصوص الوحي كَافَّةً : وقائعَ أعيانٍ لا عموم لها فلا تجاوز من عليه قد نزلت ، فيكون من الخطاب أن "قُلْ" في الآي آنف الذكر ، ، يكون منه ما توجه إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده ، فإذا امْتَثَلَ الأمر أن "قُلْ" ، فقال وَبَلَّغَ وَبَيَّنَ ما أُمِرَ ببلاغه وبيانه فقد انْتَهَى أَثَرُ الوحيِ في التشريع ، فلم يكن من ذلك ما يجاوز إلى غَيْرٍ ، فلا يؤمر غيره بالاستعاذة ، وإنما يؤمر هو وحده صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو ما يصدق مَرَّةً ، ثم يكون من النسخ ما يَرْفَعُ ، فقد بَطَلَ التكليف بعد امْتِثَالِ الأمر بإيقاع المأمور ، وهو ، كما تقدم ، مما يحصل بامتثاله ، ولو مَرَّةً ، فذلك أدنى ما يصدق فيه المأمور في الخارج ، فكان من ذلك طريقة في التأويل قد عمت بها البلوى ، فَتَكَادُ تَعْدِلُ من التأويل ما بَطَنَ ! إذ تفضي إلى تعطيل الأحكام ، وهو ما نهجت الحداثة في الجيل المتأخر أَنْ تُبْطِلَ حكومة التكليف الرسالي المنزَّل ، فَقَالَ مَنْ قَالَ في نحو قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، قَالَ إِنَّ ذلك مما يحكي العهد الخاص في سَارِقٍ بِعَيْنِهِ وهو من نَزَل عليه الحكم ، فلم يُجْرِهِ مجرى السبب الذي نَزَلَ عليه العام فلا يخصصه ، وإنما خصص العام بعين السبب تحكما يبطل معنى العموم المستصحب في خطاب الوحي المنزل ، فصير المدلول هو سارِقًا بعينه ، وهو سارقُ رِدَاءِ صفوانَ ، وسارقةً بِعَيْنِهَا وهي المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحد ، فَإِذْ حُدَّا فكان القطع ، فقد انتهى أثر الحكم وبطل حد السرقة إذ "أل" في "السارق" و "السارقة" من هذا الوجه تحكي من العهد ما خَصَّ فلا يجاوز عين السبب الذي نَزَلَ عليه الحكم العام ، وهو التحكم الذي يخالف عن الأصل المستصحب من عموم الدلالة في خطاب الوحي المنزَل ، فذلك الأصل في الباب حتى ترد قرينة التخصيص ، فلا يكون من ذلك ما يجري مجرى التحكم ترجيحا لمرجوح لا يتبادر ، فيكون من ذلك ترجيح له بلا مرجِّح معتبر إلا دعوى التخصيص ، وهي صورة الخلاف التي تطلب الدليل ، فكيف تصير هي الدليل وشرطه أن يسلم به الخصوم كافة ، لا أن يكون صورة الخلاف بينهما ، فذلك دور يبطل ، إذ يستدل على الشيء بنفسه ، وهو ما اصطلح النظار أنه المصادرة على المطلوب ، تحكما بلا دليل ، كما في هذا الموضع ، إذ تحكم الناظر فقصر مدلول "أل" في "السارق" و "السارقة" على عهد خاص لا يجاوز عين من فيه قد نَزَلَ ، فليست "أل" العامة التي تستغرق ، مع آخر هو في باب التعليل أخص ، فتلك "أل" الموصولة التي تعدل الموصول الاسمي إذ دخلت على الاسم المشتق "فاعل" وهو "سَارِق" و "سارقة" على تأويل : والذي سرق والتي سرقت ، وهو ، كما يقول أهل الأصول والنظر ، ما يؤذن بِعِلِّيَّةِ ما منه الاشتقاق ، وذلك وصف السرقة الموجِب لحكم القطع الذي تلا فاقترن بالفاء أَنْ شُبِّهَ بالشرط ، وهو ، أيضا ، مما يحكي التعليل في الدلالة ، فالجواب مع الشرط ، كما المعلول مع العلة ، وهو ما شُبِّهَ به الموصول مع خبره ، فإن من معنى السرقة الذي اشتقت منه الصلة ما يدور مع حكم القطع وجودا وعدما ، فكان من ذلك ما شُبِّهَ فيه الخبر بجواب الشرط ، إذ شُبِّهَ الموصول بالشرط ، فَقِيسَ الموصول على الشرط ، وكان أن دخلت الفاء على خبر الموصول كما دخلت على جواب الشرط ، إن كان إنشاءً كما الأمر "اقْطَعُوا" في هذا الموضع : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، وكان من الفاء في "فَاقْطَعُوا" ما به اللفظ يُسْتَصْلَحُ فتلك فاء الربط ، ولا تَنْفَكُّ تحكي آخر من العطف على حد التعقيب والفور ، وذلك آكد في الدلالة مسارعةً في إنفاذِ الحد ، ولا تخلو من دلالة السببية ، وإن لم تكن نصا فيها ، فوصف السرقة : سَبَبٌ في حكم القطع ، وذلك ما حُدَّ عاما إذ الموصول نص في الباب ، فَبَطَلَ ما تقدم من دلالة العهد الخاص في "أل" في "السارق" و "السارقة" ، فلا يجاوز السبب الذي عليه قد نَزَلَ ، فَقَدْ أُقِيمَ الحدُّ على سارقِ رداءِ صفوانَ والمخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحد ، فَأُقِيمَ الحد عليهما ثم كان النسخ لدلالته ، فَبَطَلَ العمل به ! ، وذلك بداهة ، مما لا يعقل إذ يُفْضِي إلى إبطال الشريعة ، وهو ما نهجت الحداثة إذ تخاصمُ في المرجع الرسالةَ ، فكان من الأولى أن صيرت الشريعة وَقَائِعَ أعيان لا تجاوز آحاد من نَزَلَتْ فيهم ، أو الجيل الأول من أمة الرسالة الخاتمة ، فَإِذِ انْقَرَضَ فَقَدْ بطل مدلولها ، فلا يستصحب منه إلا لفظ قد جُرِّدَ من الدلالة ، وَكُلٌّ يَتَنَاوَلُهُ بالتأويل ، فَيَقْتَرِحُ من ذلك ما يواطئ الهوى والحظ ، وإن خالف عن محكم الوحي ، فيستصحب اللفظ بلا مدلول ، وهو ما يخالف عن المنقول والمعقول ، وما استنبطت العقول من الأجناس الدلالية الكلية التي يدور عليها اللفظ بما كان من استقراء لكلام العرب المحتج به من نَظْمٍ أو نَثْرٍ ، فَيَكُونُ من ذلك آحاد يجتهد الناظر في تَصْنِيفِهَا وَتَرْكِيبِهَا ، حتى يحصل له من ذلك أصل من الدلالة الكلية ، وهي ما يُطْلَقُ في المعجم ، وهو أول في الاستدلال المحكم ، إذ الوحي قد نَزَلَ بِلِسَانِهِ المفصِح ، فَوَجَبَ الرَّدُّ إليه في التفسير ، كما وجب الرد إلى الوحي في التشريع ، فلا يُفْهَمُ خطابُ المخبِر أو المشرِّع ، لا يُفْهَمُ بداهةً إلا بلسانه الذي به قد نَزَلَ ، ولا تحصل الفائدة من لفظ يُتْلَى أماني فلا يفقه ، فَحَقُّ تلاوته أن يُقْرَأَ وَيُفْهَمَ ، ثم يكون من العمل تال يصدق ، وهو فرع عن العلم ، إذ الحكم فرع عن التصور ، ولا يكون علم ينفع بلفظ من الدلالة قد جُرِّدَ ، بل العلم النافع : مدلول يجاوز الملفوظ ، فما الأخير إلا دليل على الأول ، وإن كان قسيما له في حد الكلام المفهِم الذي يحسن السكوت عليه ، كما حده أهل الشأن ، فَثَمَّ من نَهْجِ الحداثة أَنِ اتخذت التاريخانية ذريعةً إلى نسخ الشريعة ، أن صارت جميعا من وقائع الأعيان التي لا تجاوز آحادها ، والجيل الذي فيه قد نَزَلَتْ ، فانقراضه