وهو ما قَصَّهُ الوحي في آي قد أحكم ، فـ : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وذلك مما يجري مجرى المبالغة بالقصر ، القصر بالنفي والاستثناء ، وهو الأقوى ، وذلك ، من وجه آخر ، مِمَّا يجري مجرى الْقَلْبِ ، قَلْبِ اعتقادِ المتكلم الذي غلا في المسيح ، عليه السلام ، فَصَيَّرَهُ ، في قول ، الإله ، إذ قد حل بلاهوته الأعلى في الناسوت الأدنى ، مع ما تقدم في مواضع من مخالفة ذلك لما استقر ضرورة في الوجدان ، فَثَمَّ من فطرة الضرورة التي استقرت في النفوس كافة ، أن الخالق ، جل وعلا ، يُغَايِرُ المخلوق ، فالمخلوق جائز يحتمل ، وإن كان ثم تقدير أول قبل الإيجاد والتكوين المصدِّق في الخارج ، فالتقدير ، وإن ثَبَتَ مِنْهُ شَيْءٌ ، وهو وصف المقدِّر ، فالتقدير من علمه الذي يسبق ما يكون في الخارج من وجود زائد يجاوز الوجود العلمي الأول ، إذ لم يخرج التقدير به عن حد العدم ، فهو وصف لآخر هو المقدِّر ، لا المقدور ، فالتقدير الذي تَقَدَّمَ قَبْلَ تَالٍ من التكوين يصدق ، ذلك التقدير ليس وصف المقدور ، ولكنه وصف المقدِّر ، فليس ثم من المقدور شيء في الخارج ، وإن كان ثم تقدير أول هو الكائن ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تأويله في الخارج ، فلا زَالَ على قَيْدِ الجائز الذي يحتمل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى موجِب موجِد أول ، له من وصف الوجود : الوصفُ الذَّاتِيُّ الَّذِي لَا يُعَلَّلُ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ ، يُوجِدُ أو يُكْمِلُ ، وإنما يكون من أفعاله في الخارج آثار كمال أول قد ثَبَتَ ضرورةً في الأزل ، فَلَهُ من ذلك وصف القدم المطلق ، وما الأفعال التي تحدث آحادها إلا آثار هي تَأْوِيلُ كَمَالِهِ الأول الذي أُطْلِقَ ، فَهُوَ العام المستغرِق لوجوه المعنى وآحاده ، وهي ما يَثْبُتُ بِالسَّمْعِ ، فمداره التوقيف ، وإن دل عليه العقل المصرح في مواضع ، كما أفعال الخلق والرَّزق والتدبير ، وهو ما تَنَاوَلَهُ أصل جامع قد اصطلح النظار أنه دليل الاختراع والعناية ، فَثَمَّ من الْبَدْعِ لَا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، وهو ما استوجب رَدَّهُ إلى قديم أول ، له من ذلك وصفٌ يُطْلَقُ ، فهو الأول فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وإلا كان الممتنع في القياس المصرَّح أن يكون ثَمَّ تَسَلْسُلٌ في المؤثِّرين أَزَلًا ، فذلك ما يُفْضِي إلى القول بالعدمِ ، فَلَمَّا تَنْتَهِ الأسباب بَعْدُ إلى سبب أول لا سَبَبَ قَبْلَهُ ، فكان من التَّسَلْسُلِ ما يَعْدِلُ فِي الحدِّ : العدم ، فلا يكون من الوجود بَعْدًا مَا يَثْبُتُ إِلَّا أن يكون ثم أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَيْسَ يَفْتَقِرُ إلى سَبَبٍ يسبق ، بل وجوده الأول : الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الإيجاب ما به يُرَجِّحُ ، لا بالذات ، كما قال من قال بالإيجاب الذاتي ، بل إيجاب الخالق الأول ، جل وعلا ، إيجاب بِفِعْلٍ قَدْ قَامَ بِذَاتِهِ ، فهو الوصف الذي يقوم بالموصوف ، فالموصوف فاعل بوصف الفعل ، لا بذات مجرَّدة من الوصف ، وهي ما اصْطَلَحَتِ الحكمة الأولى أَنَّهُ الْعِلَّةُ الفاعلةُ بالطبع ، فكان من الإيجاب : وصفُ فِعْلٍ يُنَاطُ بآحادٍ من المشيئة تَنْفُذُ ، فهو يُرَجِّحُ في جائزٍ من المقدور أول ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ العدمِ إلى وجود تال في الخارج يُصَدِّقُ ، لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك دليل الاختراع آنف الذكر ، وثم آخر من العناية بما يكون من رَزْقٍ وَتَدْبِيرٍ ..... إلخ ، فذلك ، أيضا ، مما قَدُمَ نَوْعُهُ ، فآحاده بَعْدًا في الخارج تصدق ما كان من تقدير أول في العلم المحيط المستغرق .
فَثَمَّ من وصف الفعل ما هو واجب قد ثَبَتَ بالعقل المصرح ، كما دليل الإيجاد الذي لا يحدث إلا أن يَصْدُرَ عَنْ أَوَّلٍ له من وصف الأولية ما يُطْلَقُ ، فَهُوَ وَاجِبُ الوجودِ الأوَّلِ ، وذلك وصفُ ذَاتِهِ الَّذِي لَا يُعَلَّلُ ، وهو الموجِب الموجِد الذي يُرَجِّحُ في الخارج ، فيكون من ذلك إيجاد أول ، وَثَمَّ من دليل الإتقان والإحكام ما يَحْكِي من الإرادة ما به التَّخْصِيصُ وَالتَّرْجِيحُ ، وهو ما يُرَدُّ إلى علم أول قد استغرق ، فَثَمَّ من ذلك ، أيضا ، وصف الذات الذي لا يعلل ، وثم من وصف الفعل بَعْدًا ما يُوجِبُ وَيُوجِدُ ، وبه إخراج المقدور من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى فعل تال في الخارج يصدق ، فيكون من المرجح : آحاد مشيئة تَنْفُذُ ، ولها ، كما تقدم في موضع ، وصف أول يقدم ، فذلك النوع ، والآحاد له بعدا في الخارج تصدق بما كان من تأويل ينصح ، فتأويل المقدور الذي ثبت في الأزل ما يكون بعدا في الخارج ، من وجود بالفعل ، فَثَمَّ من الوجود الأول : وجود العلم المحيط المستغرق ، فليس ذلك وصف المقدور ، فإنه لما يَزَلْ عَلَى قَيْدِ المعدومِ ، وإن كان ثم تقدير أول ، فهو لِلْوُجُودِ في الخارج يَسْبِقٌ ، فَتَقْدِيرٌ ثُمَّ إيجادٌ يُصَدِّقُ ما كان من تقدير أول ، وهو ما تَنَاوَلَهُ العلمُ المحيطُ المستغرقُ الَّذِي تَنَاوَلَ المعلومات كَافَّةً ، الدينية والكونية ، الواجبة والجائزة بل والممتنعة المحالة لذاتها ، ولو الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فذلك العلم الذي يجرده الذهن ، عَامًّا لا أعم منه ، ذلك العلم هو المحفوظ الذي لا يُخَصَّصُ ، ولو بالعقلِ ، إذ تَنَاوَلَ أجزاءَ القسمةِ كَافَّةً ، الواجب والجائز والممتنع ، على التفصيل آنف الذكر ، فذلك ما قَدُمَ وَصْفَ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، فَعِلْمُ اللهِ ، جل وعلا ، قديم لم يحدث من العدم ، ولم تحدث آحاد منه بعد أن لم تكن ، وإنما يحدث من آحاد المقدورات ما به تأويل العلم الأول الذي تَنَاوَلَهَا فَهُوَ المفصَّل ، فَلَيْسَ العلم الكلي المجمل ، كما اقترحت الحكمة الأولى ، فذلك إلى التعطيل أَقْرَبُ ، إذ تُنْكِرُ العلم الجزئي المفصل الذي استغرق آحاد المقدورات كافة ، فَثَمَّ من العلم بالجزئيات ما أحاط ، وهو مدلول "كل" في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فذلك نص في العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول ، فَيَحْدُثُ من آحاد المقدورات في الخارج ما يصدق فيه أنه الموجود بعد عدم ، وإن كان ثم تقدير في الأزل ، فهو وصف المقدِّر لا المقدور ، فحصل من ذلك إيجاب في جائز أول ، فالإيجاب المرجِّح وصف أول يقدم ، وله من ذلك أولية تُطْلَقُ ، إذ التَّسَلْسُلُ في التأثيرِ لا يمتنع ، بل هو إلى الإيجاب أقرب ، فذلك وصف الموجِب الموجِد الأول ، وهو الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فذلك مما قَدُمَ فِي الأزلِ نَوْعًا ، وإن كان ثم آحاد بَعْدًا تحدث ، فلا يقال إن التأثير بالترجيح في الجائز قد حدث بعد أن لم يكن ، فكان الخالق المهيمن ، جل وعلا ، غير قادر أن يخلق خلق الإيجاد المصدق لما كان من خلق تقدير أول ، ثم صار قادرا بعد أن لم يكن ، فذلك ، بداهة ، مما لا يصح في حَقِّ من له الوجود الواجب أزلا ، وجود الكمال المطلق ، فليس يعجز ثم يقدر ، بل هو القادر الأول ، وذلك وصف القوة ، وَثَمَّ مِنْ آحادِ الْفِعْلِ بَعْدًا ما يُصَدِّقُ بما كان من مشيئة تُرَجِّحُ ، فهي تخرج الفعل من القوة إلى الفعل ، لا أنها توجده من العدم ، فيكون قادرا بعد عجز ، فذلك ما امتنع ضرورةً في حق الخالق الأول ، جل وعلا ، فَلَمْ يَسْتَفِدْ كمالا لم يكن ، وإنما آحاد الأفعال تُظْهِرُ ما كان من كمال أول ، وهو الكمال المطلق ، فَالتَّسَلْسُلُ في التأثيرِ مما جَازَ في الأزلِ ، بل وَوَجَبَ ، إذ به إِثْبَاتُ الأوليةِ المطلقة ، أولية الكمال الذي حَصَلَ في الأزل ، وَإِنْ نَوْعًا يَقْدُمُ فَهُوَ يَطْلُبُ بَعْدًا من الآحاد ما يُظْهِرُ ، فَلَيْسَتْ مما يُثْبِتُ ما لم يكن ، وإنما تظهر ما كَانَ وَوُجِدَ أَوَّلًا وجودَ الكمال المطلق ، فما آحاد الأفعال المحدَثة إلا دَلِيلٌ لَهُ يُصَدِّقُ ، فليست آحاد الأفعال الإلهية بِمُثْبِتَةٍ ما لم يكن أولا من الوصف ، بل تلك حالُ المخلوق لا الخالق ، جل وعلا ، فالمخلوق يُوجَدُ من العدم ، فَثَمَّ من الوجود ما يكون بعد أن لم يكن ، وإن كان ثم تقدير أول قد ثَبَتَ في الأزل ، فهو ، كما تقدم ، وصف الخالق المهيمن ، جل وعلا ، لا وصف المخلوق المحدث ، فهو الموجود بعد العدم ، الكامل بعد نقص ، فيكون من آحاد فعله ما به يكمل ، لا كما آحادٍ من فعل الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فهي مما لكماله المطلق تُظْهِرُ ، فيكون منها تأويل في الخارج يُصَدِّقُ مَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الوصفِ الأوَّلِ ، فهو القديم ، وإنما تحدث الآحاد المصدِّقة المظهرِة لَهُ ، فلم يكن بها إثبات وصف أو فعل لم يكن ، فَيَقْدِرُ بَعْدَ أَنْ عَجَزَ ، ويفعل مَرَّةً فُيْخْطِئُ ، ثم يستفيد من ذلك عِلْمًا بِمَا قَدْ جهل ، فَيَفْعَلُ أُخْرَى ، وَلَا يَزَالُ يَعْلَمُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ما لم يكن ، فذلك ، بداهة ، مما تَنَزَّهَ عنه الخالق المهيمن ، جل وعلا ، إذ ثم من علمه الأول المحيط ما استغرق المعلومات كافة ، على التفصيل آنف الذكر ، فهو القادر أَنْ يَخْلُقَ وإن لم يكن ثم مخلوق به تأويل الوصف ، أن يكون من آحادِه في الخارج ما يُصَدِّقُ ، وهو القادر أَنْ يَرْزُقَ وَيُدَبِّرَ ...... إلخ ، فكل ذلك ما ثَبَتَ فِي الأزلِ ، فالتسلسل في التأثير ، من هذا الوجه ، واجب ، إذ به إثبات الوصف الكامل في الأزل ، ومنه وصف الفعل الذي قَدُمَ نَوْعُهُ ثم كان من الآحاد بعدا ما يُصَدِّقُ ، ومن آثارها في الخارج ما يَشْهَدُ ، فإن المحدَث لا بد له من محدِث أول ، وهو ، أيضا ، مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول هو المحدِث فلا محدِث قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك أوليةٌ تُطْلَقُ ، فَالتَّسَلْسُلُ فِي المؤثرين أزلا يمتنع ، لا التسلسل في التأثير ، تأثير الأول المطلق ، لا بذاته ، كما اقترحت الحكمة الأولى من علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف ، بل الخالق ، جل وعلا ، فاعل بما قام بذاته القدسية من الأوصاف الفعلية ، وهو الخالق بالعلم المقدر وإرادة بَعْدًا تُرَجِّحُ وَتُخَصِّصُ ، فهي تخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، وبها تأويل ما ثَبَتَ لدى المبدإِ من العلم المحيط المستغرق ، فذلك مما قدم نوعا ، فلم يكن الخالق ، جل وعلا ، عاجزا عنه ثم قدر ، بل هو القادر أزلا ، وإن لم يكن من آحاد الفعل بعد ما يُصَدِّقُ ، فإذا شاء كان منها في الخارج ما به تأويل لتقدير أول هو الثابت ، فالقدم في هذه الحال : قدم التقدير الأول الذي عم فَتَنَاوَلَ المقدوراتِ كافة ، وقدم النوع ، نوع الفعل الذي يخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، وقدم المشيئة التي بها الترجيح ، فآحادها في الخارج بعدا ترجح في الجائز من وصف الخالق ، جل وعلا ، فيكون من آحاده خلقا وَرَزْقًا وتدبيرا ....... إلخ ، ما يُصَدِّقُ أنواعا أولى من الوصف تقدم ، فَثَمَّ قِدَمٌ يَتَنَاوَلُ المقدورَ لَا من جهة أعيانه في الخارج ، فهي المحدَثة بعد أن لم تكن ، وإنما من جهة التقدير بالعلم المحيط المستغرِق ، وليس ذلك وصف الأعيان المخلوقة ، بل هو وصف الخالق الأول ، وهو المقدِّر القديم ، فوصفه ، أيضا ، القديم ، سواء أكان من وَصْفِ الذَّاتِ ، أم من وصفِ الفعلِ ، فالأخير منه قِدَمُ النَّوْعِ ، وإن حدثت آحاد منه بَعْدًا ، فهي تأويل لأول قد تَقَدَّمَ من النوع ، وبها ظهورُ آثارٍ لكمالٍ أول قد أُطْلِقَ ، فليست مما به الكمال يَثْبُتُ بعد أن لم يكن ، أو يكمل بَعْدَ نَقْصٍ ، بل ثم من الكمال أول قد أُطْلِقَ ، وله من أنواعِ الأفعالِ والأحكامِ ما قَدُمَ ، ولها من الآحاد بعدا ما يحدث إذ يُنَاطُ بمشيئةٍ من خارج تُرَجِّحُ ، وبها تأويل يَظْهَرُ ، لا اسْتِئْنَافٌ لكمالٍ بَعْدَ نَقْصٍ ، بل الكمال أول قد ثَبَتَ ، مُطْلَقٌ لم يحدث من العدم ، وليس من آحاده ما يَسْتَأْنِفُ زِيَادَةً ، بل هو يُبِينُ وَيُظْهِرُ ، فهو تأويل يَصْدُقُ لكمالٍ أول هو المطلق ، فما الإتقان والإحكام الذي يعالجه الحس المحدث ، ما ذلك إلا تأويل لأول قد ثَبَتَ فِي الأزل ، وهو الكمال المطلق ، ومنه كمال الفعل نَوْعًا ، فآحاده تحدث بَعْدًا بالمشيئة التي تُرَجِّحُ ، فيكون من ذلك تأويل في الخارج ، وبه الفعل المصدق لما كان أولا من قوة في الأزل تَثْبُتُ ، فتأويل القوة الأولى : آحاد من الأفعال تُصَدِّقُ ، وذلك الترجيح في الجائز ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وبه السلامة من التحكم المحض ، أن يكون الترجيح بلا مرجِّح ، فذلك مما يخالف عن بَدَائِهِ العقلِ المصرَّح ، فالمسبَّب لا بد له من سبب ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول له من ذلك وصف التأثير الأزلي ، فآحاده بَعْدًا في الخارج تحدث ، وبها تأويل المقدور أن يخرج من العدم إلى الوجود ، فَثَمَّ من ذلك وصف الفعل ، ومنه ما دل عليه العقل ضرورةً ، كما الخلق ، وآخر قد دل عليه الحس بما يُعَالِجُ من إتقانِ الخلقةِ وإحكام السنةِ ، فكل أولئك مما قَدُمَ في الأزل ، وله من الآحاد بَعْدًا ما يُرَجِّحُ بما يكون من آحادِ مشيئةٍ تَنْفُذُ ، ومن وصف الفعل ما يجوزه العقل ، مبدأ النظر ، فَلَا يُثْبِتُ ولا يَنْفِي إلا بدليلٍ من الوحي أخص ، دليل السمع ، فلا ينفك يطلب الدليل المرجِّح من خَبَرِ الوحيِ المنزل الذي يَرْفِدُ العقل ، إذ يُبِينُ عَمَّا أُجْمِلَ فيه من ضرورةِ العلمِ ، ومنه العلم بأن ثم أولا إليه الكائنات جميعا تُرَدُّ ، فَيُصَدِّقُ أَوَّلًا ، وَيُبَيِّنُ تَالِيًا ، وَيُقَوِّمُ ما اعوج من فطرة الضرورة الملجئة ، إن في الأخبار أو في الأحكام ، فَثَمَّ من الجمل الكلية ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ ، وهو ما عَمَّ الخبر والحكم ، فَلَا يَنْفَكُّ يَعْرِضُ له في مواضع ما يخالف به عن الجادة المحكمة ، فالكليُّ لا يخلو من إجمال ، ولو مرجوحا لَا يَتَبَادَرُ ، فيتناوله التأويل بما يكون من الوسواس ، وما يعرض من الحظوظ والأهواء ، فلا ينفك صاحبها يَتَأَوَّلُ لها من الدليل ما يَشْهَدُ ، وَإِنْ مَرْجُوحًا لا يظهر ، بل وآخر يَبْطُلُ وَيَبْطُنُ ، وهو ما عمت به البلوى في القديم وفي الحديث ، فكان من ذلك تأويلات الحداثة التي تخالف عن صريح الرسالة ، وهو ما يحكي نُزُوعَ الإنسان إلى الطغيان والتأله بما اغتر به من السبب المحدَث الذي حصل له بعد عدم ، وذلك في نفسه دليلٌ يُبْطِلُ دَعْوَى التَّأَلُّهِ التي تَسْتَلْزِمُ الغنى المطلق ، وهو ما ثَبَتَ أولا في الأزل ، فَحَالُ الإنسان شاهدة بضد ، فلم يحصل السبب في يده مَبْدَأَ الأمر ، بل ولم يكن لهذا الإنسان أَوَّلًا وجودٌ يَثْبُتُ ، فقد كان عدما في الخارج ، وإن كان ثم تقدير أول قَبْلَ الإيجادِ المصدِّق ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وهو ما يحكي الافتقار الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ولو إلى الموجِب الموجِد ، فهو يوجب الجائز ، ويصيره الموجود في الخارج ، فَثَمَّ من الوجود تال يصدق ، وجود الفعل الذي يصدق أولا من وجود القوة ، فذلك الافتقار الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، افتقار الجائز ، وهو أولا من المعدوم ، وإن كان له من وصف الوجود شيء ، فهو وجود القوة لا الفعل المصدِّق في الخارج ، فلا ينفك يفتقر إلى موجِب موجِد يخرجه من الجواز إلى الإيجاب ، لا الإيجاب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فذلك وصف واجب الوجود الأول ، وهو واحد لا شريك له في هذا الوصف ، وإلا كان الشرك ، إذ ثم من تعدد القدماء ما يَلْزَمُ من القول إِنَّ ثَمَّ أكثر من واجب أول ، له من وصف الوجوب ما لا يُعَلَّلُ ، فذلك مما امْتَنَعَ ضرورةً في النقل المصحَّح والعقل المصرَّح ، وإلا سُلِبَ هَذَانِ الاثْنَانِ اللذان مُنِحَا وصف الوجوب الذاتي ، سُلِبَا هذا الوصف ، فَصَارَا من الجائز ، وَوَجَبَ رَدُّهُمَا إلى أول هو الواجب ، فلا بد من واجب وجود أول ، لا شريك له في هذا الوصف ، فهو مما انْفَرَدَ به في الأزل ، وكلٌّ بَعْدُ إليه يَفْتَقِرُ ، أَنْ يُوجِدَهُ من العدم ، وَأَنْ يُقَدِّرَهُ قَبْلًا ، فَيُقَدِّرَ من الحقيقة والكيف ما يُتْقَنُ ، ويجري من السنن ما أُحْكِمَ ، إذ يُبَاشِرُ السببُ المحلَّ بما رُكِزَ في كُلٍّ من قوى ، قوى القبول في المحل وأخرى من التأثير في السبب ، فَثَمَّ الافتقار الذاتي إلى أول يقدر ، وثم آخر إلى أول يُوجِبُ وَيُوجِدُ ، فيخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى فعل تال يصدق ، وكذا الافتقار بَعْدًا إلى سبب به يَسْتَغْنِي الإنسان ، فالسبب الذي اتَّخَذَهُ ذريعةً إذ طَغَى ، فَرَامَ التَّأَلُّهَ ، ذلك السبب شاهد بضد يحكي افْتِقَارَ هذا الطاغوت الافْتِقَارَ الذَّاتِيَّ الذي لا يُعَلَّلُ ، فَافْتِقَارٌ في التقدير ، وآخر في التكوين ، وثالث في التدبير بما يُجْرَى من الأسباب ، فكلُّ أولئك أدلة تُبْطِلُ دعوى الطغيان والتأله ، فالفقير لا يكون إلها يُدَبِّرُ ، إذ يَفْتَقِرُ إلى آخر يُدَبِّرُ أمرَه ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ فِي التَّأْثِيرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى سَقْفٍ من الشهادة ليس بعده إلا الغيب ، فَثَمَّ من السبب ما غاب فلا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وليس عدم وجدانه في الخارج بالحواس دليلا على عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ، بل قد يوجد ، وليس الحس يدركه ، ولو في عالم الشهادة ، فَثَمَّ من أسبابه ما يَتَفَاوَتُ الخلق في دَرَكِهِ ، فَثَمَّ من خاصة الحيوان الأعجم ما رَجَحَ الإنسان في حواس ، كما الشم ، فهو لدى الكلب أشد ، فيدرك من الرَّوَائِحِ ما دَقَّ ، وهو الغيب في حق الإنسان إذ لم يُدْرَكْ ، فخاصة الشم عنده أضعف ، وليس له أن يَحْتَجَّ بِعَدَمِ وجدانِه الرائحةَ الَّتِي تَخْفَى وَتَدقُّ ، أنها غير موجودة بالفعل ، بل قد توجد ، وليس لها يدرك ، إذ ثم من حاسته ما حُدَّ فَلَا يجاوز الحد المقدَّر ، وثم من أخرى لدى الكلب ما جاوز ، فصارت الرائحة الخفية في حقه شهادة ، وإن كانت في حق الإنسان غَيْبًا ، فليس عدم وجدانه لها بحسه دليلا أنها عدم لم يحصل ، بل لها من الوجود في الخارج ما يَثْبُتُ ، وإن الغيبَ فليست من الشهادة في حَقِّ الإنسانِ ، فذلك الغيب النسبي الذي يُدْرِكُهُ بَعْضٌ ولا يُدْرِكُهُ آخر ، وليس لمن جهل أن يحتج بجهله على من عَلِمَ ، بل من عَلِمَ فهو الحجة على من جهل فلم يعلم ، وهو ما يَطَّرِدُ في الغيب المطلق من أسباب تَثْبُتُ ، وهي تجاوز عالم الشهادة المدرَك بالحسِّ ، ولها من الوجود في الخارج ما يَزِيدُ على وجود أول من التَّقْدِيرِ ، فَثَمَّ من الغيب ما يُطَابِقُ الشهادة في اللفظ ، طباقَ الإيجابِ الذي يستغرق شَطْرَيِ القسمة في الخارج ، فَلَيْسَ الغيبُ يطابق الوجود ، فيكون عَدَمًا ، بل من الغيب ، أيضا ، جنس عام يستغرق ، فإن منه المعدوم ، سواء أكان جائزا مبدأ الأمر ، فلا ينفك يَطْلُبُ بَعْدًا المرجِّح الذي يخرجه من العدم إلى الوجود ، وليس يَلْزَمُ من ذلك أن يخرجه من الغيب إلى الشهادة ، بل قد يكون الموجودَ بالفعل في الخارج ، وليس المشهودَ بالحس أو آلة رصد ، فَمِنَ الغيبِ جِنْسٌ عَامٌّ يَسْتَغْرِقُ ، فمنه المعدوم سواء أكان الجائز أم الممتنع المحال لذاته ، فليس الممتنع لذاته بشيء في الخارج ، وإن كان شَيْئًا يُفْرَضُ في الذهن تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم أن يُلْزَمَ بِلَازِمِ قولِه ، فمن الغيب : المعدوم ، على التفصيل آنف الذكر ، ومنه الموجود ، وإن لم يَتَنَاوَلْهُ الحس فَقَدْ يجاوز مداركه في الخارج ، سواء أكان الغيب المطلق أم آخر نِسْبِيًّا يُدْرِكُهُ بَعْضٌ دون آخر ، كما تقدم من حاسة الشم التي تَرْجُحُ لدى الكلب ، فيدرك بها ما خفي من الروائح ودق ، فليس للإنسان ، وحاسة الشم لديه أدنى ، ليس له أن يحتج بعدم وجدان الرائحة أنها ليست موجودة بالفعل ، بل قد تُوجِدُ ولا يدركها ، إما لخفائها فهي تطلب من الحاسة ما هو أعلى ، أو لضعف حاسة الشم عنده لعلة تَعْرِضُ ، فلا يحتج بذلك على ما ثَبَتَ لدى غير ، فهو غيب عنده ، مشهود عند آخر قد أَدْرَكَهُ بالحس الظاهر .
فمن الغيب مَا له وجود في الخارج يَثْبُتُ ، وإن غاب عن الحس فلم يُدْرَكْ ، إذ قوى الحواس لا تدركه ، إما مطلقا ، فهو من الغيب المطلق ، وإما نسبيا ، فهو من الغيب النسبي الذي تَتَفَاوَتُ الكائنات في دَرَكِهِ ، بل الإنسان وهو واحد في الجنس ، قد يحصل لآحاد منه ما به الغيب يَصِيرُ شهادة ، إذ يدركه بحاسة من حواسه ، سواء أكان ذلك بآلة تدق ، فكان غَيْبًا ثم شُهِدَ ، فلم يكن من الكشف بالآلة ما به إيجاد من العدم ، بل إخراج لما كان أولا قد وُجِدَ ، إخراج له من الغيب إلى الشهادة ، سواء الأعيان أم السنن والأحوال ، كما قوى قد ركزت في عناصر تدق ، فَثَمَّ من التجريب والبحث ما يتأول هذه القوى المركوزة في العناصر لدى المبدإ ، فالبحث والتجريب لم يحدث هذه القوى من عدم ، بل هي الموجودة قَبْلًا ، وإنما أبان عنها وأظهر إذ تأولها بجمع العناصر وإخضاعها لمؤثِّر من خارج ، فَاسْتَحَثَّ منها ما وُجِدَ أولا : وجود القوة لا الفعل ، فكان من ذلك ما رَجَّحَ باجتماعها في المعمل ما لا يكون حال انفرادها لدى المبدإ ، فهو تأويل لِمَا رُكِزَ فيها من القوى ، فَهُوَ لَهَا يُظْهِرُ ، وليس لها يُنْشِئُ من العدم ، فيكون من ذلك تأويل في الخارج يَصْدُقُ بما يكون من المركب من آحاد من العناصر ، فذلك المركَّب ليس الموجود من العدم ، بل هو الموجود من عناصر أولى تَسْبِقُ ، وَمِنْ سَنَنٍ عليه تجري فَهُوَ المحكَم ، ومن مُؤَثِّرٍ من خارج له تخضع ، فهو يُحَفِّزُ التفاعل في المعمل ، ومن مَانِعٍ قد وجب انْتِفَاؤُهُ إذ له من الأثر ما يمنع ، وهو ما اصطلح أهل الشأن أنه الحافز السام ، إذ يُحَفِّزُ الامتناعَ مبدأَ التفاعلِ ، أو الإيقاف بعد الشروع فيه ، أو الإبطاء منه ، فالكشف في هذا الحال يُظْهِرُ ، وليس يُنْشِئُ من الوجود ما لم يكن ، فَلَيْسَ يخلق من العدم ، وإن صدق فيه وصف الخلق ، فهو خلق يُحَوِّلُ الحقائقَ في الخارجِ من صورة إلى أخرى ، فلا يحدث من الحقائق ما لم يكن قبلا ، وإنما يَتَنَاوَلُ العناصرَ الموجودة قبل التفاعل ، فَيَتَأَوَّلُ القوى المركوزة فيها بأصل الخلقة بما يكون من الجمع بعد التفريق ، وهو ما استوجب خاصا من التأثير ، بما يكون من شَرْطٍ يُسْتَوْفَى وَمَانِعٍ يُنْفَى ، فَثَمَّ من ذلك مَحَالٌّ هي العناصر ، فبعضها يَمْنَحُ وآخر يَقْبَلُ ، أو قد يَكُونُ مِنَ التَّشَارُكِ ما يُجْزِئُ فِي بُلُوغِ كُلٍّ الغايةَ التي تطلب ، أن يكون من ذلك الاستقرار والمكث بحصول الكفاية من جسيمات تدق ، فلكلِّ عنصرٍ من ذلك مثال الكفاية فلا يَرُومُ بَعْدًا المنح أو القبول ، فقد بَلَغَ من الغاية المطلوبَ ، فَثَمَّ المحال التي تجتمع ، وهي العناصر ومنها ما يمنح ، ومنها ما يَقْبَلُ ، وثم الشرط الذي يُسْتَوْفَى من مؤَثِّر خاص يزيد ، وثم المانع الذي يُنْفَى ، وذلك المجموع المركب الذي اصْطَلَحَ النظار أنه العلة ، ولا تنفك تطلب أولى تَسْبِقُ ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ في الشهادة ثم الغيب ، إن النسبي الذي يدرك بآلة رصد تحدث ، أو المطلق ، وكلٌّ آخرَ أمرِه يَنْتَهِي ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فهو السبب الذي لا سبب له يَسْبِقُ ، فَوَصْفُهُ أَنَّهُ العلة التامة فلا تَفْتَقِرُ إلى سببٍ من خارج ، بل الأسباب كافة إليها تَفْتَقِرُ ، إذ بها تُوجَدُ وَتُدَبَّرُ على مثالٍ من التقدير قد تَقَدَّمَ ، فالتقدير يَسْبِقُ ضرورةً الإيجادَ والتدبيرَ بَعْدًا في الخارج ، فكان من ذلك محل إجماع ضروري لدى كلِّ ذِي عقلٍ يَنْصَحُ ، فإثبات الأول الذي لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، ذلك مما يجري مجرى الضرورة الملجئة ، مقدِّمَاتٍ أولى في النظر ، وهي محل الإجماع القاطع ، فلا يخالف عنها إلا مسفسِط أو جاحد ، فَثَمَّ محلُّ الإجماعِ الضروريِّ أن المسبَّب لا بد له من سبب أول ، وأن المحدَث لا بد له من محدِث يسبق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، وبه حسم ما امتنع ضرورة من التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فَثَمَّ من الأول ما يُرَجِّحُ ، فهو في المقدور يُؤَثِّرُ أَنْ يُخْرِجَهُ من العدم إلى وجود في الخارج يُصَدِّقُ ، وذلك ما يكون بوصف الفعل الذي يُرَجِّحُ ، وهو ما قام بالذات قِيَامَ الوصفِ بالموصوف ، فَثَمَّ من ذلك فعل في الأزل قد ثَبَتَ ثُبُوتَ الْقُوَّةِ ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ من آحاده في الخارج ما به تأويلُ نَوْعٍ أول يَقْدُمُ ، فوجود الفعل آحَادًا يصدق وجود القوة أَنْوَاعًا ، فيكون من آحاده ما يُؤَثِّرُ في إخراجِ المقدورِ الأول من العدم إلى وجود تال يُصَدِّقُ ، وذلك ما أوجزه الوحي في آي قد أحكم ، فكان من العموم ما لآحاد المقدوراتِ الجائزاتِ كَافَّةً قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
والشاهد أن الإنسان ، وهو واحد في الجنس ، قد يحصل لآحاد منه ما به الغيب يصير شهادة ، إذ يدركه بحاسة من حواسه ، سواء أكان ذلك بآلة تدق ، أم بخارقة تُجَاوِزُ ، فقد انكشفَ لِبَعْضٍ من الغيوب ما أُجْمِلَ ، فليس يلزم منه وصف الكمال ، بل لا بد من مرجعٍ من خارج يُجَاوِزُ ، فَهُوَ قَاضٍ فِي هذا الخارقِ قضاءَ المحكَمِ فِي المتشابِه ، فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي حَالِ من حصل له ، أعلى الجادة أم لها يخالف ؟! ، مع دعواه التي يَتَنَاوَلُ نُبُوَّةً أو كرامةً ، مع أول قد وجب استصحابه أن تكون تلك الدعوى ، مبدأ النظر ، مما يجوز ، فلا تكون من الممتنع إما لذاته وإما لسبب من خارج ، كما دعوى النبوة ، فهي ابتداء من الجائز في حَقِّ البشرِ كَافَّةً ، ولكنْ ثَمَّ سبب من خارج قد صَيَّرَهَا من المحال الممتنع ، وإن لغير ، بما كان من دليل الختم ، فـ : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ، فَمَنِ ادَّعَاهَا بَعْدًا فهو الكاذب ، كما في الخبر الصادق : "إنَّه سيكونُ في أمَّتي ثلاثونَ كذَّابًا ، كلُّهم يزعمُ أنَّه نبيٌّ ، وأنا خاتمُ النبيينَ لا نبيَّ بعدي" ، وهو ما حُمِلَ على مَنِ اشْتُهِرَ من أولئك ، وإلا فقد جَاوَزُوا الثلاثين ، والسياق ، ابتداء ، ليس بحاصر ، فلم يقل : لا يكون في أمتى إلا ثلاثون كذابا ، كما في خبر آخر لم يحصر ، فـ : "للهِ تبارَك وتعالى تِسعةٌ وتسعونَ اسمًا مَن أحصاها دخَل الجنَّةَ" ، فلم يقل : ليس لله ، جل وعلا ، إلا تسعة وتسعون اسما .
فَلَمْ يَكُنْ من ذكر ثلاثين كذابا في الخبر ما يحصر ، فلا يخلو عصر من مُدَّعٍ يَتَنَبَّأُ ، وله من الخارقة في موضع ما يفتن الجاهل الذي يصير الخارقة في نَفْسِهَا دليلَ نُبُوَّةٍ أو ولايةٍ دون نظر في الحال والدعوى ، على التفصيل آنف الذكر ، فقد كان من بَعْضٍ قد تَنَبَّأَ ، كما الحارث الدمشقي زَمَنَ عبد الملك بن مروان الأموي ، فكان الحارث من المتعبدة المتزهدة مع قلة علم وفقه يعصم إذ يميز الدعاوى ويرجح ، فعرض له من الخارقة ما فَتَنَ ، وليس إلا الوسواس الذي يُضِلُّ ، وهو ما كان لبعض كالمختار الثَّقَفِيَّ ، وهو واحد من اثنين من ثقيف قد خرجا : الكذاب والمبير ، وقد تأول له ابن عمر ، رضي الله عنهما ، آي الشعراء المحكم : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، فَعَرَضَ له من الخارقة ما فَتَنَ ، ولم يكن ثم من العلم مَا عَصَمَ ، أن يميز الدعاوى وَيُرَجِّحَ ، فتلك دعوى لدى المبدإ تمتنع ، وإن لغير بما احتف بها من قرينة من خارج ، وهي ما تقدم من ختم النبوات ، فلم يكن من خارقة في هذا الموضع إلا ما أغوى وفتن الجاهل فليس له من العلم عاصم ، بل كان من الأثر ما زَادَ الفتنة بالحارث ، أن طعنه طاعن فلم ينفذ ، فهو الممنوع من العدو الذي يَتَرَبَّصُ ، فَلَمَّا سَمَّى الطاعن فذكر اسم الرب الخالق ، جل وعلا ، كان من ذلك ما نَفَذَ ، إذ بطل الخارق الباطل بذكر اسم الخالق ، جل وعلا ، فلم يكن من الخارق ما هو دليل في نفسه ، بل لا ينفك يطلب من القرائن ما يُرَجِّحُ ، فَيُرَدُّ إلى محكم أول ، كما أُثِرَ عن بَعْضِ الْعُبَّادِ ، وقد أخذته الرقة ، فكان من مادة النور ما سَطَعَ ، وكان من المتكلم ما نطق ، أنه الخالق ، فلم يكن من العابد إلا أن استعاذ وبصق ، فاضمحل النور ، فَلَيْسَ إلا الوسواس المرجوم ، وإنما اعتصم العابد في هذا الموضع بالعلم الذي يميز الدعاوى ، صحيحها من باطلها ، وكذا ما أُثِرَ عن الجيلاني ، وهو من كبار أهل الطريق ، ممن لهم استقامة على جادة التنزيل ، فحصل له من الهاتف أن الرَّبَّ له يخاطب ، وقد أحل له ما قد حَرُمَ من الخبائث ، فكان من العلم ما نصح ، فذلك نَسْخٌ لِشَرْعٍ قَدْ ثَبَتَ ، فَأُحْكِمَ فَلَا يُنْسَخُ إِذِ انْقَطَعَ الوحي بِقَبْضِ صاحبِ الشَّرْعِ المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، مع أول في الباب يستصحب ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، فكيف يُبِيحُ الوحي الصادق ما ثَبَتَ خُبْثُهُ وَفُحْشُهُ ضرورةً ، وتحريمه مما أجمعت عليه الشرائع كافة ، فتلك أصول لا يَتَنَاوَلُهَا النسخ ابتداء ، ولو احتمالا ، فكان من العلم ما عُصِمَ به الجيلاني ، فهو المحكم الذي رَدَّ إليه ما تشابه من الخارقة المجردة ، فلا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج الذي يَقْضِي فيها باعتبار أو بإهمال ، فهي ابتداء كالمرسل الذي لا يُشْهَدُ له مبدأَ النظرِ باعتبار أو بإلغاء ، حتى يكون من الدليل ما يُرَجِّحُ ، بما تقدم من فحوى الدعوى وحال صاحبها ، فليست الخارقة دليلَ صِحَّةٍ فِي نَفْسِ الأمرِ ، بل صاحب الكرامة إذا ابْتُلِيَ بالخارقة ، فَلَا يَنْفَكُّ يَسْتَتِرُ بها فلا يُعْلِنُ ، فإن الكرامة في حقه هي لزومُ الاستقامة في عَامَّةِ شَأْنِهِ ، وقد يكون من الخارقة بعدا ما يجري مجرى الإباحة فهي تُعِينُهُ عَلَى أمرٍ من دنياه ، وذلك الأدنى ، وقد يكون منها ما يَشْرُفُ في الوصف ، فهي تُعِينُهُ على أمر دينه ، وبها يُثَبَّتُ في مواضع الفتنة ، وقد يستوجب ذلك إظهارها والتحدي بها لا انتصار لنفسه أو طلبا لمحمدة من الخلق ، وإنما انتصارا للحق ، كما كان من خالد ، رضي الله عنه ، إذ شرب السم ، فلم يضره ، أن ذكر اسْمَ رَبِّهِ ، جل علا ، في موضع تَحَدٍّ لمن جَحَدَ ، فكان من كرامة الولي ما الأصل فيه الاستتار وعدم التحدي ، وإن وقع التحدي في موضع ، فَثَمَّ من مصلحة الدين ما يُرَجِّحُ العدول عن الأصل الأول المستصحب وهو الاستتار فليس لها يظهر ، وكان من آية النبوة ، كما يقول بعض من حقق ، كان منها ضد ، فالأصل فيه التحدي ، وإن كان منها ابتداء ما لم يَتَحَدَّ به النبي ، بل كان من آيٍ في أَمْرِ دُنْيَا ما به العناية بالجمع ألا يقع في الحرج أو الجهد ، كما سأل الكليم ، عليه السلام ، الرَّبَّ ، جل وعلا ، السقيا ، وهي من أمر الدنيا ، فـ : (إِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ، وكما كان يوم الخندق من تكثير طعام جابر ، رضي الله عنه ، حتى أكل منه الناس جميعا ، وكما كان من تكثير الطعام في موضع آخر ، ونبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَكُلُّهَا من آي النبوة ، وهي ما لم يُتَحَدَّ به خَصْمٌ يَجْحَدُ ، وإنما كانت رعاية لحال الجمع ألا يقع في الحرج والجهد .
فلم يكن من حصول الخارقة في نفسه دليل يثبت دعوى ، بل وجب ابتداء النظر في الدعوى وحال صاحبها ، على التفصيل آنف الذكر .
وكذا يقال في حال الساحر ، فلا يُفْتَتَنُ من له علم يعصم بما يكون من خوارق السحرة كالإخبار بِبَعْضِ ما غُيِّبَ ، وَسِحْرُهُ في نَفْسِهِ غَيْبٌ يلطف ، وله من الفعل ما يُؤَثِّرُ ، فَتِلْكَ حقيقة في الخارج تَثْبُتُ ، وإن لم تدرك آثارها بالحس المحدَث ، فلم يكن عدم وجدان هذا الخفي اللطيف ، لم يكن عدم وجدانه دليلا على عدم وجوده بالفعل ، بل قد وُجِدَ في الخارج ، وكان من آثاره ما يضر فلا ينفع ، وإن كان من ذلك ما يَخْدَعُ بما يكون من نَفْعٍ يطرأ ، فمآله الضر والفساد ، فالآثار تظهر ، إذ : (مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ، وهي دليل على أول من الغيب يثبت بما كان من فعلِ سحرٍ يَلْطُفُ ، فالأثر المشهود بالحس يشهد لما تقدم من السبب المغيَّب ، فعنه يصدر ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مما به استدل الأعرابي المفصح بما جبل عليه من فطرة تنصح ، فاستدل بالأثر على المؤثر ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على العليم الخبير ؟! ، فذلك مما ثَبَتَ ضرورة بالقياس الصريح .
