جاءت غزوة بدر, وقد مضى على إسلام سعد بن معاذ حوالي سنتين أو ثلاثة, وكانت غزوة بدر خارج المدينة والعهد الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار في بيعة العقبة كان على أن يقوم الأنصار بحماية النبي صلى الله عليه وسلم داخل المدينة, فوقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل المعركة, وقال لهم أن عددهم ثلاثمائة وأن الكفار عددهم ألف, وأن المسلمين ليس معهم إلا فرس واحد والكفار معهم ثلاثمائة فرس, فموازين القوة كانت لصالح الكفار بسبة مائة بالمائة, فالأمر صعب والمواجهة صعبة, ومن الممكن أن يموت الجميع..
فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أشيروا علي أيها الناس"..
فقام أبو بكر الصديق وقال:"توكل على الله يا رسول الله ونحن معك", هذا الكلام ليس بالسهل, ولا يقول هذا الكلام في مثل هذا الموقف إلا من كان قلبه حديديا, ولا يكون صاحب قلب حديدي إلا المؤمن..
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"جزاك الله عنا خيرا يا أبا بكر..اجلس"..
كان من عادة الصحابة أنه إذا تكلم أحد في أمر ما وهم يوافقون على الأمر ولم يتكلم أحدهم فهذا يعني أن الأمر منتهي..
فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أشيروا علي أيها الناس"..
فقام عمر بن الخطاب فقال:"امض يا رسول الله فنحن معك"..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"جزاك الله خيرا يا عمر"..
وقال مرة أخرى:"أشيروا علي أيها الناس"..
فقام المقداد بن عمرو وقال:"امض يا رسول الله, فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى(..فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"الآية24 من سورة المائدة..
والحقيقة أن الرجولة شيء جميل جدا, فعندما يكون الإسلام غاليا نحن أيضا نغلى معه..
فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على المقداد وقال:"جزاك الله خيرا يا مقداد"..
وعاود النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أشيروا علي أيها الناس"..
فماذا كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم, وقد رد عليه كل هؤلاء, وهو لن يقوم بسؤال الناس فردا فردا, فعن من كان يبحث النبي صلى الله عليه وسلم؟..
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن الأنصار, فالثلاثة الذين قاموا كانوا من المهاجرين, وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن المهاجرين سينفذون أوامره, لكنه يريد أن يرى ماذا سيكون من أمر الأنصار..
والحقيقة أننا نستطيع أن نرى من هذا الموقف مدى احترام النبي صلى الله عليه وسلم للرأي, فالعهد الذي كان بينه وبين الأنصار على حمايته داخل المدينة وليس خارجها, فهو صلى الله عليه وسلم لن يقول لهم هيا لنقاتل فيطيعوه فحسب, بل يحترم آراءهم, فكان قوله صلى الله عليه وسلم:"أشيروا علي أيها الناس"..
فيقف سعد بن معاذ, وانتبهوا يا جماعة فمواقف في حياتكم تنقلكم إلى أعلى عليين أو أسفل سافلين, وبالمناسبة فالمواقف التي سنرويها عن سيدنا سعد بن معاذ لن تتعدى الأربع أو الخمس مواقف كان أولها ما تم ذكره منذ قليل أما الموقف الثاني, فكما قلنا...
يقف سعد بن معاذ رضي الله عنه ويقول:"كأنك تريدنا يا رسول الله"..
قال:"نعم يا سعد"..
قال:"يا رسول الله..
لقد أعطيناك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك..
فامض يا رسول الله..
فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد..
وخذ من أموالنا ما شئت, واترك لنا ما شئت, ويكون الذي أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت..
وسالم من شئت..
وعادي من شئت..
وصل حبال من شئت..
واقطع حبال من شئت..
فوالله لتجدننا صُبر في الحرب, صُدق عند اللقاء 39:30
لعل الله يريك منا ما تقر به عينك"..
فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أبشروا فإن الله وعدني إحدى الحسنيين"..
يا جماعة..إن هذا الكلام يكتب بماء الذهب...
قارنوا هذه الكلمات بشاب يسهر كل ليلة في مكان ما يشرب الخمر!..
أو بشاب يقوم بفعل بعض الحركات المتهورة بسيارته(خمسات) كي يتباهى أمام البنات!..
أو بشاب كل أمنية حياته أن يصاحب إحدى البنات!..
ياه! هل رأينا كيف اختلف حال الأمة؟!..
ومن أجل ذلك فمن الطبيعي أن تصل إلى هذه الحال التي وصلنا إليها, مادمنا قد ابتعدنا عن هذه النماذج..
يا جماعة..نحن نحكي في سلسلتنا هذه القصص لكي يكون هدفنا هو أن نقلد هؤلاء العظام..
لماذا؟..
لأننا أحفادهم..
ولماذا لا يخرج منا من هو مثل سعد بن معاذ رضي الله عنه..لماذا؟!!..
أما الأحزاب..
فدعاء فإجابة..دعاء فإجابة. .دعاء فإجابة!..
