استمع أحمد باشا الجزار لرئيس الوفد الفرنسي حتى أكمل كلامه. وبعد صمت قصير قال له:
[frame="8 80"]"لم تقم الدولة العليا العثمانية بتعييني وزيراً وقائداً لكي أقوم بتسليم هذه المدينة إليكم... إنني أحمد باشا الجزار لن أسلم لكم شبراً من هذه المدينة حتى أبلغ مرتبة الشهادة". »[/frame]
كان هذا جواباً حاسماً لا يتحمل المزيد من النقاش، ولا أي مناورة من مناورات المفاوضات، لذا رجع الوفد الفرنسي دون الوصول إلى اتفاق.
ما إن نقل الوفد جواب القائد العثماني إلى نابليون حتى جن جنونه، وبدأ يفكر في وضع خطة جديدة... خطة تؤمِّن كسر مقاومة الحامية العثمانية، فأمر بأن يتم وضع عشرات بل المئات من المشاعل ليلاً على مقربة من أسوار المدينة لكي يستمر قصف الأسوار ليلاً ونهاراً دون توقف، لكي لا يعطي فرصة راحة للمدافعين، ولكي يدك هذه الأسوار دكاً ويفتح فيها الثغرات والفجوات. وتم البدء بتنفيذ الخطة الجديدة... وبدأت المدافع تهدر ليلاً ونهاراً بقصف مستمر لا ينقطع. ونجح القصف الشديد والمستمر في هدم بعض أجزاء من سور المدينة، وهنا أمر نابليون جنده بالهجوم ودخول المدينة من هذه الأماكن.ومرت الأيام والأسابيع على هذا المنوال... وبدأ اليأس يستولي على الجانب الفرنسي، لأن خسائره كانت تزداد على الدوام حتى كادت تأكل نصف الجنود.[frame="4 80"] وأخيراً وبعد 64 يوماً من الحصار الشديد والقتال الدامي قرر نابليون في 21 مايو عام 1799م فك الحصار، وانسحب وهو يلملم جراح جيشه، ويجر أذيال الفشل والخيبة، ويعلن بانسحابه أنه هُزم من قبل قائد عثماني هرم في السبعين من عمره... كانت هذه هي المعركة البرية الوحيدة التي خسرها نابليون حتى ذلك اليوم.[/frame]
دق نفير الهجوم في الجانب الفرنسي، واندفع الجنود الفرنسيون يريدون اقتحام الأسوار من هذه الفجوات والأقسام المتهدمة، ولكنهم قوبلوا بحراب وسيوف ورصاص الحامية العثمانية التي كانت تنتظر مثل هذا الهجوم، والتحموا مع الغزاة وجهاً لوجه، وعلى رأسهم قائدهم أحمد باشا الجزار. وأسفر الهجوم عن تراجع المهاجمين بعد أن تكبدوا خسائر فادحة. وتكرر الهجوم في الأيام التي تلت يوم الهجوم الأول، ولكن النتيجة لم تتغير، ففي كل هجوم كان الفرنسيون يتكبدون خسائر كبيرة في الأرواح.
أحمد باشا الجزّار في بيروت
على أثر الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر وأدّى إلى تغلب محمد بك أبو الذهب على حاكمها السابق علي بك الكبير، أضطر أحمد باشا الجزّار إلى البحث عن ملجأ له خارج نفوذ الحكم الجديد فاختار جبل لبنان حيث كان يسيطر الأمير يوسف الشهابي، وجاء من أخبر الأمير أن ببابه رجلاً بشناقياً قدم البلاد هارباً من مصر حتى لا يقع تحت سلطان حاكمها الجديد محمد بك أبو الذهب، فأنزله الأمير على الرحب والسعة ردحاً من الوقت ثم ما لبث أن تبيّن فيه مؤهلات تجعله جديراً بتحمل المسؤوليات الإدارية، فكلّفه حفظ بيروت لقاء مرتب يقتطع من دخل الجمارك.
ولم يضع الجزّار وقته سدى، وأخذ يتصرف على أساس الاستقلال ببيروت آجلاً أم عاجلاً، بصرف النظر عن موقف سيده السابق الأمير يوسف الذي لم يجد وسيلة إلا الاجتماع في الجزّار في قرية المصيطبة، فظهر الجزّار بإمارات نفسه بكل تؤدة وتلطف بجانب خاطر الأمير وأقنعه (وهو يضمر السوء للإيقاع به)، طالباً من الأمير مهلة أربعين يوماً بأثنائها يقوم عن المدينة فتمسي في قيادة تدبيره دون أن يتعكر كأس صفائه بولايته !.
وهكذا عاد الجزّار من قرية المصيطبة إلى بيروت لينصرف إلى عمارة سورها ودعمه بالأبراج والحصون، وتنظيم أبوابه وحمايتها بالحراس الأشداء من جنود المغاربة والأرناؤوط، وبالغ في جمع كل ما يحتاجه إليه الحصار من مؤونة الغذاء وعدة السلاح، توقعاً منه لمعركة آتية لا ريب فيها مع الأمير يوسف والذين قد يكونون إلى جانبه من الحلفاء.
المواد التي إستعملها الجزّار في بناء السور
إستعمل الجزّار في ترميم السور وتجديده بقايا الأعمدة الضخمة التي تخلفت عن العصور القديمة في ظاهر بيروت وداخلها نتيجة الزلازل المتكررة التي تعرضت لها المدينة في تلك العصور، لا سيما في أواسط القرن السادس للميلاد حينما انقلبت بيروت رأساً على عقب بالزلزلة الكبرى، وذات يوم حاول الأمير يوسف الشهابي دخول مدينته المحبوبة بيروت، صرخ به جندي مغربي من أعلى السور وبيده بندقية:إذا حاولت العودة إلى هنا فالجزّار سيحرقك!.
حصار اللبنانيين لبيروت والدور الذي لعبه سورها
أمام هذا الموقف العدائي الصريح فإن الأمير يوسف الشهابي لم يعد عنده شك في أن الجزّار كشف قناع العداوة الصريحة، وأنه ينوي الاستقلال بالمدينة والحيلولة دون عودتها إلى حظيرة الإمارة اللبنانيّة، وأخذ الجبليون يغيرون على السور ويتخطفون من حوله أهل بيروت الذين يتجاسرون على تجاوزه خارج مدينتهم، فما كان من الجزّار إلا أن قبض على بعض هؤلاء الجبلين وقطع رؤوسهم ثم أمر بخوزقتهم ورفع رؤوسهم المقطوعة في أعالي السور لتكون ردعاً للأمير دون التفكير بأية محاولة لغزو المدينة أو الدخول إليها بالعنف والإكراه، وزاد الجزّار في إصطناع وسائل الإرهاب والزجر فأمر رجاله بأن يعدّوا له تمثالً على شكل الأمير وتعليقه مشنوقاً بحبل دلاه من فوق السور لكي يرى الشهابي مصيره المحتوم إذا حدثته نفسه بالإقتراب من هذا السور.
ولقد أثار عملُ الجزّار الذي إمتزجت به السخرية مع التخويف الأمير يوسف، فجمع هذا ما يزيد على عشرين ألف مقاتل وحاول أن يقتحم بهم السور ويؤدب ذلك الإنفصالي، لكن الجزّار استطاع أن يرد الغارة عن معقله ويلحق الهزيمة النكراء بخصمه الذي لاذ بصديقه ظاهر العمر حاكم منطقة الجليل بفلسطين لكي ينصره بأصدقائه الروس الذين كانوا يرابطون بسفنهم بالقرب من ساحل المدينة في أثناء جولة القرصنة التي كانوا يقومون بها في عرض البحر الأبيض المتوسط.
أقلع الأسطول الروسي الذي كان يتخذ من جزيرة قبرص قاعدة له، توجه إلى سواحل بيروت تلبية لظاهر العمر لنجدة الأمير الشهابي ، ضرب الحصار على بيروت وأطلق خمسين قذيفة هوائيّة إعلاناً بقدومه من أجل نجدة الجبليين ، وفي اليوم التالي بدأت المعركة الحقيقية وأخذت البوارج مراكزها النهائيّة تجاه المدينة على بعد قريب من السور المواجه للبحر وأخذت تواتر إطلاق القذائف اللاهبة والحاطمة سائر النهار، فأصابت قلعة البحر التي كانت تحمي الميناء ودمرتها، وأصابت ما يلي هذه القلعة من السور الذي تعب الجزّار في تحصينه ودعمه بالأبراج، وتداعى السور وتهدم.
رحم الله ذلك القائد العثماني..( احمد باشا الجزار ) رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته...وقبره لا يزال شاهدا عليه وعلى أعماله...والذي يتواجد في ساحة مسجد الجزار ملاصقا له من الجهة الغربية..حيث كان يطلق على هذا المسجد سابقا بمسجد الأنوار
"هذا الموضوع تم تجميعه من عدة دراسات وأبحاث قام بها من سبقونا بالخير وبالفائدة...وجزى الله الجميع خير الجزاء"
عاش الجزار بعد انتصاره الهائل على نابليون خمس سنوات حاكماً مطلقاً لا يكدر صفوه أمر وكانت وفاته عام 1219هـ 1804م فتبارى الشعراء في مدحه مؤرخين ذلك
أبو رشاد