دقت ساعة الثلث الأخير من الليل، حن الحبيب لحبيبه، فأرسل الله نعاسًا على الزوج، لم يستطع أمامه المقاومة، فغط في سبات عميق... لزمت الهدوء.. سمعت أنفاسه تنتظم.. إنه دليل مؤكد على نومه.. انزوت الزوجة عنه جانبًا واشتد بها الشوق إلى حبيبها.. هرعت لمصلاها.. وكأن روحها ترفرف إلى السماء..
يقول الزوج واصفًا لحالته: في تلك الليلة أحسست برغبة شديدة للنوم على الرغم من الرغبة في إكمال السهرة، إلا أن الله تعالى شاء وغلبني النوم رغمًا عني.. وسبحان الله تعالى ما سبق أن استغرقت في النوم وشعرت براحة إلا في تلك الليلة.. استغرقت في نومي.. تنبهت فجأة.. فتحت عيني.. لم أجد زوجتي بجانبي.. تلفت في أرجاء الغرفة.. لم أجدها.. نهضت أجر خطواتي.. وتشاركني العديد من الاستفهامات: ربما غلبها الحياء وفضلت النوم في مكان آخر.. هكذا خُيّل لي.. فتحت الباب.. سكون مطلق.. ظلام دامس يكسو المكان.. مشيت على أطراف أصابعي خشية استيقاظها.. فجأة.. ها هو وجهها يتلألأ في الظلام.. أوقفني روعة جمالها الذي ليس بجمال الجسد والمظهر.. إنها في مصلاها.. عجبًا منها.. لا تترك القيام حتى في ليلة زواجها! بقيت أرمق كل شيء من بعيد.. اقتربت منها.. ها هي راكعة ساجدة.. تطيل القراءة وتتبعها بركوع ثم سجود طويل.. واقفة أمام ربها.. رافعة يديها.... يا إلهي.. إنه أجمل منظر رأته عيناي.. إنها أجمل من صورتها بثياب زفافها.. جمال أسر عيناي وقلبي.. أحببتها حبًا كاملا ملك عليَّ كل كياني.. لحظات.. رفعت من سجودها ثم أتبعته سلام يمنة ويسرة.. عرفت زوجتي ما يدور في خلدي.. بادلتني بنظرات محبة وهي متلفعة بجلبابها، وهي مبتسمة ومجتهدة ألا تظهر شيئا ما يختلج في صدرها.. وهتفت في أذني وهي تعبث بالسجادة بأطراف أصابعها بيدها الأخرى: أحببت أن لا يشغلني شيء عن حبيبي (تقصد ربها تبارك وتعالى).
عجبت والله من هذا الكلام الذي لامس قلبي.. فلما سمعت ذلك منها لم أستطع والله أن أرفع بصري خجلا وذلة مما أنا فيه..
يواصل زوجها قائلا: على الرغم أنها ما زالت عروسًًا و تبلغ الثلاثة أشهر من زواجها بعد.. ولكن كعادتها، أنسها بين ثنايا الليل وفي غسق الدجى.. كنت في حينها في غاية البعد عن الله أقضي الليالي السهرات والطرب والغناء.. وكانت لي كأحسن زوجة، تعامل لطيف ونفس رقيقة ومشاعر دافئة.. تتفانى في خدمتي ورسم البسمة على شفتي وكأنها تقول لي بلسان حالها: ها أنا أقدم لك ما أستطيعه.. فما قدمت أنت لي؟!
لم تتفوّه بكلمة واحدة على الرغم من معرفتها ذلك.. تستقبلني مرحبة بأجمل عبارات الشوق.. وكأن الحبيب عائد من سفر سنوات وليس فراق ساعات.. أسرتني بحلاوة وطيب كلماتها وهدوء وحسن أخلاقها وتعاملها الطيب وحسن عشرتها.. أحببتها حبًا ملك عليَّ كل كياني وقلبي..
في إحدى الأيام.. عدت في ساعة متأخرة من الليل من إحدى سهراتي العابثة.. تلك الساعات التي ينزل فيها ربنا عز وجل فيقول: "هل من داعٍ فأستجيب له؟" وصلت إلى غرفتي.. لم أجد زوجتي.. خرجت.. أغلقت الباب بهدوء.. تحسست طريقي المظلم متحاشيًا التعثر.. آه..
كأني أسمع همسًا.. صوت يطرق مسامعي ويتردد صداه في عقلي.. أضأت المصباح الخافت.. تابعت بخطواتٍ خافتة.. فجأة.. صوت جميل لتلاوة القرآن الكريم لم أسمع مثله في حياتي! هزته تلاوتها للقرآن وترنمها بآياته.. يبدو أن هذا الصوت جاء من الغرفة المجاورة.. استدرتُ بوجل.. توجه نظري إلى مكان خال مظلم وكأن نورًا ينبعث منه ليرتفع إلى السماء.. تسمّرت نظراتي.. إنها يديها المرفوعتين للسماء.. تسلّلتُ ببطء.. اقتربت كثيرًا.. ها هو نسيم الليل المنعش يصافح وجهها.. حدّقتُ بها.. تلمّست دعاءها.. يا إلهي.. خصتني فيه قبل نفسها.. رفعت حاجتي قبل حاجتها.. تبسمت.. بكيت.. اختلطت مشاعري.. لمحت في عينيها بريقًا.. دققت النظر إليها.. فإذا هي الدموع تتدحرج على وجنتيها كحبات لؤلؤٍ انفلتت من عقدها.. بشهقات متقطعة تطلب من الله تعالى وتدعو لي بصوت عالٍ وقد أخذها الحزن كل مأخذ.. كانت تكرر نداءها لربها.. ثم تعود لبكائها من جديد.. نشيجها وبكاؤها قطّع نياط قلبي.. خفقات قلبي تنبض بشدة.. ارتعشت يداي..