نسخ لها ، فلا يستصحب المدلول الأول الذي به قد نزلت ، فَثَمَّ من حقيقة الاصطلاح الأخص ، اصطلاح الوحي ، ثم منها ما يزيد ، فهو يُقَيِّدُ حقيقة اللسان المجرَّد ، وهي الجنس الدلالي الأعم الذي حصل في الذهن مبدأ النظر في نص عربي مفصِح ، كَمَا لفظ الصلاة مثالا ، فَمَا يَتَبَادَرُ منه في اصطلاح المعجم وهو الأعم ، ما يَتَبَادَرُ منه هو مدلول الدعاء المطلق ، وهو ما يصدق في أي حقيقة منه في الخارج تَثْبُتُ ، وذلك ، بداهة ، ما لا يجزئ في الخروج من عهدة الخطاب الشرعي الأخص الذي جاوز بها في الدلالة ، وإن اتخذها أصلا أول عنه يصدر ، فَقَبَسَ منها المدلول اللساني المجرد ، مدلول الدعاء ، ثم زاد فيه قَيْدًا يأطر ، فهو دعاء مخصوص ذو ماهية في الاصطلاح تجاوز مطلق الدعاء ، فتلك حقيقة الشرع التي تُسْتَصْحَبُ مبدأَ النَّظَرِ في نصوص التشريع المحكم ، فَثَمَّ أول من حقيقة اللسان ، وهو ما يَتَبَادَرُ إلى الأذهان في تفسير أَيِّ نَصٍّ ، فلا يُفَسَّرُ إلا بِلِسَانِهِ الذي به قَدْ وَرَدَ ، أو نَزَلَ إِنْ كَانَ وَحْيًا ، وذلك لسان أخص ، إذ ثم من عُرْفِ زمانِه ما استقر ، فَلَا يُفَسَّرُ بِعُرْفٍ حادثٍ بَعْدَهُ ، فاستصحب من ذلك عرف اللسان زَمَنَ الورودِ أو التَّنَزُّلِ ، وهو ذو مراتب مبدؤها النظر في دلالات الألفاظ المجردة في المعجم ، فتلك المعاني الكلية الجامعة التي تدور عليها مادة النطق ، وهو المطلق بشرطِ الإطلاق ، فلا وجود له في الخارج إلا أَنْ يُقَيَّدَ ، فَثَمَّ قيد الاشتقاق الذي لا يجاوز المادة المفردة ، وهو ، مع ذلك ، يرفدها بمدلول يزيد ، بما استقرأ الناظر من وجوه الاشتقاق في الكلام المأثور ، فاستنبط منها الميزان المحكم ، إذ يحكي من كُلِّ وَزْنٍ : مدلولا أخص ، فهو المقيد لِمَا أُطْلِقَ من مدلول المعجم المفرد ، كما لو تناول الناظر مادة "كَتَبَ" ، وهي المجرد في المعجم ، فَإِذَا حَدَّهَا حَدَّ "فاعل" ، فَثَمَّ من ذلك اسم الفاعل ، فَيُقَالُ "كاتب" ، وهو ما يدل على المعنى المجرد في المعجم ، فتلك نواة أولى في المدلول ، وثم تال قد استفيد بما كان من زيادة تُوَاطِئُ مِيزَانَ الاشتقاقِ ، فَثَمَّ زيادة الألف ، وهي في المبنى حكايةُ أخرَى تَعْدِلُ في المعنى ، فتلك زيادة أخص بما واطأ ميزانَ الاشتقاق ، وهو ما رَفَدَ المادة المعجمية الأولى ، فَزِيدَ في لفظها ، وَزِيدَ في معناها زيادة أخص ، إذ تحكي فاعلَ الْكَتْبِ ، فَصَارَ من لفظِ كاتبٍ ما دل على جنس المعنى المجرد في الذهن ، وهو الْكَتْبُ ، ودل على آخر وهو الفاعل الذي قام به الفعل ، وثم ثالث ، وإن لَمْحًا ، بما ثبت من مضاهاة اسم الفاعل للفعل المضارع في العمل ، وإن كان فَرْعًا عنه فهو أضعف ، إلا أنه يُلْحَقُ بِهِ تَبَعًا ، فَلَهُ من ذلك مدلول المضارع حالا واستقبالا ، على تفصيل في ذلك ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الإضافةِ ، فَلَوْ قِيلَ : هذا قارئُ القرآنِ ، فَلَيْسَ ثم دلالة زمان ، إذ الإضافة قد قوته في باب الاسمية فَبَاعَدَتْ به عن الفعلية ، ولم يعد ثم لمح زمان يظهر ، فإن كان ثَمَّ قطع في اللفظ ، فَنَصَبَ اسمُ الفاعلِ مَا بعده ، وقيل : هذا قارئٌ القرآنَ ، فذلك مما يُقَرِّبُهُ إلى الفعل وَيُقَوِّيهِ في الباب ، إذ عمل عمله فَنَصَبَ المفعولَ بعده ، فكان من ذلك سببٌ لآخر من المضاهاة أن ألحق به في الدلالة الزمنية ، الحالية والاستقبالية ، فذلك تال في الدلالة اللسانية بعد أول من دلالة المعجم المفرد ، فَثَمَّ دلالة الاشتقاق الأخص ، وثم ثالثة في الذكر ، إذ اللفظ مجردا أو مشتقا ، لَا يُفِيدُ حالَ انفرادِه معنى يحسن السكوت عليه ، فلا فائدة تجاوز تصور المدلول مجرَّدا في الذهن ، فلا ينفك يطلب تاليا من الحكم أن يُسْنَدَ أو يُسْنَدُ إِلَيْهِ ..... إلخ ، فيكون من نَظْمِ الكلامِ ما يُفْهِمُ معنى يحسن السكوت عليه ، وتلك مرتبة تالية في اللسان ، مرتبة النحو الذي يَنْظِمُ المفرداتِ في سلكٍ جامعٍ بما كان من قانون في الإسناد أو الإضافة أو العطف ...... إلخ ، وهو آخر يميز اللسان من غَيْرٍ ، فَلِكُلِّ لسانٍ نَحْوُهُ في التقديم والتأخير ، مع ثالث من المراتب يحكي من وجوهِ الْبَيَانِ مَا يَلْطُفُ ، فَثَمَّ الكناية والمجاز والاستعارة ...... إلخ ، فكل أولئك مما به الحقيقة اللسانية الأولى تَنْصَحُ ، أن يكون من ذلك معنى تام في الذهن يحصل ، وبه الإفهام يثبت إذ يبين عن مراد المتكلم ، وذلك ، بداهة ، غَرَضُهُ ، وَإِلَّا كان من كلامه هذيانٌ لا يجاوز في الدلالة الصوت الذي يصدر عن الطفل الذي لا ينطق ، وإن كان له من العقل أول قد رُكِزَ فِي الوجدان ، فتلك قوة مجملة لا تنفك تطلب من الفعل ما يُبِينُ إذ يحصل له من ذلك التعلم شيئا فشيئا ، وإن حصل المعنى في النفس قبل اللفظ ، كما يقول أهل الشأن ، فالطفل الصغير الذي لا يتكلم ، لا ينفك لمادة الكلام ونحوه يجمع ، وإن لم يحسن يَنْطِقْ بذلك وَيُفْصِحُ ، فتلك القوة الكامنة في النفس ، مع أولى تقدمت وِهي خاصة الخلق ، خلق الإنسان الذي امتاز عن سائر الأنواع بما ركز فيه من العقل ، وهو منطق يبطن إذ المعنى فيه يثبت لدى المبدإ ، فلا ينفك يطلب آخر من المنطق يُظْهِرُ مَا حصل بالنفس من المعنى ، فحصل للصغير من ذلك المعنى ، وهو منطق باطن أول ، وهو تصديق آخر من رِكْزِ العقلِ لدى المبدإ ، فَثَمَّ قوة في الوجدان قد رُكِزَتْ ، وَثَمَّ مادة من المعنى في النفس قد جُمِعَتْ ، وذلك تأويل أول لخاصة الكلام والمنطق ، فالمبدأ منه باطن يُعْقَلُ ، ولا ينفك يفيد معنى يحصل به الإفهام فيحسن السكوت عليه ، إلا أن يكون من المنطق الظاهر ما يُفْصِحُ عَمَّا قَامَ بالنفسِ من المعنى ، فيكون من منطق الظاهر ما تقدم من مراتبِ الاستدلالِ ، فَأَوَّلٌ يُبِينُ عن جنس المعنى ، وآخر يشتق منه فيفيد معنى أخص ، وثالث يَنْظِمُهُ في سلكِ نحوٍ يحكي من المعنى أولا يتبادر إلى الذهن دون قرائن من التأويل تزيد في المدلول ، فتلك خاصة رابعة من عرف التداول المشتهر بما لطف من وجوه البيان ، وهي مما يفيد معان ثانية بعد أولى تحصل بظاهر من