وتمضي الأيام...
وتأتي غزوة الخندق, ويحاصر الملسمين داخل المدينة عشرة آلاف رجل, ويبدأ القلق والرعب"..وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"الأحزاب:10, فالحالة المعنوية للمسلمين كانت متعبة جدا, وكانوا خائفين, فقد كان الوضع صعبا, حتى أن الصحابة كانوا يخشون أن يذهبوا لقضاء حوائجهم من شدة الرعب من هذا الحصار الرهيب.
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفك الحصار عن المدينة, وقد كان هناك الكثير من القبائل التي تحاصرهم, ففكر النبي صلى الله عليه وسلم في استمالة قبيلة من القبائلو وكانت عطفان, فكانت الفكرة أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة ويمضوا ويتركوا الحصار, فهذا سيؤدي إلى خلخلة الأحزاب المحاصرة للمدينة.
أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستشير في هذا الأمر, فاستشار سعد بن معاذ رضي الله عنه..
فقال:"يا سعد إني أريد أن أصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة, على أن يرجعوا, فماذا ترى؟"..
قال:"يا رسول الله أهذا أمر أمرك به الله, أم أمر تصنعه لنا"..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بل أمر أصنعه لكم"..
فقال:"لا يا رسول الله..والله في الجاهلية ما كانوا يطمعون في ثمرة من ثمار المدينة, وكنا كفار..أيوم أن أعزنا الله بالإسلام يأخذون ثلث ثمار المدينة بغير ثمن!..
نبقى يا رسول الله, وندافع على المدينة, ولا نخرج ثمرة من حقوقنا"..
فقال النبي:"الرأي ما ترى يا سعد"..
هل رأينا كيف كانت كل مواقفه!..
قلت لكم أنها مواقف قليلة..ولكن كل موقف يعادل ما نفعل نحن في عشرة أعوام!, وربما نحتاج لعشر سنوات تمر علينا كي نجد فيها من هو منا له موقف عظيم كموقف سعد بن معاذ..
فقد كان كله رجولة وعز للإسلام..إسلام يملأ كيانه..
وتبدأ عزوة الخندق, والأمور لا تزال غير واضحة..
سعد بن معاذ في هذه الأيام في كان في السابعة والثلاثين..
ودعا سيدنا سعد وقال:"اللهم إن كنت قد أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني, فإنه ما من قوم أحب إلى أن أجاهدهم من قوم آذوا نبيك وكذبوه وطردوه,
وإن كنت يا رب قد وضعت الحرب بيننا وبين قريش فاقبضني شهيدا"!..
فحياته أو موته عنده على ارتباط بنصرة الإسلام وبوضعه..
وبعد أن دعا بهذا الدعاء..إذا بسهم غادر من عند الكفار يلقى ليستقر في كتف سعد!..
ما هذا؟!!...
لقد كانت العلاقة بين سعد بن معاذ وربه على شكل دعاء وإجابة, فما أن دعا حتى استجيب له, واستقر السهم في كتفه, وبدأ الدم ينزف..
ولكن سعدا قام بإخفاء الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, حتى لا يترك أرض المعركة, ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم علم ما حدث..
واستمر الجرح في النزف, ولم تنجحوا في علاجه, فقاموا بكي الجرح, فتوقفت الدماء, إلا أن الجرح انتفخ, ثم عاد ينزف مرة أخرى..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"احملوا سعد إلى خيمة يمرض بها, وليمرض في مسجدي, في الروضة", فالنبي صلى الله عليه وسلم يريده أن يكون بجواره..
ولكن من الذي مرض سعد؟!..
لقد مرضته السيدة رفيدة..أشهر طبيبة في المدينة..
امرأة..نعم امرأة..
فهل كان من سيدات المدينة من تعمل طبيبة؟!..نعم..
لقد ألف فيها حسان بن ثابت شعرا من شدة حنانها على المرضى..
وهذه نقطة هامة للنساء..
وتوضع الخيمة بالفعل في مسجد رسول الله سبحانه وتعالى, وتبدأ السيدة رفيدة رضي الله عنها في مداواة سعد بن معاذ رضي الله عنه..
ويكرر سعد الدعاء:" اللهم إن كنت قد أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني, وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فأمتني شهيدا"..
ويبدأ يهود بنو قريظة في خيانة العهد, فتتفق مع قريش أن يفتحوا لهم طريقا في جنوب المدينة, كي يدخلوا ويقتلوا المسلمين, و أيضا يشاركوا معهم ويأسروا نساء المسلمين, فقد كانت الخيانة شديدة, والغدر شديد..
ويكثر سعد من دعوته:" اللهم إن كنت قد أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني, وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فأمتني شهيدا, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة"..
بداية النهاية...
وتبدأ الرياح الشديدة في الهبوب, وتبدأ الأحزاب في الفرار, ويبدوا أن المعركة قد أوشكت على الانتهاء.. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الآن نغزوهم ولا يغزونا", فهذا يعني أن قريشا لن تحارب المسلمين مرة أخرى..
