[frame="1 80"]
قال تعالى:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، تعالَوا معي - أيُّها الإخوة - لنطوف حول هذه الآية الكريمة، ونسعى في صفاء معانيها، ونشْرب من زمزم مَراميها، ونرْجم الشَّكَّ والرَّيب، حتَّى نصل إلى عرفات الإيمان والتَّسليم واليقين.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}: انتبِهوا إلى افتِتاحية الآية، لم يقل ربُّنا: نَحن نقص عليْك نبأ الإسراء، ولم يقُل - تبارك وتعالى -: هل أتاك حديث الإسراء، ولم يقُل: يسألونك عن الإسراء والمعراج قل سأتلو عليكم منه ذكرًا، ولم يقُل: واتْل عليهم نبأ الإسراء، إنَّما ابتدأ هذا الحدث العظيم بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}.
ومعنى "سبحان": التنزيه؛ أي: إنَّ الله منزَّه في ذاته، ومنزَّه في صفاته، ومنزَّه في أفعاله، لا شريك ولا كفؤ ولا قسيم له، وليس كمثلِه شيء وهو السَّميع البصير، سُبحان الذي أسرى، هذا الإله القادِر الحكيم منزَّه عن قانون البشَر، منح نبيَّه منحًا تفوق طاقة البشَر، لا يحدُّه مكان، ولا يجري عليه زمان؛ لأنَّه خالق الزمان والمكان، إذا عرفت هذا ونزَّهت خالقك عن قانون البشَر، وآمنت بأنَّه قادر على كلِّ شيء، فلا بأس أن تسمع ماذا فعل هذا الإله القادر، إنَّه أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والإسراء المشي ليلاً.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: لم يقل: بنبيِّه ولا برسوله، ولا بمحمَّد بن عبدالله، إنَّما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}؛ لأنَّ صفة العبوديَّة هي منتهى ما وصل إليْه الواصلون، ولأنَّ الدين كلَّه قائم على تصحيح عبودية الإنسان لله على وجه هذه المعمورة، ثمَّ إنَّ هذا التعبير القرآني العظيم يعطينا دلالة قاطعة على أن الإسراء كان بالرُّوح والجسد معًا، حين قال: أسرى بعبده؛ لأنَّ العبدَ لا يقال للرُّوح وحدها، ولا يقال للجسَد وحده عبد، إنَّما إذا اجتمع الروح والجسد معًا فحينئذ وحْده يصح أن يقال عنه: عبد.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}: لماذا ليلاً؟ لأنَّ الليل هو وقت السكون تنام فيه الحركة، ويهدأ فيه الضجيج، ويخشع فيه الكون كله، فتطيب المناجاة، ويحلو الدنوُّ والقرب والوصال.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا}: من أين والى أين؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، من الكعبة المشرَّفة بيت إبراهيم وإسماعيل؛ {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97].
[/frame]