تسمَّرت قدماي.. خنقتني العبرة.. رحماك يا الله.. رحماك.. رحماك..
أين أنا طوال هذه الأيام.. بل الشهور عن هذه الزوجة " الحنون ".. المعطاء.. الصابرة.. تعطيني كل ما أريد في النهار وإذا جن الليل غادرتُ البيت وتركتها وحيدة يعتصر الألم قلبها.. ثم إذا عدت من سهري وفسقي فإذا بها واقفة تدعو الله لي؟!
فشتان والله بين نفس تغالب النوم وتجاهدها لإرضاء الواحد القهار.. وبين نفس تغالب النوم وتجاهدها لمعصية الخالق العلام شتان بين قلوب تخفق بحب الرحمن وتتلذذ بلقائه والوقوف بين يديه.. وبين قلوب تخفق بحب المنكرات وتتلذذ بسماع الملهيات..
شتان بين وجوه مشرقة تجللهم الهيبة والوقار.. وبين وجوه كالحة ونفوس يائسة وصدور ضيقة..
شتان بين قلوب حية تمتلئ بحب الله وتنبض بالإيمان بالله.. وبين قلوب ميتة تمتلئ بعدم الخوف من الرحمن وعدم استشعار عظمته جل جلاله..
يقول الزوج: في تلك اللحظة العصيبة.. لم أملك إلا دمعة سقطت من عيني.. أحنيت رأسي بين ركبتيّ.. أجمع دمعاتي الملتهبة وكأنها غسلت جميع خطاياي.. كأنها أخرجت كل ما في قلبي من الفساد والنفاق.. ترقرقت عيناي بالدموع بعد أن كانت تشكو الجفاف والإعراض.. لا أدري هل هي حزنا وتأثرًا على حالي المشين وحالها أن ابتلاها الله بأمثالي.. أو فرحًا بحالي في هذا الموقف الذي إذا دلّ على شيء فإنما يدل على صلاحها والخير المؤصل في أعماقها.. ربّاه لقد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت! عجبًا لتلك المرأة.. ما دخلت المنزل إلا واستبشرَتْ وفرِحَت تقوم بخدمتي وتعمل على سعادتي ما زلت تحت تأثير سحر كلماتها وعلو أخلاقها.. ولا خرجت من المنزل إلا بكت وحزنت تدعو لي ضارعة إلى ربها.. ووالله وفي تلك اللحظة وكأنها أهدتني كنوز الدنيا أحببتها حباً كاملاً ملك عليَّ كل كياني وقلبي.. كل ضميري.. كل أحاسيسي ومشاعري..
وصدق من قال: جعل الإسلام الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة يكتنزها من دنياه - بعد الإيمان بالله وتقواه - وعدها أحد أسباب السعادة..
لحظات يسيرة.. ودقائق معدودة.. نادى المنادي من جنبات بيوت الله.. حي على الصلاة حي على الفلاح..
انسللتُ – بعد ترددٍ - وصورتها الجميلة لا تزال تضيء لي الطريق..
صليت خلالها الفجر كما لم أصلِ مثل تلك الصلاة في حياتي..
أخذت ظلمات الليل في الانحسار.. ظهرت تباشير الصباح.. أشرقت الشمس شيئا فشيئا.. وأشرقت معها روح ونفس جديدة.
فكان هذا الموقف.. بداية الانطلاقة.. وعاد الزوج إلى رشده وصوابه.. واستغفر الله ورجع إليه تائباً منيباً بفضل الله ثم بفضل هذه " الزوجة الصالحة " التي دعته إلى التوبة والصلاح بفعلها لا بقولها.. وحسن تبعلها له.. حتى امتلكت قلبه وأخذت بلبّه بجميل خلقها ولطف تعاملها.. عندها ندم وشعر بالتقصير تجاه خالقه أولاً ثم تجاه زوجته التي لم تحرمه من عطفها وحنانها لحظة واحدة.. بينما هو حرمها الكثير!!
رجع الزوج رجوعًاً صادقًا إلى الله تعالى وأقبل على طلب العلم وحضر الدروس والمحاضرات.. وقراءة القرآن..
وبعد سنوات بسيطة.. وبتشجيع من تلك الزوجة المباركة.. حيث رؤى النور قد بدأ ينشر أجنحته في صفحة الأفق.. من محاضراته ودعواته ودروسه.. فأصبح من أكبر الدعاة في المدينة النبوية ولله الحمد..
وكان يقول ويردد في محاضراته عندما سُئل عن سبب هدايته: لي كل الفخر أني اهتديت على يد زوجتي ولي كل العز في ذلك..
وصدق رب العزة والجلالة: (...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق:2-3]
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72]
عذرا على الاطاله لكن حبيت انقلها لكم كما قرائتها من احدى المواقع