واشتقاق الوَثَن من ( الواو ، والثاء ، والنون ) ، وهو كلمةٌ واحدة ، تدور بجميع تقاليبها على الزيادة والكثرة ، ويلزمها الفرقة من اختلاف الكلمة ، فيلزمها حينئذ الرخاوة ، فيأتي العجز . وأصلها من قولهم : وَثَنَ بالمكان . أي : أقام به وثبت ، فهو وَاثِنٌ . أي : مقيم ثابت . وأوْثَنَ فلان الحمل : كثَّره . وأوثَنْتُ له العطاء : أعطيته عطاء جزيلاً . واسْتَوْثَنَ المال : كثُر . واسْتَوثَنَ من المال : استكثَر منه . واستَوْثَنَ الشيءُ . أي : قوي . واسْتَوْثَنَت الإبل : نشأت أولادها معها . واسْتَوْثَنَ النخل : صار فرقتين كبارًا ، وصغارًا .
ويُجْمَع الوَثَنُ أيضًا على : وُثُنٌ ، ووُثْنٌ ، بسكون الثاء وضمها ، وكذلك يُجْمَع على : أُثُنٌ ، بإبدال الهمزة من الواو . وقول الله تعالى :﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾(النساء:117) قرئ :﴿ إِلاَّ أُثُناً﴾ . والمراد بالإِنَاث ، والأُثُنُ : الموات من كل شيء كالحجر والخشب والشجر ، ونحو ذلك مما ليس فيه روح . وقيل : إنما سُمِّيَت الأوثان : إناثًا ؛ لقولهم : اللاَّتُ والعُزَّى ومَنَاةُ ، وأشباهُها . يقال : هذه امرأة أنثى ، إذا مُدِحَتْ بأنها كاملة من النساء ؛ كما يقال : هذا رجل ذَكرٌ ، إذا وُصِفَ بأنه كامل في الرجال .
وقد يقال للأصنام : أوثانًا ، باعتبار أنها معبودة من دون الله جل وعلا ، وأنها أجسام لا تعقل ولا تفهم ؛ كما قال تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام من قوله لقومه :﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ﴾(العنكبوت:17) ؛ وذلك إشارة منه- عليه السلام- إلى أن تلك الأصنام التي كان يعبدها قومه لا تستحق العبادة لكونها أوثانًا لا شرف لها ، ولا حياة فيها .
ومن العرب من جعل الوَثَنَ المنصوبَ صَنَمًا ؛ كالنصارى التي كانت تنصب الصليب ، تجعله كالتمثال ، فتعظمه وتعبده ؛ ولذلك سماه الأعشى وَثَنًا ، فقال :
تطوف العُفاة بأبوابه**كطوْف النصارى ببيت الوَثَنْ
أراد بالوَثَنِ : الصليبُ . وروي عن عدي بن حاتم أنه قال : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي :«أَلْقِ هذا الوَثَنَ عنك » . أراد به الصليب ؛ كما سماه الأعشى وَثَنًا . وقد شبه النبي عليه الصلاة والسلام شارب الخمر بعابد الوَثَن ، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«مدمن الخمر كعابد وثن» .وقد جاء النهي عن تعظيم الوَثَنِ وعبادته بقول النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد» . أي : لا تعظِّموه بالسجود له ، أو نحوه . وفي رواية :«لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي» ، فدل على أن القبر وَثَنٌ ، وليس بصَنَمٍ .. وكذلك المشاهد . أي : مشاهد القبور عند عُبَّادها ، فهذه أوثان ، وليست بأصنام . ومن الأوثان ما ورد ذكره في القرآن في قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾(النجم:19-20) .
أما ( مُنَاةُ ) فكانت منصوبة على ساحل البحر بقديد بين المدينة ومكة ، وكانت العرب جميعًا تعظمها ، وتذبح حولها ، وتسمِّي بها : عبد مناة ، وزيد مناة . وأما ( اللاَّتُ ) فكانت منصوبةً بالطائف ، وهي أحدث من مناة ، وكانت صخرةً مربعةً ، وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك ، وكانوا قد بنوا عليها بناءً ، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ، وبها كانت العرب تسمِّي : زيد اللات ، وتيم اللات . وأما ( العُزَّى ) فكانت بوادٍ من نخلة الشآمية يقال له حراض ، بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة ، فبنوا عليه بيتًا ، وكانوا يسمعون فيه الصوت ، وكانت أعظم الأوثان عند قريش يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبائح . وكانت العرب وقريش تسمِّي : عبد العزى . فهذه أوثان ، وليست بأصنام ؛ لأنها لم تكن تماثيل على هيئة صور معروفة .
ثالثًا- ويتحصل مما تقدم أن الوَثَنَ أعمُّ من الصَّنَمِ ؛ لأن الصَّنَمَ لا يُطلَق إلاَّ على التِّمثال . وأما الوَثَنُ فيُطلَق على التِّمثال وغيره ، مما عُبِد من دون الله تعالى ، على أي شكل كان حيًّا ، أو ميتًا . فيكون كل صَنَمٍ وَثَنًا ، وليس كل وَثَنٍ بصَنَمٍ ، بدليل قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام :﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ﴾(العنكبوت:17) ، فصار الوَثَنُ يشمل الصَّنَمَ ، وغيرَ الصَّنَمِ ، مما عُبِد من دون الله عز وجل ؛ فالقبر وَثَنٌ إذا عُبد .. وكذلك الإنسان والحيوان ، ويدل على ذلك قول الله تعالى :﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾(الحج:30) ، فأمر سبحانه باجتناب الرجس من الأوثان ، وهو عبادتها ، ولم يأمر باجتنابها كأوثان ؛ لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ؛ ألا ترى أنه قد يستعمل الوثن في بناء وغيره ، مما لم يحرم الشرع استعماله ؟ فللوثن جهات : منها : عبادتها ، وهي بعض جهاتها .قال ابن جريج وابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسير الآية السابقة :«اجتنبوا منها العبادة» ؛ فـ( مِنَ ) على هذا التفسير تبعيضية ، وهو أحسن من قول من جعلها لبيان الجنس ، وفسر الآية على أن المعنى :«فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس» .. والله تعالى أعلم !