لا يزال أعداءُ الإسلام يعكفون على نصوص الشريعة، بهدف استخراج ما يُمكن استغلاله منها؛ لضرب الإسلام والتشكيك في عدالة أحكامه، مستغلين في ذلك ذيوع الجهل بالشريعة الذي استشرى في الأُمَّة، وهو ما أبرزَ مصطلحَ المستشرقين.
ومن تلك النُّصوص التي اتَّخذها القوم ذريعة لإثارة النَّعرات المجافية للإسلام:
الحديثُ الذي رواه أبو سعيد الخدري؛ حيث قال: "خرج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء، فقال: ((يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن))، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟))، قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟))، قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها))"؛ متفق عليه.
فادَّعى الغرب - زورًا وجَوْرًا - أن الإسلام قد جار على المرأة، ولم يعترفْ بقدراتها العقلية، ولما كان للغرب أذنابٌ في بلاد المسلمين، يروِّجون بجهل أو بسوء نية لأفكار التغريب والعَلمنة والعولمة، انطلقت الحركات النِّسوِيَّة التي خرجت من عباءة التغريب، من خلال قضية تحرير المرأة التي تولى كِبْرَها قاسم أمين وهدى شعراوي وغيرهما منذ عقود طويلة مضت - انطلقت تنادي بحرية المرأة المسلوبة، وصفَّق لها أصحابُ المآرب، وضعفاء النفوس الذين يلتمسون الرقيَّ في الرُّكون إلى الحياة الغربية، واستلهام الرشد الحضاري من ثقافتها.
ولا يتعارض مع ذلك حقيقةٌ أخرى، ألا وهي ما أسهم به المسلمون الطيبون في الترويج - عن غير عمدٍ - لهذه الدَّعوى، فكثير منهم قد فَهِم من ذلك الحديث أنَّ مراد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو تقرير نقص القدرات العقلية للمرأة؛ مما أصَّل لدى المسلمين مفهومًا توارثته الأجيال من أنَّ المرأة فاقدة الأهلية لإبداء الرأي، بل إنَّ بعضهم بالغ في ذلك، وجعل الحق في خلاف ما تقوله المرأة مطلقًا؛ وهو ما أعطى الفرصة نوعًا ما للعَلمانيِّين والمستغربين في أن يطالبوا تصريحًا أو تلويحًا بفتح الطريق أمام المرأة؛ لنيل حريتها عبر تنحية الشريعة عن مناحي الحياة.
ولذا كان لا بُدَّ من وقفات مع هذا الحديث تُبيِّن الخلل المفاهيميَّ، الذي وقع فيه كثير من أهل الإسلام، ذلك أنَّ الكثيرين قد مارسوا تطبيقاتٍ عملية لهذا المفهوم في الواقع منحت فرصة للمغرضين بالتحرُّك عبرها ضد الإسلام.
أولاً: ما المناسبة التي قيل فيها هذا الحديث النبوي الشريف؟
فالإجابة تظهر من خلال كلمات أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "خرج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أضحى أو فطر إلى المصلَّى"، فالمناسبة إذًا كانت في العيد، فهل يعمد النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مثل هذا اليوم إلى أن يغضَّ من شأن النساء في هذه المناسبة البهيجة؟
ثانيًا: ومن ناحية صياغة الحديث، فليست صيغة تقرير قاعدة عامَّة أو حكم عام، وإنَّما هي أقرب إلى التعبير عن تعجُّب رسول الله من التناقض القائم في ظاهرة تغلُّب النساء - وفيهن ضعف - على الرِّجال ذوي الحزم، ونحن نتساءل: هل تَحمل الصياغة معنى من معاني الملاطفة العامَّة للنساء خلالَ العِظَة النبوية؟
إنَّ كلمة "ناقصات عقل ودين" إنَّما جاءت مرة واحدة، وفي مجال إثارة الانتباه والتمهيد اللطيف لعظة خاصة بالنساء، ولم تجئ قطُّ مستقلة بصيغة تقريرية، سواء أمام النساء أم أمام الرجال؛ [المرأة في موكب الدعوة، مصطفى الطحان، ص(12)، نقلاً عن تحرير المرأة في عصر الرسالة].
ثالثًا: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ناقصات عقل ودين)) حدَّد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تفسيره بأمر محدد، وهو ما يعتريها من تركِ الصيام والصلاة في الحيض والنفاس، فهذا نقصٌ جُزئيٌّ مَحصور في بعض العبادات، وليس على الدَّوام، فليس هذا قدحًا فيها أو منقصة؛ يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: "ولكن هذا النقص ليست مُؤاخَذةً عليه، وإنَّما هو نقص حاصلٌ بشرع الله - عزَّ وجلَّ - وهو الذي شرعه - سبحانه وتعالى - رفقًا بها وتيسيرًا عليها؛ لأنَّها إذا صامت مع وجود الحيض والنفاس أضرها ذلك".
إلى أن قال - رحمه الله -: "ولا يلزم من هذا أن يكون نقص عقلها في كل شيء، ونقص دينها في كل شيء، وإنَّما بيَّن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ نقصان دينها من جهة ما يحصل لها من ترك الصلاة والصوم في حال الحيض والنفاس.
ولا يلزم من هذا أن تكون أيضًا دون الرجال في كل شيء، وأنَّ الرجل أفضل منها في كل شيء، نعم جنس الرجال أفضلُ من جنس النساء في الجملة... لكن قد تفوقُه في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم من امرأة فاقت كثيرًا من الرجال في عقلها ودينها وضبطها، وقد تكثُر منها الأعمال الصالحات، فتربو على كثير من الرجال في عملها الصالح، وفي تقواها لله - عزَّ وجلَّ - وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية ببعض الأمور، فتضبط ضبطًا كثيرًا أكثر من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تُعنى بها وتَجتهد في حفظها وضبطها"؛ [مجلة البحوث الإسلامية، (29/100 - 102)].
رابعًا: باستقراء التاريخ وملاحظة الواقع يستبعد احتمال فهم نقصان العقل على أنَّه نقص فطري في القدرات العقلية والإمكانات الذهنية.