عندما كنت أمر على الأحاديث النبوية التي تنفّر عن البناء كنت أستغربها...لكن عندما فكرت في قصور الأغنياء والأمراء والملوك... بل والمساجد الفارهة ...فهمت مغزى تلك الأحاديث...ولعل أحداً لم يقف عند تلك الأحاديث، وهاكم بعضها: جاء عند الشيخان: عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ، نَعُودُهُ، وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ، وَلَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ» ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ المُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ، إِلَّا فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ». وعن ابن عمر عند البخاري:قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ....» . وعن أنس عند الترمذي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ البِنَاءَ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ). وعند أبي داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَذِهِ لِفُلَانٍ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي النَّاسِ أَعْرَضَ عَنْهُ، صَنَعَ ذَلِكَ مِرَارًا، حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِيهِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُنْكِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ، قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالْأَرْضِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَهَا، قَالَ: «مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ؟» قَالُوا: شَكَا إِلَيْنَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ عَنْهُ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَهَدَمَهَا، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا لَا، إِلَّا مَا لَا» يَعْنِي مَا لَا بُدَّ مِنْهُ
وللمرحوم الشيخ الغزالي تأويلاً جيداً لهذه الروايات، يقول رحمه الله: (ويظهر أن كثيرا من الناس جعل من المباني إعلانا عن العظمة، واستطالة على الآخرين. بدل أن يجعلها مواطن استجمام وتهيؤ للعمل في أرجاء الحياة ويظهر ذلك في قول الله لثمود: «واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتوا الجبال بيوتا فاذكروا آلاء اله ولا تعثوا في الأرض مفسدين»