فيقول سعد:"يا رب..فجرها يا رب"..فانفجرت بالدماء!..
ما هذا الرجل؟!!
فبالفعل فقد دعا الله سبحانه وتعالى, والمعركة قد انتهت, وكان النصر للمسلمين, والكفار لن يحاربوا المسلمين مرة أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم..
ولكن بعد أن انفجرت الجرح بالدماء تذكر سعد أنه لم يشف صدره من بني قريظة بعد فقال:"يا رب أبقني حتى تشفي صدري من بني قريظة", فجف الجرح..
إن كل من يحدث ما سعد يدل على شيء واحد..يدل على حب شديد وغيرة شديدة وتعلق شديد بالسلام, فهو يعشق الإسلام, وهذا هو الفرق بين سعد وبيننا, فنحن لا نعلم كيف هي صلاته أو كيف كانت عبادته, ولكنن نعلم مدى حبه لدينه وغيره عليه..
وقام النبي صلى الله عليه وسلم بمحاصرة بني قريظة..الخائنين..الذين كادوا أن يبيدوا الإسلام والمسلمين بخيانتهم, وقد حاصرهم المسلمون في حصونهم المنيعة, والتي لا يستطيع المسلمين اختراقها, فيقف سيدنا علي بن أبي طالب ويقول:"والله لأخترقن حصونهم, أو يصيبني ما أصاب حمزة"عمه..
وبدأ اليهود يشعرون بصدق علي رضي الله عنه, ويشعرون أنهم سيزلزلون, فيروا أن يرضوا بالتحكيم, فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"فمن ترضون أن يحكم فيكم؟"..
فقالوا:"سعد بن معاذ"..
ولكن لماذا سعد بن معاذ؟
أولا هم لم يكونوا على علم بدعاء سعد الذي دعاه..
وثانيا فسعد بن معا ذ كان حليفهم في الجاهلية, فظنوا أن الحب الذي كان بينهم لسنين طويلة لا يمكن أن يضيع, وخاصة أن مدة إسلامه لم تزد عن سبع سنوات, فلابد أنه سيؤثرهم على النبي صلى الله عليه وسلم, أو على الأقل سيكون أقل الناس شدة عليهم..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ائتوا بسعد بن معاذ"..
ويجيء سعد بجرحه على بغلة ويساق إلى حيث بني قريظة كي يحكم فيهم, وقد كان الناس خائفين أن يحن سعد لليهود, فيمسكوا بخطام بغلته ويسألوه ماذا ستفعل يا سعد, وسعد رافع رأسه ويقول كلمة واحدة وهو في السابعة والثلاثين من عمره يا شباب:"آمل سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم"..
ويصل سعد, ويقول:"أترضون بحكمي؟"..
قالوا:"نرضى"..
فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"أترضى يا رسول الله بحكمي"..
قال صلى الله عليه وسلم:"نعم يا سعد"..
فقال:"أحكم فيهم..
بأن يقتل الرجال..
وتؤخذ الأموال..
وتقسم الديار بين المهاجرين دون الأنصار..
وتسبى النساء"..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"!..
ياه ألهذه الدرجة يا سعد!..
ويُقتل بنو قريظة..اليهود الذين خانوا العهد..
ويقف سعد بن معاذ يقول:"يا رب..أوقفت الحرب بيننا وبين قريش, وشفيت صدري من بني قريظة..فلم الحمد..اللهم فجرها"..
فانفجر الجرح, ويسقط رضي الله عنه شهيدا..
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" مات سعد بن معاذ فاهتز لموته عرش الرحمن"..
ترى هل شعرتم بهذه الجملة الآن؟!!
ويقول صلى الله عليه وسلم عنه:"جنازة سعد شيعها سبعون ألف ملك"..
ويقول صلى الله عليه وسلم:"حملته معكم الملائكة"..
ويقول صلى الله عليه وسلم:" للقبر ضمة لو نجا منها أحد لكان سعد بن معاذ"..
ويقول صلى الله عليه وسلم لأمه:"جففي دمعك فإن الله يضحك لابنك الآن"..
مناديل سعد..
وتمر الأيام, وبعد سنين سنين طويلة يأسر المسلمون قائدا من قادة الروم, ويأتي بعباءته المزركشة بالحرير والذهب, فينظر الصحابة إلى هذه العباءة الأنيقة جدا التي لم يروا مثلها, فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أتعجبكم؟ والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذه"..
المنديل الذي يمسح به الوجه أفضل من هذه العباءة..
هذا هو سعد بن معاذ..
وإنها لخسارة أن أجيال المسلمين لا يعرفونه!!
وإنها لخسارة أن يكون هناك شباب وبنات لا يغارون على دينهم!!
وأنه ليس أغلى من أن يصاحب شاب فتاة, أو أن يذهب أحد إلى مكان محرم الذهاب إليه, أو فعل أحد المحرمات!!
أتمنى أن نتعلق بسعد بن معاذ..
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم..