الحمد لله الذي اقتضت حكمته إرسال الأنبياء مؤيَّدين بمعجزات لتكون تصديقًا لهم فيما يبلغون من رسالاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب المعجزات الخالدات، كرمه ربه برحلة لم يسبق لبشرٍ أن قام بها {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. وصعد به إلى السموات العُلا إلى سدرة المنتهى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18].
الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج
أولاً: توالت على رسول الله قبيل حادثة الإسراء والمعراج الحوادث والأزمات الكثيرة، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنتٍ وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب، وكذلك فَقَد شريكة حياته وحامية ظهره السيدة خديجة التي كانت له السند والعون على تحمُّل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية، فكلاهما مات قبيل حادثة الإسراء والمعراج؛ ولذا سمي هذا العام "عام الحزن"[1]. ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد بهذه المعجزة العظيمة؛ تطييبًا لخاطره وتسرية له عن أحزانه وآلامه... ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد.
ثانيًا: ولما كان الإسراء وكذلك المعراج خرقًا لأمور طبيعيَّة ألفها الناس، فقد كانوا يذهبون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في شهر، لكنه -أي: رسول الله ذهب وعاد وعرج به إلى السموات العلا، وكل هذا وذاك في جزء... فكان هذا شيئًا مذهلاً، أي أنه كان امتحانًا واختبارًا للناس جميعًا، وخاصة الذين آمنوا بالرسالة الجديدة، فصدَّق أقوياء الإيمان وكذَّب ضعاف الإيمان. وهكذا تكون صفوف المسلمين نظيفة، ويكون المسلمون الذين يُعِدُّهم الله للهجرة أشخاصًا أتقياء أقوياء، لهم عزائم متينة وإرادة صلبة؛ لأن الهجرة تحتاج لأناس تتوفر لديهم هذه الصفات.
ثالثًا: لقد كان الصعود من بيت المقدس ولم يكن من مكة، ذا دلالات، إحداها الأمر بنشر الإسلام وتوسعة إطاره؛ وذلك لأنه الدين الخاتم الشامل الجامع الذي ارتضاه الله للناس كافة على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وشعوبهم، ولغاتهم.
رابعًا: يعتبر فرض الصلاة بهيئتها المعروفة وعددها وأوقاتها اليوميَّة المعروفة على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، ويبث إليه ما يرنو إليه. فالصلاة إذن عماد الدين؛ من تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه.
ونشير إلى أنه لا نستطيع إحصاء ما للإسراء والمعراج من حكم وفضائل، وإنما سقنا ما أفاء الله به علينا، وعرضناه بإيجاز.
والإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي جرت في الإسلام، ولنا نحن المسلمين دروس وعبر نستنبطها من تلك المعجزة العظيمة أهمها:
الدرس الأول: الاطلاع على قدرة الله I:
إن القدرة الإلهية التي خلقت هذا الكون الكبير، لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء، وإعادته إلى الأرض، في رحلة ربانية معجزة لا يدري كيفيتها بشر؛ فالإسراء: آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر؛ ولهذا فقد أثار كفار قريش حوله جدلاً طويلاً، وتساؤلات كثيرة. ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن الله تعالى واضع نظام هذا الكون وقوانينه، وأن من وضع قوانين التنفس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة وغير ذلك، قادر على استبدالها بغيرها عندما يريد ذلك.
الدرس الثاني: الاطلاع على بدائع صنع الله:
عندما يطلع الإنسان على عظمة الله سبحانه، ويدرك بديع صنعه، وعظيم قدرته، يثق بنفسه ودينه ويطمئن إلى أنه بإيمانه يكون قد لجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح، ولا يريد له إلا الخير، قادر على كل شيء، ومحيط بكل الموجودات.
الدرس الثالث: الإسراء والمعراج معجزة عظيمة من معجزاته :
لقد أكرم الله نبيه محمدًا برحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، فقد شاهد من آيات ربه ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا عن طريق العون الإلهي، ووصل إلى مستوى يسمع فيه كلام الله تعالى الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر، فقد منحه الله في هذه الرحلة عطاءً روحيًّا عظيمًا؛ تثبيتًا لفؤاده، ليتمكن من إتمام مسيرته في دعوة الناس إلى طريق الحق والهداية.
الدرس الرابع: التأييد الإلهي:
في صباح تلك الليلة المباركة أخبر الرسول أم هانئ بما حدث له في هذه الليلة، فتوجهت إليه بالرجاء أن لا يحدِّث بذلك أحدًا؛ حرصًا عليه أن تناله ألسنة أهل مكة بسوء، وهي تعلم عنادهم، وأنهم لن يتركوا فرصة للتشهير به إلا انتهزوها. ولكن رسول الله أَبَى إلا أن يصدع بالحق؛ لأنه صاحب دعوة ومأمور بالتبليغ، وليس من طبيعة دعوة الحق أن ترضى بالحصار أو تستكين للتعتيم عليها.
ولما أخبر الرسول قومه بخبر الإسراء، كذَّبوه وشككوا في قوله، وتحدوه أن يثبت صدقه إن كان صادقًا، وراحوا يسألونه: صِفْ لنا بيت المقدس. قال : "دخلت فيه ليلاً وخرجت منه ليلاً". وحينئذٍ أتاه جبريل بصورته، فجعل ينظر إليه ويخبرهم؛ فعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ"[2]. وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه، فقد أُحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أُحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز[3].
الدرس الخامس: فضل وأهمية الصلاة:
لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، فأصبحت الركن الثاني من أركان الإسلام، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض، وأصبحت قُرَّة عين النبي ؛ فعن أنس t قال: قال رسول الله : "... وجُعِل قُرَّة عيني في الصلاة"[4]. وكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، فعن حذيفة قال: "كان النبي إذا حزبه أمر صَلَّى"[5].
وكتب عمر بن الخطاب t إلى عُمَّاله فقال: "إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع"[6]. وفي هذا حض على الاهتمام بأمر الصلاة وتخصيصها بمزية من المراعاة؛ لأنها إن قُبلت منه نُظر في سائر أعماله ونفعه ما عمل من غير ذلك من أعمال البر، وإن لم تُقبل لم ينفعه شيء من عمله ولم يُنظر له فيه[7].
الدرس السادس: فضل ومكانة سيدنا محمد :
حيث صعد به رب العزة والجلالة إلى مكان عظيم لم يبلغه أحد من البشر قبله ، حيث عرج به إلى السموات السبع، وتخطاهن حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وكلَّمه رب العزة والجلالة.
الدرس السابع: شجاعة الرسول :
ويتضح ذلك عندما أخبر قريشا أنه أُسري به إلى بيت المقدس وعاد في نفس الليلة، ولم يتأخر ولم يتردد مع علمه بعناد كفار قريش، وعدم تصديقه في هذا الأمر العظيم حيث لا يمكن تخيل أن يتمكن بشر من الذهاب إلى بيت المقدس والعودة في نفس الليلة فيما كانوا يستغرقون في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب وشهرًا للعودة.
الدرس الثامن: عموم رسالته :
لقد ثبت في الروايات المتعددة أن رسول الله صلى بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد ، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها سيدنا رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
الدرس التاسع: الاستفادة من الخبرات السابقة:
ويتضح لنا ذلك من خلال استجابة سيدنا رسول الله لنبي الله موسى بالمراجعة في أمر الصلوات: "... وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ".
الدرس العاشر: الإسلام دين الهداية والفطرة:
من أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل u قال له عندما أخذ اللبن: "هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"[8]. قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة[9]. وفي رواية: "هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ"[10].
إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
الدرس الحادي عشر: تعليم سيدنا محمد بالمشاهدة والنظر:
وذلك ليكون درسًا عمليًّا يتعلم فيه الرسول بالمشاهدة والنظر، ولقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيُّل، فأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حُبس عنا الكثير من العلم، وما أوتينا منه إلا قليلاً، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. والله قد أعطى كل نوع من مخلوقاته علومًا تتوافق مع استعداده وفطرته، ومهمته في هذا الكون.
الدرس الثاني عشر: أصل الدين واحد هو التوحيد:
إن أنبياء الله ورسله بعثهم الله إلى خلقه ليعرفوهم بالله، وكيف يعبدونه؛ ليُعلموهم أن الله وحدح هو المستحق للعبادة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وهذا يعني أن رسالة الأنبياء واحدة، وأنهم جميعًا إخوة، وقد أكَّد رسول الله هذه الحقيقة في مناسبات عدة، منها: قوله عن نبي الله يونس "أخي كان نبيًّا، وأنا نبي"[11].
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله : "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ"[12]. والعَلات بفتح المهملة: الضرائر. وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه عَلَّ منها. والعلل: الشُّرب بعد الشرب. وأولاد العلات: الإخوة من الأب[13]. أي أن شرائعهم متعددة، وأصل الدين واحد هو التوحيد. وجاءت ليلة الإسراء والمعراج تؤكد المعنى السابق، فوجدنا أن العبارة التي رددها الأنبياء عليهم السلام ترحيبًا بسيدنا محمد حين استقبلوه في السموات العُلا هي: "مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ"[14].
نسأل الله أن يرزقنا حسن الاقتداء بنبينا محمد ، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة منار الإسلام العدد التاسع