والشاهد أن الخارقة ابتداء : جنس عام يستغرق آحادا في الخارج ، فمنها آية النبوة ، ومنها كرامة الولاية ، ومنها خارقة السحر والكهانة ، ولكلٍّ من الأدلة من خارج ما يميز ، فليست الخارقة في نفسها دليلا ، بل لها من الاحتمال ما يتعدد ، فلا يحكم بالنوع الأخص ، إلا أن يكون ثم قرينة من حال صاحبها ، فهو صاحب دعوى لا تنفك تطلب من الدليل ما يرجح ، فليس الترجيح بعين الدعوى ، وهي الخارقة ، بل لا تَنْفَكُّ تطلب دليلا أخص يبين عن حال صاحبها ، إن بالخير أو بالشر ، وهو ما استوجب دليلا قد اصْطُلِحَ في بحثِ النبوات أنه المسلك الشخصي ، مسلك صاحب الدعوى ، وهو ما أبان عنه الشافعي ، رحمه الله ، بقوله : "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة" ، فَثَمَّ من دعوى الولاية ما عظم ، وأعظم منها دعوى النبوة ، فَلَيْسَ تحتمل إلا الصدق المحض أو نقيضه في الخارج ، فليس ثَمَّ واسطة بينهما ، فدعوى النبوة إما أن يدعيها أصدق صادق ، ويكون من الدليل المؤيد شاهد صدق ، ومنه الآية ، وهي ما خرق العادة من كل وجه ، فَلَيْسَ خَرْقُهَا للعادة كخرق الكرامة في حق الولي ، أو الخارقة المجردة في حق الكذاب الدَّعِيِّ ، وآية النبوة ، من وجه آخر ، دليل من جملة أدلة ، فليست الدليل الأوحد ، بل وليست الدليل الأول ، إذ ثم منها ما يُتَحَدَّى به ، وثم آخر يكون من باب العناية ، فَلَمْ يَتَحَدَّ به النبي ، وإنما حصل له رعاية ، كما آي الكليم ، عليه السلام ، فمنها ما تحدى به فرعون ، فـ : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) ، فذلك علم يقين يجزم ، وإن لم يفد فرعون إيمانا يجزئ في حصول اسم ديني ينفع إذ لم يشفع بِتَالٍ من الإقرار والإذعان والانقياد والاستسلام ، ومنها ما لم يَتَحَدَّ به الكليم ، وإنما وقع له رعاية وعناية ، كما ضَرْبُ الحجرِ بالعصا وَانْفِجَارُ الْأَعْيُنِ منه ، وَإِنْزَالُ المن والسلوى ، وكما ثَبَتَ من سيرة النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فمن آيه التي تخرق العادة ما تَحَدَّى به ، كما انشقاق القمر ، وهو ما ظَهَرَ في الخارج شهادة أَدْرَكَهَا الخصم بالحس ، فقامت الحجة عليه من هذا الوجه ، ومنها ما لم يَتَحَدَّ به مبدأ الأمر ، كما الإسراء والمعراج ، فلم يكن الإخبار إلا بعد أن سُئِلَ ، وهو من الآي التي يَصْدُقُ فيها أنها من الغيب الذي لم يشاهده الخصم كما انشقاق القمر ، وإن أقام صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدليل عليه ، فَوَصَفَ بَيْتَ المقدس ، ولم يَزُرْهُ قَبْلًا ، فَقَصَّ من وصفه ما دل يقينا على صدقه ، وكان من أصل الدعوى مبدأ النظر ، ما هو جائز ، فالانتقال من مكان إلى آخر ، ولو بَعُدَ ، ذلك مما جاز مبدأ النظر ، وليس التجويز المحض ، كما تقدم في مواضع ، ليس يجزئ في حصول تال أخص من الوجود الذي يثبت في الخارج ، بل لا بد من دليل يُوجِب وَيُوجِدُ ، فكان من ذلك ما ثَبَتَ من الخبر ، وما قَصَّهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من وصف البيت المقدس ، وكان منه ألطف ، وهو ما استدل به الصدِّيق المسدَّد ، رضي الله عنه ، فـ : "لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ" ، فذلك من قياس الأولى ، فالأولى أن يشتغل الناظر بتحرير أدلة النبوة التي تخبر بالإسراء والمعراج ، فَإِذَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ الدعوى في نفس الأمر بما كان من مسلك النوع الذي ينظر في عين الدعوى ، ومسلك الشخص الذي يعالج أحوال صاحب الدعوى ، فليست الخارقة ، كما تقدم ، بدليل مطلق ، بل قد وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِحَالِ صاحبها ، فإذا ثَبَتَتْ صحة الدعوى في نفس الأمر ، فما يكون بعدا من أخبارها تَبَعٌ لها في التصديق ، فلا يتوقف الناظر ، بل هو يُقَلِّدُ ، وليس ذلك بالتقليد الذي يذم ، فإن صاحبه قد اجتهد أولا في إثبات الأصل ، فَكُفِيَ بَعْدًا مؤنة الفروع من الأخبار والأحكام ، فكان من تقليد النبوات التقليد المطلق ، كان من ذلك عينُ اجتهادٍ يحمد ، فقد اجتهد أن يَتَحَرَّى مقلَّده ، فاختار من يقطع بصحة ما يخبر به ويحكم في نفس الأمر ، فلا يحتمل الخطأ ، بل خبره الصدق المحض ، وحكمه العدل المحض ، فمن اجتهد في أصل الدعوى فقد كُفِيَ مؤنة الفروع ، فكان من عَمَلِ العقلِ أول قد اجتهد في تحري المسالك : النوعية والشخصية حتى قامتِ الْبَيِّنَةُ التي تشهد لدعوى النبوة أنها صحيحة في نفس الأمر ، فلم يطلب بَعْدُ لخبرها وحكمها دليلا أخص في كل موضع ، بل خبرها وحكمها هو عين الدليل الذي به يستدل ، والعقل ، مع ذلك ، لا ينفك يدل على الآية النَّبَوِيَّةِ ، ولو دليل التجويز المحض دون إثبات في نفس الأمر ، فالنبوات قد جاءت بما يحار العقل في حقيقته في الخارج لا بما يحيله من المحال الممتنع لذاته ، فَلَمْ تَأْتِ النُّبُوَّةُ بِشَيْءٍ من ذلك ، فَتُحَمِّلَ المكلَّف ما لا يطيق أن يؤمن بالمحال الذاتي الذي يمتنع في نفس الأمر ، فغايته أن يُفْرَضَ الفرضَ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم أن يُلْزَمَ بِلَازِمِ قوله المحال ، فلم تأت النبوات بشيء من ذلك ، فتخبر بالمحال الممتنع لذاته ، وإنما أخبرت بما جاز أولا في العقل ، كما قَطْعُ مسافاتٍ طويلة في أوقات يسيرة ، وشاهد الحس في الجيل المتأخر بذا يشهد ، فقد حصل الإنسان منه بعض يصدق ، وقد كان في القديم من المحار الذي لا يدرك العقل حقيقة منه في الخارج تَصْدُقُ ، فكان من الحكمة ألا يُبَادِرَ ، كما بَادَرَ أبو جهل ، فيكذب ويشنع ، وَيُصَيِّرَ ذلك دليلا يُنَفِّرُ ، بل قد كان منه ما يفتن ، فَفُتِنَ من ضعف إيمانه وارتد ، ومن رَسَخَ إيمانه ونصح عقله كما الصديق فقد باشر القياس الصريح ، قياس الأولى آنف الذكر ، فقد اشتغل مبدأ النظر أَنْ حَرَّرَ أدلة الدعوى ، فكان من مسلك النوع والشخص ما قَطَعَ ، فإن كان قال فقد صدق ، إذ ثم من الدليل الأول ما قطع بالصدق يقينا يجزم ، فهو المقلَّد الذي يُؤْمَنُ تَقْلِيدُهُ ، تَقْلِيدَ الوحي المعصوم ، فَفِي تقليده في الخبر والحكم عصمة من الخطإ ، وكذا كان المستند من العقل ، على التفصيل آنف الذكر ، فذلك من الجائز مبدأ النظر ، فالعقل لا يحيله ، وهو ، مع ذلك ، لا يثبته ، وإنما يجوزه مبدأ الأمر التجويزَ المحض ، فلا ينفك يطلب المرجِّح المثبت من خارج ، فكان من ذلك دليل الوحي الناصح ، دليل : "لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ" ، كان منه ما رَجَّحَ في الجائز المحتمل فَصَيَّرَهُ الواجب ، وإن لِغَيْرٍ بما احتف به من قرينة الترجيح المعتبرة ، الخبر الصادق ، فذلك ما به الإثبات لما غاب فجاوز مدارك الحس ، وإن لم يجاوز أولا من حكم العقل ، ولو التجويز المحض ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فدعوى الإسراء والمعراج من الجائز مبدأ النظر ، فلا تنفك تطلب الدليل المرجِّح الذي يثبتها في نفس الأمر ، فكان من خبر النبوة ما قد رَجَّحَ ، فَأَثْبَتَهَا صحيحةً صادقةً في نفس الأمر ، إذ النبوة وهي الدعوى الأولى ، مما تناوله دليل المسلك آنف الذكر ، مسلك النوع والشخص ، فكان النظر المحقق في نَوْعِ الدعوى ، وهي ما أتت به من الأخبار والأحكام ، وفي شخص صاحبها ، وما عهد من أخلاقه ، فـ : (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ، فما عهدوا إلا الصدق والأمانة ، حتى صار ذلك لقبا لصاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل البعثة ، فحصل من ذلك ما أَجْزَأَ بَعْدًا فِي التصديقِ ، ولو بِرَسْمِ التقليد ، فهو المحمود حمدا مطلقا ، إذ يُقَلِّدُ صاحبه من عُصِمَ ، وهو المقلِّد المجتهد ! ، إن صح الوصف ، فظاهره التناقض ، وهو ما يَزُولُ إذ الجهة فِيهِ قَدِ انْفَكَّتْ ، فهو المجتهد قَبْلًا أَنْ نَظَرَ في أدلة النبوات ، نَوْعًا وَشَخْصًا ، حتى حصل له من اليقين ما يجزم ، فصارت الحكمةُ ، كلُّ الحكمةِ ، أَنْ يُقَلِّدَهَا بَعْدًا التقليد المطلق ، فَيُصَدِّقَ بخبرها وَيَمْتَثِلَ حكمها ، وهو ما صدقته الشهادة بَعْدًا ، فكان من الجيل المتأخر اكْتِشَافُ آلة بها تُقْطَعُ المسافات الطويلة في أوقات قصيرة ، وبها يُعْرَجُ إلى السماء ، ولو مطلقَ العروج ، فكان من ذلك مثال يُبِينُ عن الجواز ، وليس يَعْدِلُ في الوصف ، فالمعراج الرسالي بداهة يجاوز الحادث في الجيل المتأخر ، وإنما الغرض حكاية الجواز في نفس الأمر ، فكان من ذلك جواز أول في العقل فليس يمتنع ، بل وآخر في الحس بَعْدًا قد حدث ، وقد كان المغيَّب زمن المعراج الأول ، فلم يكن لمن جهل أن يحتج بجهله ، فما غاب عن حسه قد وُجِدَ ، وَوُجِدَ بَعْدًا من المثال في الجيل المتأخر ، ما يشاطره الجنس المطلق ، جنسَ العروجِ ، وإن اختلفت الآحاد في الخارج ، فالمعراج الرسالي قد تَفَرَّدَ بداهة ، وإن حصل الاشتراك في الجنس الدلالي الذي يجرده الذهن ، جنس العروج المطلق ، فَلَيْسَ يَلْزَمُ منه آخر في الحقائق في الخارج ، بل لكلِّ عروجٍ في الخارج حَقِيقَةٌ تُقَيِّدُ ، وهو ما به التفاوت بين الآحاد يثبت ، فمنها ما يدرك الحس ، ومنها ما غاب إذ جاوزه ، ومنها ما كان غَيْبًا لدى الجيل المتقدم ، ثم صار بعدا من الشهادة بما كان من آلة تعرج إلى السماء ، فلم يكن احتجاج الأول أَنْ غَابَ ذلك عنه فلم يدركه بالحس ، لم يكن بحجة على تَالٍ قد شَهِدَ ما لم يشهد ، فمن علم فهو حجة على من لم يعلم ، وعدم وجدان المتقدِّم ذلك بالحس ليس بدليل على عدمه في نفس الأمر ، بل قد يكون منه المغيَّب ، وهو ما تَفَاوَتَ ، فمنه النسبي ، كما العروج المقيد بما كان من آلة عروج تحدث ، ومنه المطلق ، كما العروج الرسالي ، فذلك من الغيب المطلق الذي لم يدركه أحد بالحس إلا من عُرِجَ به إلى السماء ، وهو صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فشهد بما كشف له من حجب الغيب آيةَ نبوةٍ تَنْصَحُ ، وصار خبره في نفسه هو دليل الدعوى ، إذ ثم من صدق دعواه ما ثَبَتَ أولا ، كما تقدم من مسلك النوع والشخص في باب النبوات ، وتلك الآية المغيبة التي يحار العقل في درك ماهيتها ، وإن لم يُحِلْهَا في نفس الأمر ، فهي من الجائز الذي يطلب المرجِّح من خارج ، فليس عدم العلم بها دليلا على عدمها في نفس الأمر ، بل هي ابتداء من الجائز الذي يحتمل ، وذلك ما لا يخرجها عن حَدِّ العدم ، لا عدم المحال الذاتي الذي يمتنع ، وإنما عدم الجائز الذي يحتمل بعدا الإيجاد بما يكون من سبب من خارج يرجح ، فهو يوجِب ويوجِد ، وثم آخر من الدليل الخبري الذي يثبت ، فهو يخبر بالمحار لا بالمحال ، على التفصيل آنف الذكر ، فلم يكن عجز الحس أن يدرك المغيَّب ، لم يكن ذلك بدليل له يحيل ويمنع ، بل هو الجائز الذي يطلب دليلا أخص من خارج ، إن دليلا يُوقِعُهُ بما كان من سبب يتسلسل ، وهو ما يجاوز حد المشهود إلى المغيب ، حتى ينتهي ضرورة إلى سبب أول لا سبب له يسبق حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، أو آخر يثبته بما كان من خبر الصادق الذي دَلَّ الدليل يقينا على صدقه ، فكان من حسن الاستدلال أن يشتغل الناظر لدى الابتداء بمعالجة أدلة النبوة الأعم ، لا أن يشتغل بالأدلة الأخص ، وإن كانت مما يَنْفَعُ لا سيما في الأحكام معقولة المعنى التي يحرر العقل مناطها الأخص ، فَيُلْحِقُ بأصولها فروعًا تشاطرها المعنى ، وهو العلة التي يدور معها الحكم وجودا وعدما ، فالأولى مبدأ النظر : الاشتغالُ بالأدلة الكلية التي تُثْبِتُ الأصل ، وهو مما في الجدل يجدي نفعا ، أَيَّ نَفْعٍ ، فلا يقع المجادل عن النبوات في الفخ ، أن يشتغل بِرَدِّ الشبهات الجزئية التي تدق ، فهي مما يُجْهِدُهُ به الخصم ، فيصرفه عما هو أولى أن يعالج أصل الخلاف ، الخلاف في النبوة ، جوازِها مبدأَ النظرِ ، ثم الأدلة التي توجب منها ما صدق ، فذلك الاستدلال الكلي الذي يغني بعدا عن آخر هو الجزئي ، فيجزئ فيه المقال الصديقي : "لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ" ، فإن كانت النبوات قد أخبرت بذلك ، فهو الصدق ، وإن كانت حكمت بذلك فهو العدل ، فَلَهَا من المرجع المحكم ما جاوز العقل والحس المحدث ، وإن لم تُوقِعْهُمَا في الحرج فَتُكَلِّفْهُمَا الإيمان بمحال ذاتي يمتنع ، بل غاية ما به تخبر وتحكم ، أن يكون من الجائز مبدأ النظر ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وذلك ، كما تقدم ، دليل الوحي النازل الذي يفصل في الخصومات كافة ، الخبرية والإنشائية ، برسم : "لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ" ، فذلك مدلول النص المصحح والقياس المصرح الذي يوجب الرد لمرجع من خارج يجاوز الحس والعقل المحدَث ، إن المفرد أو المجموع ، فالعقل المجموع وإن جاوز العقل المفرد ، فصدق فيه أنه مرجع من خارج يحكم ، إلا أنه ، لو تدبر الناظر ، لا يجاوز هذا الوجود المحدَث ، فلا يسلم من الخطإ والفساد بما يَطْرَأُ من العوارضِ ، أهواءً وحظوظًا تَتَدَافَعُ ، ولكلِّ أمَّةٍ من العقل المجموع ما عنه تصدر ، وهي به تدافع غيرا ، وكلٌّ يَزْعُمُ لنفسه الصحةَ المطلقة ، ويعتقد في المقابل خطأَ غيرِه ، فاستوت الدعاوى في الحد ، وتعارضت في الوجه ، فلا يحسم الخصومة بَيْنَهَا إلا مرجع من خارج يجاوزها ، وإلا فلكلٍّ عقل ، إن الفرد أو الجمع ، وذلك ما نهجت الحداثة المتأخرة ، فَصَارَ الفرد هو الأصل ، وهو ما اصطلح بعضٌ أنه الانغماس الذاتي الذي لا يرى صاحبه إلا ذاته المشخصة أو المعتبرة ، فَثَمَّ لَذَّاتُ الحسِّ التي تَتَنَاوَلُ الذات المشخصة ، وثم لَذَّاتُ المعنى التي تَتَنَاوَلُ الذات المعتبرة ، فالفرد هو الأصل الذي لأجله تكون الفكرة والحركة ، فلا مرجع من خارج يجاوزه ، وذلك الطغيان الذي يجاوز الحد ، أَنْ يَصِيرَ المخلوق المحدث ، والفقر فيه وصف ذات لا يعلل ، أَنْ يَصِيرَ هو مرجع الفكرة والشرعة ، وهو لا ينفك يتأول من ذلك ما يواطئ الهوى والحظ ، إذ يطلب منه ما يسد فاقته ، ويكمل نقصه ، وذلك ، بداهة ، مما لا تؤمن حكومته في فكرة أو حركة ، إذ لا يسلم الناظر من تهمة التأويل الذي يُسَوِّغُ ما به حصول حاجته ، ولو خالف عن المحكم من الشرائع ، فَيَتَنَاوَلُ كليَّاتٍ ظاهرها حق ، وَيُضَمِّنُهَا من باطن التأويل ما هو باطل محض ، فَثَمَّ من خاصة الطغيان ما جاوز الحد بما حَصَّلَ الإنسان من أسباب المعنى والحس ، وهي ، كما تقدم في موضع ، شاهدة بِضِدٍّ ، إذ تحكي من الافتقار الذاتي ما لا يُعَلَّلُ ، وهو ما يُبْطِلُ دعوى الطغيان والتأله ، فكان من ذلك ما عَمَّتْ به البلوى في جيلِ الحداثةِ المتأخر ، وله من الأصل ما به اخْتُصَّ قَبِيلٌ من الخلق قد وجد من عسف الأحبار والكهنة أن بَدَّلُوا الدين وَحَرَّفُوا ، فَأَوْقَعُوا العقل في الحرج ، أي حرج ! ، إذ يُعْرَضُ عليه المحال الذاتي الذي يمتنع ، كما مقال التثليث آنف الذكر ، وما كان من حلول واتحاد ، وهو ما جاوز به الأحبار والكهنة الحسَّ إلى المعنى ، فَثَمَّ روحُ تشريعٍ قد حلت في الكاهن الذي صار إلها يطغى بما حصل له من سبب تأويل يبطن ، وبه استجاز الزيادة والنقص ، فله من وصف الإثبات والنفي ، الإباحة والحظر ، له من ذلك ما أُطْلِقُ ، فما عقده في الأرض فَلَيْسَ في السماء يُحَلُّ ، وما حَلَّهُ في الأرض فَلَيْسَ في السماء يُعْقَدُ ، إذ له من وصف المشرِّع ما أطلق ، طغيانا في الوصف ، وإنما الأمر عنده من الأرض لا من السماء ، وإن انْتَحَلَ النبوات والأمر فيها من هَا هُنَا ، من السماء إلى الأرض ، فكان من ذلك ، لو تدبر الناظر ، مِثَالُ حَدَاثَةٍ يَنْفِي المرجعَ المجاوِزَ من خارج ، وَإِنِ انْتَسَبَ ، ولو بأصل الرسالة ، إلى الديانة ، فَقَدْ أَتَى بِضِدٍّ لها من مادة حداثة أولى ، أن صار الإنسان في الأرض هو المصدر والمرجع ، فلا مرجع يجاوزه من خارج ، فتلك دعوى الحبر والكاهن الذي اتخذه الأتباع رَبًّا وَإِلَهًا ، وإن كان المحدَث في الأرض ، فهو يطلب أَوَّلًا يَخْلُقُ وَيُدَبِّرُ ، وذلك مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، له من الوجود : وجود أول يَثْبْتُ ، ووصفه الكمال المطلق ، وهو الذَّاتِيُّ الذي لا يُعَلَّلُ ، الغائب الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن دل عليه العقل المصرَّح بَادِيَ النظر ، فتلك دلالة الضرورة حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فالإنسان عامة ، محدَث بعد عدم ، وإن كان ثم وُجُودٌ أول ، فهو وجود في علم التقدير المحيط ، وهو وصف الرب الأول ، جل وعلا ، فليس يَثْبُتُ بِهِ وجودٌ لمخلوق يَقْدُمُ ، بل وجود المخلوق محدَث بعد أن لم يكن ، وإن كان ثم تقدير أول في الأزل ، وحدوث الإنسان بعد عدم ، مما يحكي ضرورة أولا هو السبب ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي ضرورة إلى الخالق الأول ، فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فحصل من ذلك قسمة في الخارج ذات شطرين ، وبها حسم مادة الطغيان المجاوِز ، فَثَمَّ الجائز من المخلوق المحدَث في حد ، وثم من الحس ما يعالج حقيقته في الخارج ، وما ثَبَتَ من آيٍ محكَم في الخلق والتدبير ، فكان من ذلك الإتقان والإحكام الذي يطلب أولا يُتْقِنُ وَيُحْكِمُ ، فيكون من ذلك التسلسل آنف الذكر الذي يَنْتَهِي ضرورةً إلى الخالق الأول ، جل وعلا ، فحصل من فَقْرِ الإنسان عامة إلى المقدِّر الموجِد المتقِن المدبِّر ، حصل من ذلك ما يبطل ضرورة رَدَّ الأمر إلى مخلوق محدَث في الأرض ، إذ وصف ذاته الفقر ، ولو إلى الموجِد من العدم ، وذلك أصل به يُحَاجُّ قَبِيلُ الإنسان عامة ، والطاغوت الذي تَأَلَّهَ خَاصَّةً فَصَيَّرَ نَفْسَهُ المرجع المجاوز ، كما الحبر والكاهن الذي تَحَكَّمَ في مسائل التشريع بما ادَّعَى من حلولٍ واتِّحَادٍ ، ولو بالمعنى لا بالحس ، فَثَمَّ من روح التشريع ما بِنَاسُوتِهِ قَدْ حَلَّ ، وَتِلْكَ دعوى من جنس الدعوى التي غَلَتْ في المسيح ، عليه السلام ، أَنْ حَلَّ اللاهوت الأعلى في ناسوته الأدنى ، فالإنسان عامة ، والحبر والكاهن خاصة ، لهما من وصف الفقرِ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وَإِنْ في الإيجاد لدى المبدإ بعد تقدير هو الأول ، مع فَقْرٍ تَالٍ إلى الأسباب ، ولو التي بِهَا حفظ الأعيان في الخارج ، فَلَهُمَا من ذلك الوصف ، فَقْرُ الذَّاتِ الذي لا يُعَلَّلُ ، لهما منه ما يَنْفِي دعوى الطغيان والتأله ، أَنْ يُصَيِّرَ الإنسانُ ذاتَه هي المرجع ، إذ حَلَّتْ فيه روح التشريع ، وهي وصف من أوصاف الأول ، فَحَلَّتْ فِيهِ الكلمة أو أُقْنُومُ العلمِ ، إِنِ الأخصَّ ، كما دعوى المثلِّثة في المسيح ، عليه السلام ، أنه الأقنوم الثالث ، أقنوم الكلمة والعلم ، أو الأعم ، كما ادعى الأحبار والرهبان فَصَيَّرُوا أنفسهم الأرباب الَّتِي تُحِلُّ وَتُحَرِّمُ ، دون رجوع إلى مرجع من خارج يجاوز ، فقد حَلَّ فيهم المرجع من أعلى ، فصار لهم من وصف التشريع ما يُطْلَقُ ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ! ، فَصَيَّرَ الإنسانُ ذاتَه هي المرجع ، إذ حلت فيه روح التشريع ، وهي وصف من أوصاف الأول ، فَحَلَّتْ فيه الكلمة أو أقنوم العلم ، أو قد حَلَّ فيه الإله وهو ما كان أولا من غلو آخر لدى فئام من المثلثة ، فقد حل اللاهوت الأعلى في ناسوت المسيح الأدنى ، مع ما تَقَدَّمَ من مخالفة ذلك للنقل المصحَّح والعقل المصرَّح ، فكل أولئك ، وَإِنِ انْتَسَبَ إلى الرسالة ، فقد مَهَّدَ بعدا لما كان من الحداثة ، أن يصير الإنسان هو المرجع الذي يحكم حكومة الإطلاق فلا يخضع لمرجع مجاوز من خارج ، فقد حل فيه المطلق الأعلى .
والله أعلى وأعلم .