المعجم والاشتقاق والنحو ، فهي تُبِينُ عن معنى ظاهر يتبادر ، وهو الراجح الذي يستصحب حتى يكون ثم تال من القرينة يصرف ، فيفيد من وجوه البيان ما يَلْطُفُ ، وهو ما يُرَدُّ إلى معجم دلالي أخص ، فذلك معجم الكنايات والمجاز والاستعارة ...... إلخ من وجوه البيان التي تكلم بها الجيل الأول ، وإن لم يكن من اصطلاحها المحدَث ما دُوِّنَ ، فذلك ما كان بعدا إذ يحكي من الظاهرة ما يثبت أولا ، وتلك خاصة تَطَّرِدُ في العلوم كافة ، ومنها علوم اللسان التي تصف الظاهرة الأولى من المنطق المحتج به ، فيكون من ذلك ما يَتَنَاوَلُهُ الجيل الأول بداهة ، فلا يتعلم ذلك تَعَلُّمَ المتأخر الذي ينظر في تصانيف المعاجم والتصريف والنحو والبيان والبديع ...... إلخ ، فكل أولئك مما حصل في الجيل الأول حصول التواتر الذي لا يفتقر إلى نَظَرٍ أو تَعَلُّمٍ ، إلا ما يكون من تقليد الأبوين والجمع الذي يحيط ، لا جرم كان من كلام الأولين : حجة في الاستدلال لدى مَنْ صَنَّفَ في الباب من المتأخرين ، فكلام الأول حجة ، ولو لم يكن ذا شأن في العلم ، فآحاد الناطقين من الجيل الأول ، ولو البدو الرحل ، أولئك مصادر في الاستدلال لدى أهل الشأن ، ولو صاحبَ الكتابِ الأول في النحو ، فقد نَزَلَ في أهل البادية وَتَرَحَّلَ ، وسمع منهم وحفظ ، وكتب بعدا في ديوانه الجامع لأصول النحو ، فَهُمْ شيوخه في الصنعة ، وإن لم يحسنوا من التصنيف ما أحسن ، فهو مادة الكتاب الذي سطره ، فَسَبَقَ المتقدِّمُ المتأخِرَّ من هذا الوجه ، إذ حصل له البيان بلا معلِّم ، وكان من جيله ما نصح لسانه فلم يلحن ، لا جرم كان الحجة في الاستقراء ، فَجُمِعَ من كلامه مادة تَنْفَعُ ، وَجَرَّدَ منها كُلٌّ من الأصول ما ينصح ، فصاحب المعجم يجرد الدلالات المطلقة ، وصاحب التصريف يجرد ميزان الاشتقاق ، وصاحب النحو يجرد قواعد النطق التي يصح بها الكلام فيفيد من المعنى أولا يحسن السكوت عليه بما يظهر من المفرد والمركب ، فيكون من السياق تال يَرْفِدُ الدلالة بما استقر من وجوه الإسناد والإضافة والعطف .... إلخ ، وصاحب البيان يَتَنَاوَلُ بَعْدًا ما لَطُفَ من المعاني ، وهي تالية بعد أول من مدلول النحو ، فلا ينظر المستدل في المعنى الثاني الأخص ، وهو الفرع ، إلا أن يصح المعنى الأول الأعم ، معنى النحو الذي يفيد من المدلول ما يحسن عليه السكوت ، وذلك الأصل ، فاشترط له من الصحة أول ، وإلا فسد الفرع الذي عنه يصدر ، فلا يعالج الناظر وجوه بَيَانٍ تلطف ، والكلام ابتداء لم يسلم من عجمة تُفْسِدُ ، فكل أولئك مما سبق به المتقدِّمُ المتأخِّرَ ، وذلك سبق أعم يَتَنَاوَلُ أَيَّ نَظْمٍ أو نَثْرٍ ، وثم آخر أخص ، بما كان من اصطلاح الشرع ، وهو ، كما تقدم ، مما زِيدَ فِي الحدِّ ، فَقَيَّدَ ما أُطْلِقَ أولا من حقيقة اللفظ ، فَثَمَّ من قيد الاصطلاح الأخص ما تناول العلوم كافة ، ومنها علوم الشريعة ، فَلَهَا اصطلاح أخص ، وتلك حقيقة من العرف الذي يَقْضِي في حقيقة اللسان المجردة ، كما مثال الصلاة آنف الذكر ، فإن منه أولا يحكي مطلق الدعاء الذي يجرده الذهن ، فيصدق فِي أَيِّ دعاءٍ في الخارج أنه صلاة ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يجزئ في الخروج من عهدة الشرع الذي فَرَضَ الصلاة ، فَلَمْ يَفْرِضْ منها الدعاء المجرد ، وتلك ، أيضا ، مما نهجت الحداثة أن تخاصم نصوص الرسالة فَتَسْعَى في إبطالها ، فَتَارَةً تُبْطِلُ الأصل ، وتجرد اللفظ من المعنى ، فَيَصِيرُ وعاء شاغرا يطلب من المعنى شاغلا ، فَيَشْغَلُهُ كُلُّ أحدٍ بما يواطئ هواه وذوقه ، وأخرى تَرُدُّ الحداثةُ حقيقة الشرع الأخص بما كان من أول من حقيقة اللسان الأعم ، فَتَصِيرُ الصلاة هي الدعاء المجرد ، دون نظر في قَيْدٍ تال يأطر بما ثبت من نص الشرع المحكم ، وتلك طريقة في التأويل باطنية قد سلكها قَبِيلٌ أول ، فكان من تأويله ما ينكر المعلوم الضروري من الشريعة ، فكان من الصلاة ذِكْرٌ ، وهو دعاء ، وذلك مما في حد المعجم المجرد يَصِحُّ ، وهو ، مع ذلك ، لا يجزئ ، بداهة ، في الخروج من عهدة الشرع ، فخرج به أولئك أن قَصَرُوا الصلاة على ذكرِ أسماءٍ من الأئمة ، وَقُلْ مثله في الصيام ، إذ يحكي في المعجمِ الإمساكَ ، وهو ما يصدق في أَيِّ إمساك في الخارج ، فلا يجزئ في الخروج من عهدة الصيام في الشريعة ، فذلك إمساك مخصوص في زمن مخصوص ، فَثَمَّ من القيد ما يأطر المدلول المعجمي الأعم على معنى في الشريعة أخص ، فَلَا يَقْضِي العام في الخاص فَيُبْطِلَهُ ، بل الخاص هو القاضي في العام إذ يأطره على مدلول الكلام ، وهو بَيَانُ الأحكام في نصوص الشريعة ، فلم يقصد الشارع ، جل وعلا ، بصوم رمضان مُطْلَقَ الإمساكِ عن أَيِّ شيءٍ ، فذلك ما يصدق في الإمساك عن الكلام ، كما أمسكت البتول عليها السلام ، فـ : (إِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، فأطلقت ثم قيدت بما يبين عن ماهية صومها ، فهو صوم عن الكلام ، وذلك مما جاز في الشرائع المتقدمة ، وقد جاء الشرع الخاتم له يبطل ، فلا يشرع الإمساك عن الكلام ، وإن كان شرعا لمن تقدم ، فهو شرع لنا إلا أن يكون من شرعنا ما ينسخ ، فحصل من مريم ، عليها السلام ، فعل يصدق فيه أنه صوم ، إذ أمسكت عن الكلام ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يجزئ في الخروج من عهدة الشرع الخاتم ، إذ الصيام فيه أخص ، فَلَهُ من المدلول ماهية مخصوصة ، فلا يتأوله الناظر بحقيقة المعجم المفردة ، وإن كانت الأولى في بَيَانِ المعنى ، إذ نَزَلَ الوحي بِهَا ، فهو العربي المبين ، فمبدأ الاستدلال فيه : معجم الدلالات العربية ، وهي ، مع ذلك ، تطلب القرينة الشرعية التي تحملها على معنى في الاصطلاح أخص ، فلا تَبْرَأُ الذمة إِلَّا به ، وهو ما يَسُدُّ ذَرَائِعَ التأويلِ ، ومنها ما تَقَدَّمَ من الاقتصار على المعنى الأول ، المعنى المعجمي المفرد ، فيقال إن الصوم هو الإمساك المجرد ، وهو ما يحصل بآحاد منه في الخارج لا تواطئ حقيقة الشرع النازل ، فيكون من ذلك ما يجحد معلوما دينيا ضروريا ، كما تأول الباطنية الصوم أنه الإمساك ، وذلك صحيح في المعجم ، ثم خَصُّوهُ بلا مخصِّص ، أن صار الإمساك عن إفشاء السر ، سر المذهب الباطن وهو لِظَاهِرِ الشريعة ناقض ! ، فليس الباطن الذي يلطف من وجوهِ تأويلٍ تَنْصَحُ ، فَشَرْطُهَا ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أَلَّا تُخَالِفَ عن ظاهر المعنى الأول ، وكذا قالوا في الحج ، إذ اقْتَصَرُوا على مطلق المعنى الذي يجرده الذهن ، فهو القصد ، ثم كان من القيد ما صرفه إلى قصد المراقد ، مراقد الأئمة ، وهو ، أيضا ، مما ينقض معلوما من الدين هو الضروري المحكم ، فَنَقَضَهُ التأويل الباطني إما بِجَحْدٍ تام يُفْرِغُ الألفاظ من المعاني ، ولو المعجمية الأولى ، ثم يقترح لها من وجوه التأويل ما يواطئ الهوى والحظ ، وهو التلاعب الذي يضاهي السفسطة ، وَإِمَّا بآخر يَرُدُّ المحكم من دلالة الوحي بما تشابه من دلالة المعجم ، فهي الجنس الدلالي المطلق الذي لا يَنْفَكُّ يطلب من القرينة ما يقيد ، إِنْ في سياقٍ مركَّب يُفْهَمُ ، أو اصطلاح في الدلالة يحكم ، فاصطلاح كُلِّ علمٍ : حَكَمٌ عَدْلٌ في الألفاظ ، فكان من اصطلاح الشريعة عرف أخص يقضي فيما ثَبَتَ أولا من حقيقة في اللسان أعم ، وهو ما يبطل نهج الحداثة في تأويل النصوص ، وذلك التحريف ، لو تدبر الناظر ، فالتأويل لفظ مجمل به تكسو الحداثة بَاطِنِيَّتَهَا في الدلالة ، فليس التأويل كله يُذَمُّ ، بل منه ما اعتبر ، وشرطه ألا يخالف عن ظاهر هو الأول ، وأن يكون ثم قرينة في الباب تَثْبُتُ لا أخرى تُتَوَهَّمُ أو تقترح تحكما في الدعوى بلا دليل يشهد من عرف النطق أو الشرع ، وليس ذلك التأويل الباطن ، بل هو ، لو تدبر الناظر ، تفسيرٌ ظاهرٌ مركَّبٌ ، إذ تَنَاوَلَ أصلَ الدلالة الأول ، وما احتف به من قرينة السياق المفهِم ، وهو في الشريعة أخص ، إذ يحكي من التكليف ما مَدَارُهُ التوقيف فلا يثبت إلا بالسمع الصحيح ، فَثَمَّ في الباب عرف أخص ، وهو عرف الوحي المنزل ، وذلك ما قَضَى في أول من اللسانِ المجرَّد ، وهو ما استصحب في نصوص الشريعةِ كَافَّةً ، فالأصل أَنْ تُحْمَلَ على المعنى الشرعي الأخص إلا أن تكون قَرِينَةٌ تَصْرِفُهَا إلى آحر من المعنى اللساني الأعم ، فيكون من ذلك ، أيضا ، تأويل في الباب ينصح ، إذ ثم من القرينة ما يجزئ ، كما السياق في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، فذلك ، بداهة ، مما يُرَدُّ إلى أصل اللسان الأول ، فذلك مطلق الدعاء ، إذ لا يكون من ذلك الصلاة المعهودة في الشرع ، فلا تكون إلا لله ، جل وعلا ، فلا يصلى على الإنسان إلا صلاة الجنازة ! ، وهو ، بداهة ، ما لا يشرع في حق من جاء بِزَكَاتِهِ ، بل شُرِعَ الدعاء له بما يَشْفَعُ ، وله الخبر قد أبان وأظهر بما كان من دعاء صاحب الشرع المنزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ : "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ أَهْلُ بَيْتٍ بِصَدَقَةٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ فَتَصَدَّقَ أَبِي بِصَدَقَةٍ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»" ، فكان من ذلك صلاة الرحمة ولا تخلو من ثَنَاءٍ أن بَادَرُوا بِالامْتِثَالِ ، فكان العدول عن العرف الشرعي إلى أول من الوضع اللساني إذ كان من القرينة المعتبرة ما سَوَّغَ ، فلم يكن ذلك تحكما بلا دليلٍ يُجْزِئُ ، بل كان من ذلك قرينةٌ تَنْصَحُ ، فذلك تأويل يَصِحُّ إذ يواطئ ظَاهِرًا من اللفظ والسياق ، فليس المذموم من التأويل الباطن الذي يصرف الحقائق عن المعنى الشرعي إلى آخر لغوي دونَ قرينةٍ معتبرةٍ تَصْرِفُ ، فيكون من ذلك ذريعةٌ تَنْقُضُ مَا أُحْكِمَ من نصوصِ الوحيِ ، إِنِ الخبرَ أو الحكمَ ، كما تقدم من إبطال الصلاة والصيام والحج ، وذلك ما طرده المذهب الباطني في النصوص كافة ، الإلهيات والشرعيات ، الخبريات والحكميات ، حتى أتى على أصل الديانة بالإبطال ، فَتَلَطَّفَ إذ لم يصرح بالجحود والإنكار ، بل أظهر القبول والتعظيم لألفاظ الوحي ، ثم اجتهد أَنْ يُجَرِّدَهَا من المدلول المحكم ، فَيَتَّخِذَهَا ، كما يقول بعض من حقق ، لحاء يكسو به ما بطن من تأويلاته ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما نهجت الحداثة في الجيل المتأخر ، فكان من ذلك ما اصطلح أنه التفكيك ، تفكيك النص أن تُبَتَّ العلائق بين اللفظ والمعنى ، فلا يجزم أحد بما أراد المتكلم ، فجيله قد انقرض ، فانقرض معه مراده بما تقدم من تاريخانية تقصر الدلالة على الجيل الأول ، وتصير نصوص الوحي كافة : وقائع أعيان لا عموم لها يجاوز ، إلا ما نُقِلَ من لفظها المجرد ، فكل جيل يقترح لها من المعنى ما يواطئ حاله ! ، وهو ما يفضي إلى اضطراب في الدلالة وتناسخ لا يَنْتَهِي ، فكل جيل تال ينسخ ما أَحْكَمَ الجيل الأول ، وهو ما يفضي إلى التلاعب بالمدلول الشرعي المحكم ، فلا تنفك الحداثة تصدر عن تاريخانية تنسخ المدلول الأول إذ تَقْصُرُهُ على جيله الذي انْقَرَضَ ، ثم ذاتية في التأويل لا تصدر عن مرجع موضوعي من خارج ، فيكون منها التفكيك الذي يجرد الألفاظ من مدلولاتها التي تواطئ عرف لسانها الأعم ، وآخر من الاصطلاح أخص ، كما اصطلاح الشرع آنف الذكر ، ثم تقترح لها معان جديدة تواطئ جيلها بما تُحْدِثُ من قواعدِ دلالةٍ ونطقٍ ، فمرجعها ما حدث بعد انقضاء الوحي ، أو زَمَنِ النطق أو الكتب ، فيكون من اللسان المحدَث بعد النص ، يكون منه معيار حادث يَنْسَخُ الأول ، ومرجعه ذاتي لا يجاوز جيله المحدَث ، فلا يكون ثم مرجع موضوعي من خارج يجاوز بما استقر أولا من المدلول اللساني والاصطلاحي ، فيقترح من معيار الدلالة الحادث ، وهو ما اصطلح أنه درس البنيوية ، وهو آخر في الباطنية ، بعد تاريخانية تقصر المعنى على الجيل الأول ، فهو واقعة عين لا تتكرر ! ، ثم تفكيك يُسَوِّغُ إذ يَبُتُّ الصلة بين اللفظ والمعنى ، ثم بنيوية تقترح من المعنى ما يشغل اللفظ الذي صار وعاء شاغرا يطلب من المدلول شَاغِلًا ، فيشغله كُلٌّ بما يُوَاطِئُ جيلَه المحدَث الذي يَنْقُضُ ما أُحْكِمَ من الدلالة لدى المبدإِ .
والله أعلى وأعلم .